سارة ميسا.. فشَلٌ يأتي من جبل غلاوكو

سارة ميسا.. فشَلٌ يأتي من جبل غلاوكو

15 فبراير 2021
سارة ميسا (ت: خيسوس بالانكو)
+ الخط -

في البداية، تفتحُ نات علبة معجون أسنان جديدة تستعملها للمرَّة الأولى. بعد أشهر عدَّة ومئة وستين صفحة تقريباً، أي حينما تقترب رواية سارة ميسا الجديدة، التي تحمل عنوان "حبّ" (2020، Anagrama)، من نهايتها، تقف البطلة مرّة أخرى لتتأمّل أمام المرآة، وقد استهلكت نصف علبة معجون الأسنان. تفكِّر في هذا الوقت الذي مضى: "إنَّه أمرٌّ لا يصدَّق. يُقال: أخرِجْ نفسَكَ من داخلك، عبِّر عنها، هزَّ نفسَك، تلفَّت، انظر، استدرْ مرَّةً أخرى. كلّ هذا حدث، ونات لم تستهلك إلّا 125 ميليمتراً من معجون الأسنان هذا!". غير أنَّ كلَّ ما يحدث في أثناء هذا الوقت، وما لا يحدث أيضاً، بطريقة أو بأُخرى، وكيف يُروى بالضبط، هو ما يُشكِّل جوهر هذه الرواية الاستثنائيَّة لكاتبتها الإسبانية (مدريد 1976). 

تدور أحداث الرواية حول نات، وهي شابَّة متقلّبةٌ ضدَّ الكون على نحو عامّ؛ مترجمةٌ عديمة الخبرة، طُردت من وظيفتها وأُجبرت على الانتقال إلى بلدة ريفيَّة صغيرة خياليَّة تُعرف باسم "لا إسكابا" (تعني "المهرَب"). وهنا لا بدَّ من القول إنَّ الكاتبة تبرع في اختيار أسماء الأماكن والشخصيَّات لإبراز التوتّر بين ما هو دقيق وما هو ممكن وما هو أجنبيّ: بيتر الهبيّ؛ أندريس الألمانيّ، إلخ. غير أنَّ أحداً لم يولد في لا إسكابا، كما تقول روبرتا، الشخصيَّة الوحيدة التي، بموجب عمرها، تستطيع أن تتذكَّر أصول السكّان وجذورهم، رغم أنَّ مرضها العقليَّ يمنعها من ذلك. هذه الشخصيَّات المنعزلة والمتمزِّقة وسطَ مكانٍ لا رحمة فيه، تماماً مثل هذا العالم المرير، تعيش توتُّراتِ ما يجب تأسيسه من جديد في كلِّ لحظة: المجتمع.

تصطدم الكاتبة بقارئها، مثيرةً مسألة الأخلاق وحدودها

لا إسكابا، هذا المكان الريفيّ المُوحش والحاضر دائماً، سرعان ما ستغرق بطلة الرواية في أبعاده، ولا سيّما في جبل إل غلاوكو، الذي يحيط بالقرية من كلِّ جانب ويمنحها هويَّة مربِكة وقمعيَّة بعض الشيء، تواجهها نات بنفسها، فتؤثِّر فيها وفي علاقاتها بجيرانها.

هكذا، يبدأ الفشل في رسم ملامحه الأولى تارةً عبر الصمت، وتارةً عبر ارتكاب الأخطاء؛ أحياناً عبر إطلاق الأحكام المسبقة على الأشياء والأشخاص، وأحياناً أخرى عبر المحرَّمات. تعبِّر الكاتبة عن هذا كلِّه مثقلةً المكان بأعباء لغويَّة، لتثير بذلك قضيَّة اللُّغة، وتتعامل معها ليس كوسيلة من وسائل التواصل فحسب، وإنَّما كشكل من أشكال الاستبعاد، الإقصاء والاختلاف. 
في خضمِّ هذا كلّه تجد نات نفسها مرتبطةً بعلاقة عاطفيَّة عشوائيَّة مع أندريس، الذي يعمل مزارعاً أحياناً، ومصلح أيّ شيء في المنزل الذي انتقلت إليه البطلة. 

مع مرور الوقت، تجد نات أنَّ عنصر الجذب والانبهار في علاقتها العاطفيَّة بأندريس يعود إلى ابتذاله وجلافة شخصيَّته الألمانيَّة، بل وإلى نبْذ المجتمع له كذلك. تتّضح شيئاً فشيئاً العلاقة بين الطرفين، بما في ذلك العلاقة "التعاقديَّة" التي تُفصح عنها الروائيَّة الإسبانيَّة ببطء، مضيفةً بذلك طابع الإثارة إلى الرواية. إنَّه الحبُّ، إذاً، عنواناً للرواية وسخريةً بمعنى واحدٍ: الشغَف تجاه الشهوة الجنسيَّة، البشاعة وما هو غير جذَّاب؛ وهو ما تستند إليه كاتبة العمل كنقطة بداية لتحليل عميق وتفصيليّ لتوقُّعات الرومانسيَّة العاطفيَّة. ضمن هذا السياق، لا تتردَّد سارة ميسا في الاصطدام كذلك بالقارئ، مثيرةً قضيَّة الأخلاق وحدودها في عمل محفوف بالمخاطر تظهر فيه، تماماً على غرار المأساة الإغريقيَّة، دوافعُ وحوافزُ الأبطال تدريجيّاً، وبطريقة غير متوقَّعة، توازياً مع مجتمعٍ يؤسِّس محرقَته أو كبش فدائه.

الصورة
رواية حب

هكذا، في ضوء مجتمع يغيب فيه المعنى، وفي ظلِّ علاقات عاطفيَّة أو اجتماعيَّة أو مهنيَّة تغيب فيها المعاملة بالمثل، تتحوَّل بطلة العمل نات إلى "كبش فداء" هذا المجتمع البائس، فتستسلم أمام كلِّ شيء دون أن تعرفَ الدوافعَ أو الأسباب. تفقد ثقتها بنفسها وتشعر أنَّها لا تستحقُّ حريَّتها، وتصل إلى درجة أنَّها تسمح لمالك البيت، الذي استأجرته في القرية، بانتهاك خصوصيَّتها وحميميَّتها. "إنَّها قصَّةٌ سوداوية للغاية، حتّى بالنسبة إليَّ. نات تنتقل إلى بيئة جديدة، لكنَّها لا تتأقلم معها، فتوافق على أن تعامَل معاملة سيّئة. وهذا ليس شيئاً اخترعته، بل هي قصَّة حقيقيَّة أخبرتني بها صديقتي، وهذا في العموم وضْعُ كثير من النساء. لذلك، فإنَّ القارئ سيشعر طوال الرواية أنَّ نات تهرب من شيء ما، ربَّما من نفسها، وتلجأ إلى الترجمة، مهووسةً بالبحث عن "الأسماء الدقيقة" للأشياء"، تقول الكاتبة. 

ضمن هذا السياق، لا غروَ أن تطوِّر سارة ميسا أنموذجاً سرديّاً يعتمد على قفزات فضفاضة إلى حدٍّ ما - تماماً على غرار رواية وليام فوكنر "بينما أرقد محتضرة" - مُرتَّبةً مثل أحجية تكون فيها القِطَع المفقودة عبارةً عن قطع ناقصة لا يجد القارئ صعوبةً في ملئها.

تماماً على غرار الحياة، لا يوجد، في الروايات الجيّدة، أبطالٌ أو أشرار، بل كائنات تشهد على الحالة الإنسانيَّة المعقَّدة. وهذه هي حال "حبّ"؛ رواية كُتب نصُّها بأسلوب سرديٍّ ذكيٍّ في إطارِ نثر نظيف مُقلِق، موجَزٍ ورشيق، يُقرأ بالسرعة التي نربطها بالمتعة. لكن، ما إن نغلق الرواية حتى نشعر بأنفسنا عاجزين من جديد.


* كاتب ومترجم سوري

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون