زهير جلال الدين.. ألوانٌ من ذاكرة "شام شريف"

زهير جلال الدين.. ألوانٌ من ذاكرة "شام شريف"

12 أكتوبر 2021
"جامع الأرناؤوط" بريشة زهير جلال الدين، 2009 (العربي الجديد)
+ الخط -

عُرفت دمشق باحتضانها "المهاجرين" الذين وفدوا إليها من أنحاء مختلفة من الدولة العثمانية بسبب ما حلّ في مناطقهم من حروب ومجازر وتشريد، مِن بلاد القفقاس إلى البوسنة والهرسك مروراً ببلاد الألبان وكريت وغيرها، ممّا جعل المجتمع الدمشقي يغتني بمكوّنات جديدة من الشركس والبشناق والألبان والأتراك وغيرهم. ولأجل هؤلاء، أُقيم حيُّ المهاجرين على سفح جبل قاسيون في نهاية القرن التاسع عشر، الذي أصبح لاحقاً من الأحياء الراقية في دمشق.

كانت دمشق بالنسبة إلى تلك الشعوب تمثّل مدينة مقدسة تُعرف بلقبها "شام شريف" في التراث الشفوي للآباء والأجداد الذين مرّوا بها في طريقهم إلى الحج، وأصبح الوصول إليها والتوطُّن فيها بركة لمن يحظى بذلك. ومن هنا كان التعلّق بالمدينة سمة واضحة انعكست لدى الجيل الثاني الذي نشأ أو وُلد فيها بالمجالات الجديدة التي اشتغلوا وبرزوا فيها.

حفيد رجُل دين وشاعر هاجر إلى دمشق بسبب حرب البلقان

ينطبق هذا على أفراد الجالية الألبانية التي تكوّنت بدمشق في النصف الأوّل من القرن العشرين بعد عدّة هجرات في السنوات الأخيرة للدولة العثمانية نتيجة لحرب البلقان 1912 - 1913 (من ولاية قوصوه/ كوسوفو)، أو للتطوّرات السياسية اللاحقة في كل من ألبانيا ويوغسلافيا في فترة ما بين الحربين العالميتين. وقد وجد الجيل الأول الذي وصل إلى دمشق بعض أحفاد الألبان الذين جاؤوا مع جيش محمد علي باشا الذي حكم الشام خلال 1831 - 1840، وبقوا يتميّزون عن غيرهم بسبب الكُنية التي أصبحت تدلّ على أصلهم: الأرناؤوط، وهي الكنية التي اتّخذها أيضاً معظم الألبان الذين جاؤوا إلى دمشق في النصف الأول من القرن العشرين.

وكغيرهم من المكوّنات الأُخرى الوافدة، فقد برزت من الجيل الثاني والثالث شخصيات اشتهرت في سورية وخارجها في المجال الديني (ناصر الدين الألباني وعبد القادر الأرناؤوط وشعيب الأرناؤوط)، والمجال الأدبي (معروف الأرناؤوط وعلي خلقي وعائشة الأرناؤوط)، والمجال الفني (أنور الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط وزهير جلال الدين)، وغيرهم.

الصورة
محطة الحجاز في دمشق - القسم الثقافي
محطة الحجاز في دمشق بريشة زهير جلال الدين (2018)

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الجيل الأول استقر في الأحياء القديمة من دمشق، وبالتحديد في حيّ العمارة البرّانية الذي امتد خارج السور خلال العهد المملوكي والعهد العثماني، وصولاً إلى مقبرة الدحداح، والذي يحتضن الجوامع والمدارس القديمة في دمشق. ومع أنه بعد سنوات (حوالي 1933) تجاوَز الجيل الأول شارع بغداد الجديد (الذي شقّه الفرنسيون عام 1925 ليربط بابا توما بساحة سبع بحرات)، ليقيموا في البساتين الممتدّة نواةَ حيّ مع جامع يحمل اسمهم إلى الآن (جامع الأرناؤوط)، إلّا أن الجيل الثاني الذي نشأ في جوار المنشآت التاريخية لدمشق بقي متعلّقا بها عِلْماً (المدارس القديمة والمكتبة الظاهرية) وفنّاً باستلهام تلك المنشآت في الرسم.

في هذا الإطار، كان أنور علي الأرناؤوط (1921 - 1992)، رائداً في الفن السوري الحديث، وشارك بلوحاته عن منشآت دمشق القديمة في العديد من المعارض الفردية والجماعية في سورية وخارجها. وفي حين أنّ الفنان الأكاديمي عبد القادر الأرناؤوط (1936 - 1992)، استلهم من المنشآت الحروف العربية ليبدع لوحات تُصوّر جماليات الحرف العربي وإمكانياته الفّنية، نجد أن الثالث، زهير جلال الدين، تابع درب أنور الأرناؤوط في شغفه بالمنشآت التاريخية في دمشق، مع التركيز أيضاً على المنشآت والأماكن التي لها دلالتها في الذاكرة الجماعية لأفراد الجالية الألبانية في دمشق.

يرسم أماكن مرتبطةً بذاكرة الأُسَر الألبانية في دمشق

وُلد زهير جلال الدين عام 1955 في جوار "جامع الأرناؤوط " في الديوانية الجوانية، وهو الجامع الذي انطلق منه الشيخ ناصر الدين الألباني ثم الشيخ عبد القادر الأرناؤوط. كان جلال الدين حفيد عالِم دين وشاعر معروف في كوسوفو (الحافظ إسلام بريشتينا)، والذي كان مدرّساً في إحدى مدارس بريشتينا العثمانية واضطرّ للهجرة إلى دمشق بسبب اندلاع الحرب البلقانية وما تخلّلها من مجازر.

وعلى عكس أقرانه الذين كانوا يذهبون غرباً إلى مدرسة "الإسعاف الخيري" خلف البرلمان السوري، كان الطفل زهير يذهب جنوباً ليقطع شارع بغداد ويعبُر حيّ العقيبة وجامع التوبة المملوكي المعروف، وصولاً إلى جوار الجامع الأموي، حيث كانت تقع المدرسة الخاصة "سعادة الأبناء" قبالة ضريح صلاح الدين الأيوبي. وقد تعمّق هذا الشغف بدمشق القديمة ومنشآتها عندما انتقل إلى المدرسة الإعدادية "ابن الأثير" التي كانت في قلب حيّ ساروجة المملوكي/ العثماني الذي عُرف لاحقاً بـ"إستانبول الصغيرة".

الصورة
زهير جلال الدين - القسم الثقافي
زهير جلال الدين (العربي الجديد)

هذه الجولة اليومية بين منشآت دمشق القديمة استقرّت في ذاكرة الطفل، وخاصة عندما كان يرى السيّاح الأجانب يصوّرونها أو الفنانون يقومون برسمها، وهو ما حفّز فيه الاهتمام بالرسم خلال وجوده في المدرسة الإعدادية بتوجيه من معلّم التربية الفنية، وهي المرحلة التي بدأ فيها بحفظ لوحاته الأولى. واستمرّ الاهتمام بالرسم في المدرسة الثانوية على أمل الالتحاق بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق. ولكن الالتحاق بها كانت دونه عراقيل الأولويات غير الفنية، ولذلك اكتفى بالالتحاق بدورة فنية بعد أن فشل عدّة مرات في عبور تلك العراقيل.

ومع استمراره في الرسم، إلّا أنه توجَّه إلى العمل في الديكور لتدبير معيشته. وعندما قام الحراك الشعبي في دمشق للمطالبة بالديمقراطية، بقي يأمل خيراً إلى 2015 حين لجأ إلى الأردن، ومنها في 2017 إلى النمسا حيث يعيش الآن متفرّغاً للرسم. وبالنظر إلى مجموعته الفنية، يُلاحَظ أنّ زهير جلال الدين حمل معه ذاكرته الفردية والجماعية عن دمشق القديمة وأبرزَها في العديد من اللوحات التي أبدعها في الأردن والنمسا.

الصورة
باب بيت العائلة - القسم الثقافي
"باب بيت العائلة" (2009)

بالمقارنة مع الفنان الرائد أنور الأرناؤوط الذي ركّز على بعض منشآت دمشق القديمة، نجد أنّ جلال الدين تابعه في ذلك في العديد من اللوحات عن الجامع الأموي وجامع التوبة اللذين قضى سنوات طفولته في جوارهما، ولكنه أهتم أيضاً بالحيّ الجديد (الديوانية) الذي استقرّ فيه أفراد الجالية الألبانية منذ ثلاثينيات القرن العشرين إلى سبعينيات القرن حين هُدم معظمه مع شقّ "شارع الثورة" الذي دمّر قسماً من دمشق القديمة أيضاً.

وفي هذا السياق، نجد عدّة لوحات له تستعيد صورة هذا الحيّ الذي برز فيه الشيوخ والأدباء والرسّامون، والذي لم تحفظه لنا صورة فوتوغرافية عابرة. ومن هذه اللوحات واحدة عن "جامع الأرناؤوط" في هذا الحيّ الذي ارتبط بصعود محدّثَين اشتهرا لاحقا في العالم الإسلامي (ناصر الدين الألباني وعبد القادر الأرناؤوط)، ومنها واحدة عن باب بيت العائلة الذي أصبح الآن يطلّ على "الحداثة العمرانية" الجديدة بعد تدمير الأزقة الأولى من الحيّ.

الصورة
مستشفى الغرباء - القسم الثقافي
"مستشفى الغرباء" (2018)

ومن ناحية أُخرى، نجد في مجموعة زهير جلال الدين لوحات تُجسّد منشآت لها مكانتها في الذاكرة الجماعية لأفراد الجالية الألبانية. ومن هذه "مستشفى الغرباء" الذي أُسّس في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1899) وأصبح "المستشفى الوطني" في العهد الفيصلي (1918 - 1920)، ولكنّه بقي بمسمّاه الأول شائعاً لدى الألبان (مستشفى الغرباء)؛ فقد كان هذا المستشفى يقدّم خدماته مجّاناً، وهو بذلك دخل في ذاكرة كل أسرة ألبانية إلى أن تحسّنت الأحوال لدى الجيلين الثاني والثالث وانتفت الحاجة إليه.

ومن هذا النوع لدينا أيضاً لوحة لمحطّة سكّة الحجاز التي دُشّنت في 1908. فقد نزل في هذه المحطة بعض المهاجرين الألبانيّين الذين شُرّدوا من أوطانهم، واشتغل فيها أو في المشغل الفني التابع لها بعض الألبان من الجيلين الأول والثاني، ولذلك استقرّت أيضاً في الذاكرة الجماعية للألبان في دمشق.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون