كائنات من خيوط ودخان سجائر

كائنات من خيوط ودخان سجائر

12 يناير 2023
من مجموعة "علو"، عمل تركيبي لمنذر جوابرة، 600x 400 x 250 سم، تونس، 2017
+ الخط -

مثل عالم "ديزني"، تبدو قامات "المثقّفين" في بلادنا مثل علامات استفهام، خيوطٌ بحدبة ظهرٍ وكرشة صغيرة، متوفّرة في مواقع التواصل الاجتماعي وأحياناً في المقاهي، إلّا أنّ الكائنات التي لدينا حقيقية، وليست محض خيال.


مراحل التكوين:

في أجزاء من العالم، يولد الإنسان نقطة في أوّل السطر، وتهبه ركلات رجال الأمن والعساكر أول إحساس بوجود مؤخرته، ولأنّ الحياة عادلة، ثمّة صنف من سُلالة هذا الكائن تعيش، تكبر وتصبح على هيئة علامة تعجّب يافعة، تتعجّب لوجود ركلات، وتتعجّب لوجود مؤخّرة، تتعجّب، لأنّها لا تملك فكرة. وفيما يستمر النموّ لدى الكائنات الحيّة، يرمي الكائن الإنسان رأسه الثقيل، على الحاسوب وبين دفتي كتاب، ويمرّ الوقت وتتغيّر عوالم، فيحدودب ظهره على هيئة علامة استفهام ويماثل شكله المعنى الذي صار عليه، وهكذا، يتخشّب أداءُ كائن الاستفهام هذا مع هذه الحدبة، ويقتصر أداؤه الوظيفي على ما منحته إياه وظيفته، في الشكل والمعنى.

تصبح الثقافة بهذا المنطق نأياً بالنفس عن مواجهة أسئلة الناس 

بعيداً عن المُمارسة، يظلّ الكائن "السؤالُ" تكلّساً، صنّارة صدئة لا تعود سوى ببعض المنافع المادية والمعنوية على أصحابها. حَدبة هي في بعض الأحيان ركوعٌ وانكسار، حدبة لعلامة استفهام تضمن طأطأة الرأس لأطول فترة، فهل تخطر بالبال أسئلة عن أصحاب الحدبات ووظيفتهم؟ بالطبع ربّما، ولكن بدرجة قليلة، هذا لأن سلطة الكتابة تجعلهم - بحُكم شِلَلِيّة الحدبات - محصّنين من النقد الثقافي والشعبي، وتصبح الثقافة بهذا المنطق ملاذاً للنأي بالنفس عن مواجهة أسئلة الناس عن حدبة ظهورهم، وتصبح الحدبة هذه مطيّة للتنظير والترفّع.

إنّ أسوأ ما أورثته حقبة "الوظيفة" هذه، التي يعيشها النّاس، هو اقتصار ممارساتهم الحياتية على وظيفة واحدة. جلسة المكتب 8 ساعات تمنحهم حدبة تكيّفهم لساعات "الحرث"، وتسلبهم قدرات الجسم الحيوية وقدرات العقل الذهنية، فيصير الإنسان كائناً أحدبَ لا يُحسن سوى مهارة واحدة مدى الحياة، الحرث لساعات متواصلة.

*

في مسيرة البحث عن الأجوبة، تتكلّس "الأسئلة" على هيئة عكّازات لا تطأ الشارع، سوى بمشاهدة أحرف تُقتَل على خُطى مُحاولة الإجابة.

في النقاشات، هناك، بعيداً عن النّار ودخنة المولوتوف في الشارع، نتبدّى ككائنات من خيوطٍ وأقمشة ودخان سجائر؛ "كنفوش" شَعْر مِنْ خيط، لحية مِنْ خيط، كلام وإيماءات من خيط، بيد أنّ الواقع من سلكٍ شائك ورصاص.

*

نحن بحاجة إلى المثقّف الرُّمح، نموذج يمشي بين الناس، يتخلّص من حدبة ظهره، وحدبة وَعْيه، وينصب قوامه مثل رُمحٍ. وقد شهدنا في فلسطين مثل هذا "الرُّمح" من قبل، أدركناه ينزل إلى الشارع، يُمارس الثقافة وينحت الصخر بحثاً عن الأجوبة.


* كاتب وصانع بودكاست من فلسطين

المساهمون