"تاريخ فرنسا العالمي": في مختبر بوشرون ورفاقه

"تاريخ فرنسا العالمي": في مختبر بوشرون ورفاقه

06 اغسطس 2017
(جدارية في حيّ لو بانييه في مرسيليا)
+ الخط -

"لن يكون من المبالغة في شيء، أن يستعين المرء بـتاريخ العالم كي يستطيع تفسير فرنسا". إذا كان باتريك بوشرون، والمؤرخون المشتركون معه في تأليف "تاريخ فرنسا العالمي" (منشورات "سوي")، يصدّرون عملهم الضخم بجملة ميشليه هذه، فإن نيّتهم، أو الخلفية التي تقودهم إلى هذا القول، تختلفان بكلّ تأكيد عن نيّة وخلفية مؤرّخ فرنسا وثورتها.

يكتب ميشليه جملته هذه في تمهيده لـ"مدخل إلى التاريخ الكوني" (1831) وهو مقتنع، كما يبدو، بأن وطنه "المجيد بات الآن قبطان سفينة الإنسانية". كان يمكن له، كما يقول في التمهيد ذاته، أن يعنون كتابه: "مدخل إلى تاريخ فرنسا"، دون أن يؤثّر ذلك على محتواه. إذ إن الكتاب، ومن قبله التاريخ، يُفضيان بالضرورة إلى فرنسا. وليس المرور بالعالميّ والكونيّ، في هذه الحال، إلا ضرورة سرد وتسلسل زمنيّ، وخطوةً شكليّة على طريق مَن يسعى إلى تأليف أسطورة فرنسا القومية؛ فرنسا الكائنة بذاتها، حاملة لواء التاريخ والحضارة.

بالنسبة إلى بوشرون، أستاذ التاريخ في "كوليج دو فرانس" ومحرّر الكتاب، والمؤرّخين المشتغلين معه، لم يعد من الممكن، اليوم، التورّط بالنظر إلى الأشياء من هذا المنظور. إنهم، كمؤرّخين، يفهمون قبل غيرهم أن كلام ميشليه ابن زمنه، بل وربما أكثر تبصّراً وأقلّ تهوّراً وانغلاقاً من جلّ معاصريه. ولعل من هذا الفهم يتأتى تصديرهم كتابهم، ذا الطرح المناقض لمقولة ميشليه كما كان هو يفهمها، بالمقولة نفسها. فهم يصرّون على استلهام مسعاه التأريخي المجدِّد، وعلى أن مقولته ما زالت وستبقى صالحةً في اثنين من معانيها على الأقل.

أولاً، صعوبة كتابة تاريخ بلد ما دون الاستعانة بالعالم وتاريخه؛ أي، بعبارة أخرى، صعوبة اكتفاء تاريخ بلد ما بنفسه. وثانياً، صعوبة النظر إلى العالم وممارسة الكتابة التأريخية انطلاقاً من لا-بلدٍ ما، من منطقة حياديّة وموضوعية تماماً.

لا بدّ، إذن، لكتابة تاريخ فرنسا من أن تكون كتابةً مع العالم، فيه، وربما من أجله. ففرنسا - وإن كانت بلداً أساسياً في العالم كما نعرفه اليوم - لم تعد (هل سبق أن كانت، فعلاً؟) "قبطان سفينة الإنسانية"، ولا حاملة "الرسالة الحضارية" إلى بلدان العالم الأخرى - مقولتان تبريريّتان انبنى عليهما تاريخ طويل من الاستعمار... إنها، بالمعنى التاريخي، حصيلة بناء وهدم وتراكم، كما هي حال أيّ بلد آخر.

إن الكتابة التاريخية، التي تعي ذلك وتنطلق منه، تصبح، في يومنا هذا، نوعاً من النضال السياسي. ذلك أنها تختار مساراً معاكساً للتيار الهويّاتي السائد في فرنسا وخارجها. و"تاريخ فرنسا العالمي" يعي ذلك ولا يخفيه، أي أنه لا يدّعي الحيادية. يكتب بوشرون، في افتتاحية الكتاب، أن هذا الأخير ذو "طموح سياسيّ، لأنه يسعى إلى الدفاع عن مفهوم تعدّدي للتاريخ، في مواجهة الانغلاق الهوياتي الذي يهيمن في هذه الأيام على النقاش العام".

يمكن العثور على هذا المفهوم التعدّدي في صيغة الكتاب وفي مضمونه. فهو، من ناحية أولى، عملٌ جماعي اشترك فيه، مع بوشرون، مائة واثنان وعشرون مؤلفة ومؤلفاً، كتب كلّ منهن ومنهم نصّاً عن تاريخ معيّن أو لحظة تاريخية ما. كما أنه يتجاوز، من ناحية ثانية، التسلسل الزمني الذي يشكّل العمود الفقري للسردية الوطنية المعتادة في مناهج التاريخ المدرسية، وفي كتب "الرواية الوطنية"، منفتحاً بذلك على أفق أرحب من التواريخ واللحظات الأكثر مدعاة للنقد والبحث منهما للشوفينية. يُضاف إلى هذا وذاك سعيُ الكتاب إلى البحث تاريخياً في تعددية فرنسا نفسها، وإبراز دورها الأساسي في تاريخ البلد.

هكذا، عبر صيغة متاحة للجميع، تعتمد التبويب وقلّة الإحالات الأكاديمية، ولغة سردية ممتعة، لكن من دون التخلي عن الصرامة الفكرية والموقف النقدي، يسعى الكتاب إلى تلقّف موضوعة "تاريخ فرنسا" وعدم تركها أداة لكتّاب اليمين الهويّاتي ومؤرّخيه وسياسيّيه. ذلك أن الأخيرين لا يألون جهداً في سبيل استغلال هذا التاريخ وجعله نقطة انطلاق لمقولاتهم الفكرية ومشاريعهم السياسية. وليس مفاجئاً، في هذا السياق، أن يغضب صدور الكتاب، ومنهجه ومقترحه، مثقفين من قبيل ألان فينكلكروت وبيير نورا وإريك زمور.

بين لحظة مغارة شوفيه، قبل 34 ألف عام من الميلاد، ولحظة أحداث 2015 الباريسية، تسعى ورشة الكتاب إلى تقديم تاريخ نقدي لفرنسا؛ تاريخ أقلّ تقوقعاً على أمجاده وأكثر تواضعاً ومساءلة لنفسه. إنه تاريخ يعطي للآخر، الذي يساعد في صنعه، أو الذي أُجبر على أن يكون جزءاً منه، مساحته التي يستحقها، والتي لا يكفّ أصحاب "الهوية" و"الشعور القومي" عن طردها من "الرواية الوطنية" الجميلة.

لن يروق للأخيرين، بلا شك، أن يجري الحديث، في الكتاب نفسه، عن الأنوار الفرنسية وعن التجارب النووية الفرنسية في صحراء رقان الجزائرية؛ عن الثورة الفرنسية وعن ثورة أهل مستعمرة سان دومينغو، التي ستعرف لاحقاً باسم هاييتي، ضد استعبادهم من قبل السلطات الفرنسية. لعلّ من ميزات "تاريخ فرنسا العالمي" أنه يعيد فتح صفحات التاريخ الفرنسي، جميلها وقبيحها، ويقدّمها لجمهور واسع عوّدته المدرسة ووسائل الإعلام وكتب المثقفين الشعبويين على معرفة جزء مقتطع ومركزيّ من تاريخ بلده.

دلالات

المساهمون