فرانسوا هارتوغ.. روايةٌ غربيّة اسمُها الزمن

فرانسوا هارتوغ.. روايةٌ غربيّة اسمُها الزمن

09 فبراير 2021
فرانسوا هارتوغ (منشورات "غاليمار"، تصوير فرانشيسكا مانتوفاني)
+ الخط -

يعني مصطلحُ "كرونوس" الزّمنَ، هذا الكائنَ الحاضر في كلّ مكان والذي لا يمكن لأحدٍ أن يتفاداه، سواءً في ثنايا وعيه العميق أو في مُعاناته اليوميّة الظاهرة. ورغَم هذه المحايثة المُطلَقة، لا يستطيع أحدٌ إدراك كُنْهه للإفصاح عن ماهيّته. بيد أنَّ الإنسانَ لم يتخلَّ، عبر تاريخه الطويل، عن محاولات فهم هذه الكينونة والسيطرة عليها، بدءاً بتقسيمها وضَبطها، مروراً بمعايشتها، وصولاً إلى التّنظير لها.

فقد تعدّدت الاستراتيجيات والخِطَط للتوصّل إلى الإمساك بقوانين الزمن وإدراك ماهيّته منذ بدايات الإنسان العاقل الأوّل إلى يومنا هذا. وقد عبّر القديس أوغسطينوس (354-430) عن هذه المُفارقة الكبرى في معادلته القائلة: "طالما لم يُسأَل الإنسان عن الزمن، فهو يعلم كُنهه ويعرف حقيقَتَه. لكنْ، ما إنْ يُطرح عليه السؤال حتّى يعجز عن الإجابة". يحمل مفهوم الزمن مفارقة الوعي بالشيء والعجز عن التنظير له، مفارقةَ تَحمُّل آثاره دون القدرة على وصفها.

وهذه هي الإشكالية التي يطرحها المؤرّخ الفرنسي فرنسوا هارتوغ (مِن مواليد 1946)، في كتابه الجديد "كرونوس: الغرب في صراعه مع الزمن"، الصادر منذ أيام عن "دار غاليمار". تعالج هذه المُحاولة الفلسفيّة نظام الزّمن والعهود المتعاقبة التي طَرَأت على طريقة تَصوّره عَبر الثّقافات البشريّة من أجل التّعبير عن حقيقته. وعلى غرار المُفكّر جورج لويس بوفون (1707-1788)، الذي أقرّ بوجود "أطوارٍ" شهدها تصوّرُنا لمفهوم "الطبيعة"، سعى المؤرخ الفرنسي إلى استكشاف تلك التي مرّ بها مفهوم الزمن لدى مفكّري الغرب. ولذلك ارتحل يجوس خلال الطبقات المتراكمة، بدْءاً من العهد الإغريقيّ الذي صيغ فيه مفهوم كرونوس إلى حدود عصر الأنوار، ومنه إلى أيّام العولمة التي نعيشها منذ عقود.

يسرد المؤرّخ التحوّلات التي شهدها مفهوم الزمن في الثقافة الغربية

وعندما وصف إعداده كتابَه، شَبّه هارتوغ عملَه بأنّه كان بمثابة كلمات مُجمّدة في الذهن، كما تُجمّد المواد في بيت الثلج، فإذا به يُفكّكها من ذلك التصلّب وينزَع عنها جمودها فَيُحيلها إلى كلماتٍ جارية مقروءة. وهذا عينه فعْل الزمن وأثره اللذان يصفهما الكتاب. وفيه يقارن الكاتب ما كان لاحَظه عن سيرورة الزمن وسَرَيَانه عبر نهر التاريخ، في كُتبه السابقة، وبين ما طرأ على هذا الجَرَيان إبّان أزمة كورونا، والتي ربّما دفعتْه إلى إنضاج تفكيره. ولا بد من التذكير، بدءاً، بأنّ هذا الكتاب يتنزّل ضمن رباعيّة - امتدّت على عقدَيْن - خصَّصها هارتوغ لتحليل التعقيدات الخفيّة لمفهوم الزمن، واستهلّها بـ"أنظمة التاريخانيّة (2003)، تلاه "قُدماء، مُحدَثون، ومتوحّشون" (2005)، ثم "الإيمان بالتاريخ" (2013). والآن يأتي هذا الكتاب تتويجاً للرباعية، متناولاً النظام التاريخي الأوروبّي الذي أُرْسِيَ منذ ثمانية عشر قرناً بعد حلول المسيحيّة مرجعيّةً في النّظر والحَركة والتقييم.

هذا، وقد جَعل الكاتب لمؤلَّفه عنواناً فرعيّاً، هو "الغَرب في صراعه مع الزمن"، ما يشي بوجود توتّراتٍ دائمة بين الوعي الفلسفي التاريخيّ الذي عبّرت عنه المسيحيّة ثم الفلسفات الغربيّة، وبين حركة هذه الكينونة الذاتيّة، ذات الآثار الموضوعيّة الثقيلة، والتي نُسمّيها كرونوس أو الزّمن. ورغم صعوبة المُقارنة بين المجاليْن الثقافيّين، لا يَسعُ إهمال ما صاغه الكاتب توفيق الحكيم (1898-1987) في "أهل الكهف" (كتبه 1929عام ونُشر في 1933) وغيرها من المسرحيّات التي حلّل فيها آثار الزّمن تحليلاً فنيّاً.

وقد انبَرى هارتوغ، بجرأة ووضوحٍ، إلى التنظير للعلاقة بين التصوّر الذي يحمله الأفراد والجماعات عن الزمن وبين ما نُقل في السرديّات الماضية عنه. فَطوَّر مفهوم "نظام التاريخانية"، الذي يعني به طريقة تصوّر مجتمعٍ ما للزمن وذاكرة ذلك التصور وآثاره على الحركة اليوميّة في التاريخ. ومن ذلك أنّه اشتغل على القطيعة الكبرى التي ضربت هذا التصوّر. ففي الماضي، كان يُنظَر إلى حركة التاريخ كخطٍّ تَصاعديّ، مَحكوم بمبدأ التقدّم، وخصوصاً في فلسفة هيغل (1770-1831) المثاليّة. وهي الفكرة عينها التي تأثّر بها، في العالم العربي، بعضُ مُفكّري النّهضة، مثل شبلي شميّل (1850-1917)، وبنسبةٍ أقلّ، فرح أنطون (1874-1922).

الصورة
كرونوس

أمّا في وقتنا الراهن، فإنّ الزّمن الحاضر يجثم على الوعي ويغمره ويشدّه إلى مشاغل المعيش اليومي الثقيلة، الآن وهنا، مع شِبه هوَسٍ بقضايا الذاكرة لتَصفية الحساب معها، إمّا بإجراء "المُصالحات" و"المُراجعات"، وإما تَمجيداً وتنديداً. ولا يمكننا إلّا أن نُشير إلى الرّفض القاطع لقيمة "التّوبة وطلب الصّفح"، فيما يتعلّق بذاكرة حَرب الجزائر وأهوالها، والتي يرفض المؤرّخ بنجامان ستورا، في مقترحاته العشرين التي وضعها أخيراً بين يديّ الرئيس الفرنسي، أن تعبّر عنها فرنسا.

في هذا الكتاب، يُطلق صاحبُ "بَداهة التاريخ" (2005) عبارة "الراهنيّة الأبوكالبتيّة" على تملّك الفكر المسيحي لمفهوم "الزمن"، عبر اقتباس مُصطلح Kairos (كايروس) الذي يعني: تجسّد المسيح في التاريخ وظهوره فيه إيذاناً بفَتحه على النهاية، وما سيأتي بعد ظهوره مجرّد انحدار نَحو الهاوية. وكذلك مصطلح "Krisis" الذي يدلّ، من بين ما يدلّ، على مَقدم يوم الحساب ونهاية الزمن البشريّ. وعليه يصبح الماضي مجرّد مستودعٍ للعِبَر والذكريات والأمثلة التي لا بدّ من الاقتداء بها وإعادة استنساخها في المستقبل. إلّا أنّ الغرب، بولوج طَور الحداثة، لم يعد مسيحيّاً إثر قطْعه مع ذلك التصوّر التقليدي. وعندما تجاوز الحَداثة، لم يعد يعرف مصيرَه وافتقد كلّ بعدٍ ماورائيّ للتاريخ. وهذا عين ما ذهب إليه المؤرّخ العربي ابن خلدون من اعتبار التاريخ مجالاً للتأمّل والتحقيق، ولذلك سمّى كتابه الشهير "كتاب العِبر".

أطروحاتٌ يمكن تطبيقها، دون تقليد، في الثقافة العربية

كما يدعو هارتوغ إلى أن يظلّ الغرب إنسانيّاً وأن يُسائل، باستمرار، مَظاهر الإنسانية لديه، وأن يستفيد من كايروس (اللحظة الراهنة) حتى يُبعد كريزيس (اليوم الآخر وأهواله) ويُعيد إلى كرونوس (الزمن) شيئاً من الثبات والديموميّة. وهكذا، يُمكن أن نعدّ هذا الكتاب بمثابة رواية عن الزمن، يسرد فيها المؤرّخ سلسلة التحوّلات التي شهدها مفهوم الزمن في الرؤية الغربية المسيحيّة، منذ انبثاقها إلى يوم الناس هذا. وقد صاغ هذه السرديّة ليس بشكلٍ علميٍّ تحليليّ فحسب، وإنّما أدمَجَ ذاته وتغلغل طيَّ تاريخه الشخصي "بحثاً عن الزمن الضائع"، حتّى يفهمَ ما حصل، ولماذا صرنا إلى ما صِرنا إليه.

ولعلّه من المشروع أن نطبّق هذا التصوّر على مفهوم الزمن في الثقافة العربية-الإسلاميّة من أجل تفكيكه فلسفيّاً وأنثروبولوجيّاً، على أن نبدأَ بفكرة "الدهر"، التي سادَت في العصر الجاهلي، ثم ننتقل إلى كيفيات استعادة الإسلام لهذا المفهوم، ولا سيما في القرآن، حيث رُبط الزمان بالتجلّي الإلهي الذي يستعصي على كل زمنيّةٍ باعتباره أزليّاً. وبعد ذلك، يحقّ استخراج تأثير هذا المفهوم فيما كتبَه كبارُ المؤرّخين عندنا، مثل الطبري والمسعوديّ وابن خلدون. وتجدر بعد ذلك دراسةُ ما شهده عصر النهضة من عميق التحويرات على هذا المفهوم، وتأثُّر مُفكريه بمبدأ التقدّم والتمدّن. ولا شكّ أنّها مفاهيم تجاوزتها الحداثة بفعل العولمة الراهنة التي يعيشها العالَم العربيّ، ما يؤكّد وجاهةَ هذا المبحث ومشروعيّته، شريطة ألّا نكون فيه مقلّدين ولا مجرّد مترجمين، بل واقفين في وجه الزمن نَستجلي ألغازَه ونسبر أغواره.

* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون