"كتاب الضفّتَين": مقترحاتٌ عربية لقارئ غربي

"كتاب الضفّتَين": مقترحاتٌ عربية لقارئ غربي

18 اغسطس 2023
مظاهرة طلّاب في جامعة القاهرة من أجل الإفراج عن زملائهم، شباط/فبراير 2015 (Getty)
+ الخط -

يضمّ "كتابُ الضفّتَين" إحدى وثلاثين جُذاذة صيغت باللغة الفرنسية، هدفها التعريف بمجموعة من التآليف الصادرة بالعربية في حقل العلوم الإنسانية بسائر فروعها؛ كالتاريخ والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والنفس والتاريخ والألسنية. وهو يتوجّه إلى القارئ الفرنكفوني ويحيله على أعمال بارزة في العلوم الإنسانية الحديثة المنبثقة من العالم العربي.

حول كلّ كتابٍ نقرأ جُذاذة من ثلاث صفحاتٍ، تقريبًا، نطّلع عبرها على سياق تحريره وأهميته وإضافاته العلمية وتوجهاته المنهجية. فالعمل، في جملته، بمثابة مسح أوّلي أو "أطلس" يهدف إلى التعريف بهذه الآثار، حتى تسعى الجهات المختصّة إلى توفير الاعتمادات المالية لترجمتها.

فقد اتّفق المشرفون على هذا الكتاب، وهُم سعدية أقسوس ونسرين الزهر وفرانك ميرميي، منذ سنة 2021، على ضرورة فسح المجال للباحثين العرب حتى تسيرَ أعمالُهم في الآفاق ويُعدَّل مسار الترجمة الذي ظل محتَكَرًا على الأعمال المكتوبة باللغات الأوروبية. وكان منطلقهم ملاحظة أنّ الأعمال العربية، رغم عمقها ومتانتها، لم تحظَ بالشهرة اللازمة ولم تلق الأصداء الإيجابية لدى القارئ غير العربي، لا لشيءٍ إلّا لأنّها كُتبت باللغة العربية، التي تُمثّل، وهذا جوهر المفارقة، عائقًا فعليًا أمام انتشارها وتأثيرها، وهو ما يُسفر عن تجاهل هذه الأعمال وعدم مرئيتها أصلًا.

محاولة في إنهاء احتكار المعارف من قبل الغربيّين 

كما أشار ثلاثتهم إلى أنّ أغلب الترجمات تُنْجزُ من لغات أوروبا نحو الضاد وليس العكس، وهو ما يخلق اختلالاً في الفرص ويجعل كمية النصوص المترجَمة غير متكافئة. وعبّروا عن هذا الوضع غير المتوازن بصورة مجازية: "السيل الغادي من الجنوب نحو الشمال أضعف بكثير، وهو محدود بالمجال الأدبي". وقد سبق للمستعرب الفرنسي ريتشارد جاكمون ملاحظة هذا الاختلال في دراسة أصدرها سنة 2008.

وأضاف المشرفون على العمل أنّ صعوبة نشر المنجَز العربي في العلوم الإنسانية تُفَسَّر بطريقة عمل قطاع النشر وظروف إنتاج المعرفة في البلدان العربية، وهو ما يجعل العثور على الأعمال القيّمة، خارج المعارض السنوية، صعبًا، لأنّ قطاعات المعرفة غير منظَّمة بشكل مؤسَّساتي مشترَك بين أجهزة هذه البلدان.

من جهة ثانيةٍ، غالبًا ما يُنظَر إلى الإنتاج العربي، في العلوم الإنسانية، بشكل أُحادي منقوص، تُسقَط عليه الأفكار النمطية، إن لم نقل الازدرائية، وهو ما يحجب ثراء التساؤلات التي يطرحها العرب حول مجتمعاتهم وتنوُّع الوجوه الثقافية التي تُلقيها.

الصورة
غلاف الكتاب

ولذلك، اجتهدت الهيئة المشرفة في وضع معايير واضحة لانتقاء الأعمال المرشَّحة للترجمة لتحقيق التوازن بين مختلف فروع العلوم الإنسانية وبين الموضوعات المطروحة. وليس هذا بالأمر الهيّن في ظلّ التشظّي الكبير الذي تشهده هذه العلوم في جامعات الوطن العربي ومراكزه البحثية. كما اشترطت الهيئة معايير قابلية هذه الكتب للترجمة وتميُّزها بأصالة المنظور ومتانة المنهج وجودة التحرير.

وإلى جانب الأبحاث العلمية، ضمّ هذا "الأطلس" بعض النصوص التي تخرج عن الطرق المعبَّدة والأفكار المألوفة رغم أنّ أصحابها لا ينتمون الى الأوساط الجامعية، لكنهم أثّروا في المشهد الثقافي العربي في بلد المؤلِّف أو خارجه. وكلنا يعلم أنّ الكاتب، في عالمنا العربي، لا يصل إلى مرحلة التأثير في محيطه إلّا إذا كان يتحلّى بثقافة عالية وطرحٍ جريء وإنتاج كثيف.

وأمّا المجتمعات التي شملتها هذه الدراسات، فتتوزّع على المشرق والمغرب العربيَّين، بقصد توفير تغطية متكافئة للظواهر الاجتماعية والألسنية التي عرفتها بلدانُنا في تنوّعها، كما في خصوصياتها. ولا تشمل الحقبة التاريخية التي يُحال عليها إلّا الفترة الحديثة؛ حيث عاد الباحثون فقط إلى ما كُتب مؤخَّرًا، أيْ إلى أعمال لم يتجاوز تاريخ صدورها العَقديْن الماضيين، وذلك لمراعاة مبدأ الجدّة والطرافة.

أغلب الترجمات من لغات أوروبا إلى الضادّ وليس العكس

إذ من بين أهداف هذا "الأطلس" أنْ يُعلم القارئَ الفرنسي، أكان من أهل الاختصاص أم لا، بوجود إنتاج عربي في حقول العلوم الإنسانية، لا يقلّ في جودته عمّا يُنتجه الدارسون الغربيون، وأنّ الباحثين، أكانوا عربًا أم أوروبيّين، هُم سواءٌ في امتلاك الوسائل التحليلية التي بها يتصدّون لاستكشاف الظواهر وفهمها، في إشارة إلى أنّ مرحلة احتكار المعارف من قبل الغربيّين ولّت غير مأسوف عليها.

ولا بأس من العودة هنا إلى الاعتراضات التي ساقها علماء الإنسانيات العرب حول زملائهم الغربيّين، ومن أهمّها جهلهم بدقائق اللغة العربية، واعتماد جلّهم على القدر الأدنى منها، وعدم معرفتهم الدقيقة بالخصائص الثقافية العميقة للمجتمعات العربية المدروسة، فهُم غالبًا ما يُسقطون عليها قوالب جافّة مستقاة من دراسة لغاتٍ ومجتمعات أُخرى، الأوروبية والأميركية. ويكتب بعض هؤلاء دون أن يضعوا أقدامهم في بلداننا، مُكتفين بتقارير عامّة وعمومية عن الإسلام وحضاراته وتحوّلاته التي غالبًا ما يحصرونها في "الإرهاب".

ولئن سبق وأن تُرجمت بعض الأعمال ولا سيما الأدبية منها، إلّا أن عددها كان محصورًا ومحدودًا في الزمن، ولعل هذه المحاولة ومثيلاتها أن تكون بدايةً لإخراج الأبحاث العربية من دائرة لسانها ونقلها إلى الفضاءَين الفرنكفوني والإنكليزي وغيرهما من لغات العالم الأُخرى. ولا يعني هذا أنّ الترجمة هي التي ستُظهر فضل هذه الأعمال وإنما هو اعترافٌ بقيمتها، "أن يأتي متأخّرًا خير من ألّا يأتي أبدًا". ولعلّه أن يُحفّز باحثين آخرين، أيًّا كان اختصاصهم، على مزيد من الـتألّق والإجادة.

وأمّا من جهة الشكل التعبيري والأجناسي، فإنّ هذه الأعمال تشمل البحث العلمي، في مجال الإنسانيات، والمحاولة التأمّلية، إلى جانب الاستقصاء الميداني وحتى التحقيق الصحافي، وذلك من أجل إظهار مدى تنوُّع الأعمال التحليلية المغمورة، وإبراز تعقُّد المجتمعات العربية المدروسة، ونفي أن يكفي نموذجٌ تحليلي واحد لتغطية كلّ الظواهر واستكشاف ما فيها من التناقضات والأبعاد، وهو ما يعني بدوره تكسير مقاربات الغرب الأحادية.

والأعمال التي يقترحها الكتاب هي: "موسوعة 'الربيع العربي' في تونس 2010 – 2020" للهادي التيمومي، و"الثقافة الجمهورية في اليمن" لعلي محمّد زيد، و"بين المدّ والجزر: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة" لمي زيادة، و"المدينة العربية والحداثة" لخالد زيادة، و"معنى النكبة" لقسطنطين زريق، و"شاهد على الفقر: أنثروبولوجي يتجوّل بين تفاصيل المجتمع الأردني" لأحمد أبو خليل، و"جدّة أُمّ الرخا والشدّة: تحوّلات الحياة الأسرية بين فترتين" لمجموعة مؤلّفين، و"التراث بين السلطان والتاريخ" لعزيز العظمة، و"بعيون النساء: شؤون اللبنانيات وقضاياهن" لعزّة شرارة بيضون، و"كلمن: من مفردات اللغة العربية إلى مركبات الثقافة" لأحمد بيضون، و"عُمان الإنسان والسلطة: قراءة ممهّدة لفهم المشهد السياسي العُماني المعاصر" لسعيد سلطان الهاشمي، و"الحالة المتقهقرة: طه حسين وأدونيس" لفيصل درّاج، و"نحو إصلاح جنسي في الإسلام" لعبد الصمد الديالمي، و"الهوية والأيديولوجيا المهزومة" لياسين الحافظ، و"سيرة مواطن دمشقي في القرن العشرين" لإبراهيم حقّي، و"المسافة والتحليل: في صياغة أنثروبولوجيا عربية" لعبد الله حمودي، و"تاريخ الأشياء" لنادر كاظم، و"رسائل تونسية" للعفيف الأخضر، و"الدولة والثورة والحداثة: من الاستثناء العربي إلى الخصوصية التونسية" لعادل اللطيفي، و"الشباب في الجزائر: الشغل، التكوين والترفيه" لمجموعة مؤلّفين، و"الولادة في تونس: الطقوس والرموز" لسهام الدبابي الميساوي، و"الخمر والنبيذ في الإسلام" لعلي المقري، و"معمارية الفقدان: سؤال الثقافة الفلسطينية المعاصرة" لإسماعيل ناشف، و"تاريخ العصامية والجربعة" لمحمد نعيم، "حديث صريح مع الدكتور أبو القاسم سعد الله في الفكر والثقافة واللغة والتاريخ" لمراد وزناجي، و"الأحزاب السياسية في الجزائر: خلفيات وحقائق" لعبد العالي رزاقي، و"المبسترون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلّابية" لأروى صالح، و"بين الزطاط وقاطع الطريق: أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار" لعبد الأحد السبتي، و"طريق الكفاح في فلسطين والمشرق العربي: مذكّرات القائد الشيوعي محمود الأطرش المغربي (1903 – 1939)، و"وداع لبنان" لمحمد أبي سمرا، و"رقصة الفستان الأحمر الأخيرة: سبعة عقود من تاريخ العراق المعاصر عبر الغناء والموسيقى" لعلي عبد الأمير.

هذا العمل تمهيديٌّ لكنه ضروري: هو مرحلة تعريفية أُولى نأمل أن تؤدي إلى ترجمة الأعمال المختارة ومثيلات لها، وأن يطّلع عليها الباحثون الفرنسيون فيُدمجوا مضامينها في الشبكة التحليلية كجزء من المعرفة الإنسانية ينبغي أن ينضمّ إلى ما أنتجته العقول الغربية، دون أدنى تمييز ولا إزراء، حتى نرى هذه الأعمال ضمن قوائم المصادر والمراجع المنصوح بها في الأوساط الجامعية والصحافية، ونتحرّر من ربقة الإهمال والتجاهل التي طالما خنقت ثمار الفكر العربي.

كما نأمل أن تنسف هذه الأعمال وهمًا آخرَ، طالت هيمنتُه: الاعتقاد بأنّه يكفي أن يكون البحث مُحرَّرًا باللغة الفرنسية أو الإنكليزية حتى يكون جيّدًا. والعكس بالعكس، أي أنّ مجرد تحرير العمل بالعربية دليل على ضآلته، هكذا في اختزال خطير غايتُه التقليل من شأن الباحث العربي وترسيخ هيمنة النماذج والوجوه المحتكِرة لمشهد الكتابة، حتى وإن كانت جودتُها متوسّطة أو غائبة... تمامًا.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون