طاهر دزداري.. في تذكُّر أوّل مستشرقٍ ألباني

طاهر دزداري.. في تذكُّر أوّل مستشرقٍ ألباني

30 أكتوبر 2021
من مدينة شكودرا، مسقط رأس طاهر دزداري، شمال ألبانيا (Getty)
+ الخط -

في عام 1919، صدر في الولايات المتّحدة كتابٌ بعنوان "ألبانيا، المفتاح االرئيس للشرق الأدنى"، للكاتب الألباني كريستو داكو، الذي كان على علاقة مع الرئيس الأميركي وودرو ویلسون بعد أن برز في مؤتمر الصلح بباريس بأطروحاته عن أوروبا جديدةٍ تقوم على دوَل قومية تحلّ محلّ الإمبراطوريات المنهارة. ولكنّ ما يلفت النظر هنا أن ألبانيا بقيت تعتبر "مفتاحاً رئيسياً" لـ"الشرق الأدنى"، الذي كان يشمل البلقان مع أن الحكم العثماني كان قد انحسر عن هذه المنطقة (باستثناء جيبٍ صغير حول إسطنبول) نتيجةً لحرب البلقان (1912-1913).

ومع هذا الانتقال من الإمبراطوريات المنهارة إلى الدول القومية (يوغسلافيا وألبانيا وبلغاريا وغيرها)، بدأ التحوُّل من التموضع ضمن الشرق إلى الاستشراق، وبالتحديد مع افتتاح أقسام أكاديمية للدراسات الشرقية في هذه الدول التي بقيت عدّة قرون تحت الحكم العثماني. وفي هذا السياق شهدت بلغراد، التي كانت حتى القرن التاسع عشر تشتهر بلقب "بوّابة الشرق"، تأسيس أوّل قسم للدراسات الشرقية في جامعتها، والذي برز فيه وفي غيره من الأقسام اللاحقة الجيلُ المخضرم الذي وُلد أيام الدولة العثمانية ونهلَ من ثقافتها وأصبح لاحقاً الجيل الأول من "المستشرقين" الذين أسّسوا القاعدة للدراسات الشرقية التي شملت هنا التراث الشرقي في البلقان والمؤثّرات الشرقية في اللغات والثقافات البلقانية.

من هذا الجيل ثمّة، في ألبانيا، طاهر دزداري (1900-1972) الذي عايش عدّة دول وأنظمة حكمت ألبانيا وعانى الكثير خلال حكم "الحزب الشيوعي" (1945-1990) ولكنّه استحقّ عن جدارة لقب "أوّل مستشرق ألباني"، نظراً لإسهاماته الرائدة في مجال الدراسات الشرقية بالألبانية. ولم يحظَ دزداري بالتكريم الذي يستحقّه إلا بعد نهاية حكم "الحزب الشيوعي"،  حيث كرّمه رئيس الجمهورية صالح بريشا في 1995 بأعلى وسام (وسام نعيم فراشري) لـ"إسهامه القيّم في تطوّر الدراسات الألبانية" في مجال الشرقيات، كما عُقدت في 1997 (بمناسبة مرور 25 سنة على وفاته) ندوة علمية قُدّمت فيها أوراقٌ غطّت مختلف إسهاماته الرائدة.

صاحب أعمال مرجعية حول تأثّر اللغة الألبانية بالعربية والتركية والفارسية

ولم يقتصر الاهتمام به وتكريمه على ذلك، بل استمرّ في السنوات اللاحقة مع صدور مقالات ودراسات عنه وصولاً إلى صدور أضخم جهد في هذا العام، يتمثّل في مجلّد يضم 557 صفحة للباحث الكوسوفي عرفان مورينا والباحثة الألبانية لينديتا جناري، بعنوان "طاهر دزداري: حياته وأعماله"، الذي صدر قبل أسابيع في العاصمة الألبانية في الذكرى الخمسين لوفاته.

ولد طاهر دزداري عام 1900 بمدينة شكودرا العريقة بالشمال الألباني، في أسرة ارتبط وجودها واستمرارها بالحكم العثماني، مع أن الحال قد ضاقت بها بعد تحوّل جدّه وأبيه إلى موظّفين بسيطين. وقد بدأ تعليمه باللغة التركية في المدرسة الرشدية العثمانية في المدينة، حيث تعلّم التركية والعربية والفارسية. ولكنّ ظروف الحرب البلقانية 1912 -1913 ومن ثم الحرب العالمية الأولى أدّت إلى انتقال المدينة من الاحتفال بالاستقلال الألباني في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1912 إلى الحكم المونتنيغري ثم النمساوي حتى 1918.

الصورة
"طاهر دزداري: حياته وأعماله"
غلاف "طاهر دزداري: حياته وأعماله" الصادر حديثاً بالألبانية

وهكذا، في ظلّ الحكم النمساوي، أكمل دزداري تعليمه الثانوي في مدرسة الجزويت، حيث تعلّم الفرنسية والإيطالية. ومع استقرار الدولة الألبانية في حدودها الحالية عامَ 1920، عمل موظّفاً لإعالة إخوته السبعة، وتغيّرت حياته حين تعرّف وتزوج في 1923 بطبيبة نسائية تركية (فاطمة مقبولة) جاءت إلى ألبانيا في 1921 بطلب من الحكومة لمساعدة النساء في بلد بغالبية مسلمة، ممّا أعاد إحياء صلته باللغة التركية.

خلال حكم أحمد زوغو رئيساً للوزراء والجمهورية وملكاً على ألبانيا (1922-1939)، كان طاهر دزداري مؤيّداً للإصلاحات التي قام بها زوغو، على نمط مصطفى كمال في تركيا الجمهورية، وتنقّل في مختلف الوظائف ضمن بلديات تابعة لوزارة الداخلية. ومن هنا شارك في مقاومة الاحتلال الايطالي لألبانيا في نيسان/ أبريل 1939، ممّا أدى إلى اعتقاله ونفيه حتى 1943. ومع استسلام إيطاليا، أعلنت ألمانيا في أيلول/ سبتمبر 1943 إعادة استقلال ألبانيا تحت النفوذ الألماني، وهو ما سمح لطاهر دزداري بالعودة إلى بلاده والمشاركة في الحياة الثقافية بنشر المقالات والدراسات في مجال اللغة والفولكور الألبانيّيَن والمؤثرات الشرقية. ومن ذلك كان دراسته الأولى عن "المفردات الفارسية في اللغة الألبانية" التي نشرها في 1944.

الصورة
طاهر دزداري في شبابه، عشرينيات القرن الماضي
طاهر دزداري في شبابه، عشرينيات القرن الماضي (العربي الجديد)

في ذلك الوقت كانت "حركة التحرير الوطنية" بقيادة "الحزب الشيوعي" تقاتل على جبهتين: ضدّ اليمين القومي وضدّ الوجود العسكري الألماني في البلاد، وهو ما تعاطف معه طاهر دزداري وزوجته، حيث قدّما الدعم لهذه الحركة. ومع وصول "الحزب الشيوعي" إلى الحكم وإعلان الجمهورية في 1946، بدأ اسم دزداري يظهر ضمن الهيئات الجديدة للسلطة الحاكمة، ومنها "اتّحاد الكتاب والفنانين" الذي تأسّس في 1946 وكان دزداري من أعضائه.

ولكنّ إلقاء قنبلة على السفارة السوفييتية بتيرانا في شباط/ فبراير 1951 اعتُبر "مؤامرة" ضدّ النظام، واستتبع ذلك اعتقال العشرات من المثقّفين ــ بمن فيهم طاهر دزداري ــ نتيجة بلاغ كاذب، وإعدام 22 منهم بتهمة المشاركة في هذه "المؤامرة". ومع أنه أُفرج عن دزداري بعد عدّة أشهر إلا أنه تعرّض للنفي مع زوجته وأصبح من "المشبوهين" الذين لا يمكن أن ترحّب بهم المؤسّسات العِلمية والثقافية في البلاد.

نُفي ولوحق في حياته ولم يُعترَف بمسيرته وأعماله إلّا حديثاً

وفي هذا الأوضاع الصعبة لم يبقَ أمام الباحث الألباني سوى أن يعمل في بيته علة مشروعه الكبير، "معجم المفردات الشرقية في اللغة الألبانية"، الذي استغرق منه حوالي عشر سنوات، وبدأ بنشر بعض أقسامه في مطلع الستينيات، ممّا نبّه الأوساط العِلمية إلى أهمّية إسهاماته ودفَعَ "معهد اللغويات" في 1965 إلى قبوله للعمل فيه كباحث على الرغم من ملفّه السياسي الملفّق، وبقي يعمل فيه إلى وفاته في 1972.

وعلى الرغم من إعادة الاعتبار إلى طاهر دزداري بوصفه "أوّل مستشرق ألباني" بالمفهوم العلمي، بعد التحوُّل الديمقراطي في ألبانيا (1990-1992) وبعد ما نُشر عنه من مقالات ودراسات تكشف عن إسهاماته الرائدة في مجال الدراسات الشرقية، إلّا أن ما أنصفه أخيراً هو صدورُ الكتاب الجديد عنه. كتابٌ يضمّ قسمُه الأول سيرته المجموعة من مصادر متعدّدة، ويحتوي قسمه الثاني مقالاته ودراساته التي نشرها باسمه أو بأسماء مستعارة، فيما خُصّص القسمان الثالث والرابع لعمله الموسوعي "معجم الألفاظ الشرقية في اللغة الألبانية"، وجُمعت في القسم الخامس مراسلاته، وخصّص القسم السادس لزواجه من أوّل طبيبة نسائية مسلمة في ألبانيا، بينما جُمع في القسم السابع "ألبوم الصور" الذي اشتمل على الكثير من الصور التي تُنشر للمرّة الأولى.

الصورة
طاهر دزداري في شبابه، عشرينيات القرن الماضي (العربي الجديد)

وربّما من المهمّ هنا التوقّف عند عمله الموسوعي "معجم الألفاظ الشرقية في اللغة الألبانية"، الذي بقي مخطوطاً إلى أن نشره في تيرانا عام 2005 "المعهد الألباني للفكر والحضارة الإسلامية". ففي هذا المعجم الكبير (حوالي 1200 صفحة)، يكشف دزداري عن حوالي 4500 ألف كلمة عربية وفارسية وتركية دخلت اللغة الألبانية خلال الحكم العثماني الطويل، الذي استمرّ حوالي خمسة قرون.

ولا بدّ هنا من الأخذ بعين الاعتبار أنه مع الحكم العثماني دخلت ثقافة جديدة مرتبطة بانتشار الإسلام، الذي أصبح دين الغالبية، تجلّت من خلال انتشار لغات جديدة (العربية والتركية والفارسية) في الأدب والحياة اليومية وارتبطت بتأسيس المدارس والمِهَن الجديدة والمنشآت العمرانية ذات الطابع والمحتوى الشرقيّ، إلخ. ولذلك، لا يبدو من المستغرَب أن تنفتح اللغة الألبانية الفقيرة في نهاية القرون الوسطى على هذه اللغات التي كانت تمثّل ثقافةً متقدّمة، والتي أصبح الشعراء والكتّاب الألبان يكتبون فيها أيضاً، كما استعملت حروفها لكتابة اللغة الألبانية.

وهكذا يكشف دزداري في هذا المعجم غير المسبوق عن وجود 1732 مفردة تركية و1460 مفردة عربية و505 مفردات و72 مفردة عربية - فارسية و43 مفردة عربية - تركية و 24 مفردة تركية - فارسية. ويلاحظ هنا أن هذه المفردات غطّت التغيّرات الكبيرة الإدارية والدينية والأدبية والمِهَنية والعمارة الشرقية الجديدة والحياة اليومية التي تبلورت خلال الحكم العثماني الطويل لبلاد الألبان. ومع أن ألبانيا استقلّت عن الدولة العثمانية في 1912-1913، بحدودٍ لم تشمل سوى نصف الألبان، بينما توزّع النصف الباقي على الدول المجاورة (صربيا والجبل الأسود واليونان)، إلّا أن هذه المفردات بقيت تستعمل عدّة عقود إلى أن وُضعت قواميس اللغة الألبانية الحديثة (التي أصبحت مشتركة بين الشمال والجنوب). قواميس سعت، بتأثير نظام أنور خوجا الشمولي (الذي أعلن ألبانيا عام 1967 "أوّل دولة إلحادية في التاريخ") إلى التقليل من هذه المفردات التي أصبحت تُعتبر "غير مرغوبة".

ومع أن هذا التوجّه تمكن من شطب حوالي نصف هذه المفردات في ألبانيا على الأقل، إلّا أن النصف الآخر بقي راسخاً لكونه أصبح جزءاً من اللغة والثقافة الألبانيتّين، وخاصّة بعد التحول الديمقراطي في البلاد وعودة الحياة إلى الثقافة الدينية للغالبية المسلمة. ومع ذلك يبقى "معجم الألفاظ الشرقية في اللغة الألبانية" عملاً حيّاً لا يمكن الاستغناء عنه، وخاصة للباحثين في الدراسات الشرقية، لأن المصادر التاريخية والأدبية والفولكور الألباني الغني (الحكايات الشعبية والأغاني التاريخية الخ) لا يمكن فهمها من الجيل الجديد دون هذا المعجم.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي - سوري

المساهمون