الممنوعون من المواطنة اللغوية

الممنوعون من المواطنة اللغوية

22 ديسمبر 2020
مجسّم بعنوان "باب أوروبا" لـ ميمو بالادينو (Getty)
+ الخط -

في الرابع عشر من تموز/يوليو 1985، وقّعت كل من بلجيكا وفرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ وهولندا "اتفاقية شنغن"، التي قرّرت بموجبها إلغاء الضوابط الحدودية الداخلية تدريجياً ومنح حرية التنقل لجميع مواطني الدول الموقّعة، ودول أخرى من الاتحاد الأوروبي، وبعض الدول خارج نطاق "شنغن"، مثل سويسرا.

تبع ذلك "معاهدة شنغن" التي أكملت الاتفاقية وحدّدت الشروط والضمانات المتعلقة بإنشاء منطقة حرية التنقل، ودخلت حيز التنفيذ في التاسع عشر من حزيران/يونيو في عام 1995. شكّلت الاتفاقية والمعاهدة، فضلاً عن الاتفاقيات والنظم ذات الصلة، ما يسمى بـ"مكتسبات شنغن"، التي تم دمجها في إطار الاتحاد الأوروبي في عام 1999، وأصبحت تشكّل جزءاً أساسياً من تشريعات الاتحاد الأوروبي.

و"المكتسبات المشتركة" هي مجموعة الحقوق والالتزامات القانونية والأهداف السياسية التي توحّد وتربط الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والتي يجب قبولها دون تحفّظ من قبل الدول الراغبة في الانضمام لتكون جزءًا منه، رغم أن بعض الدول التي تقود حكوماتها أغلبية شعبوية، مثل بولندا والمجر لا تبالي بها، وتطرح مفاهيم بعيدة كل البعد عن هذه الالتزامات.  
مؤخراً، تساءل بعض الكتاب الإيطاليين والكتّاب المهاجرين فيما إذا كانت هذه "المكتسبات" يمكنها أن تشمل الأشخاص الذين يُثرون الآداب المحلية بأصوات جديدة، وبالتالي اكتساب الجنسية أو "المواطنة اللغوية"؟ وهل لا يزال من المنطقي التمييز بين الروائيين الإيطاليين والروائيين الأجانب الذين يكتبون باللغة الإيطالية؟ 

تُنبئ الإحصاءات الديمغرافية الأخيرة بأنه ليست هناك حاجة للانتظار حتى خمسين عاماً من الآن، ليصل عدد المهاجرين إلى ربع عدد السكان في إيطاليا، لأن فكرة الأصول المحلية البحتة قد تصدّعت، والأجيال الجديدة أصبح لديها رؤية مختلفة عن الأجيال السابقة التي كان هدفها توفير بعض المال والعودة إلى أرض الوطن.

الجهود الإبداعية لا تمنح مسكناً أو إقامة حتى في اللغة

مع ذلك، ما زالت رفوف المكتبات تنقسم إلى مؤلفين إيطاليين وأجانب. الأقسام الإيطالية تضم عائلة كبيرة من كتّاب عصر النهضة إلى الكتّاب المعاصرين، بينما الكتّاب الذين يحملون "أسماء غريبة"، لا يهم إذا كانوا يكتبون باللغة الإيطالية، أو حتى لو أنهم ولدوا في إيطاليا، فهم يوضعون على رفوف الأدب الأجنبي.

مع أننا في خضم عصر العولمة، لكن يبدو أن إسناد المواطنة اللغوية الكاملة، وهو نوع من اكتساب الجنسية للكتّاب الذين اختاروا الكتابة باللغة الإيطالية، هو آخر هموم هذه العولمة. وهذا ليس بأمر مستغرب، فمنذ البدايات كان واضحاً أن العولمة تسير باتجاه واحد، وتأخذ نصب عينيها المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للدول الغنية فحسب. والأدب ما زال بعيداً عن هذه المصالح، وغالباً ما يستخدم لأغراض دعائية، كأمثلة إيجابية عن الاندماج الاجتماعي والفكري.

وعلى الرغم من مرور أكثر من عقدين على نشوء هذا الأدب، فإن أعمال الكتّاب الإيطاليين القادمين من العوالم الأخرى، لا تملك بعد اسماً مشتركاً، والتعريف الأكثر شيوعاً الآن هو "أدب المهاجرين في إيطاليا" أو "أدب ما بعد الكولونيالية". تعريف يكتنفه الغموض بين الاعتراف بالقيمة الأدبية والتقييم السياسي والنظرة الأنثروبولوجية، ولا يتم التطرّق إليه سوى كظاهرة عابرة تنتظر إكمال دورتها الحياتية الطبيعية ما بين الاستمرار أو الزوال.

المؤسسات الثقافية والأوساط الأكاديمية ودور النشر، وحتى القرّاء، ما زالوا يتخذون موقفاً في وضع حدود، حسب الضرورة، بينهم وبين هذا الأدب، أي ربط المنتج الأدبي بالأصل العرقي للكاتب. حتى أننا نجد دور نشر متخصصة، جوائز متخصصة، وأطروحات ودورات جامعية متخصصة بهذا الأدب. "غيتو" حقيقي حيث خطاب التعددية الثقافية والاندماج الاجتماعي يشير، وإن كان ذلك بأفضل النوايا، إلى جدلية يبدو أنها لم تبرح بعد عقلية "المركزية الأوروبية"، أي "نحن" و"هم".

الكتّاب المهاجرون، بشكل عام، لا يطالبون بالحقوق، ولا الظهور باعتبارهم "ظاهرة ثقافية". إنهم يريدون، كما أشرت إلى ذلك في أكثر من مناسبة، أن يتم تقييم أعمالهم بناء على جودتها، التي هي في النهاية "أدب إيطالي"، يمكن تحديد ملامحه اليوم في قرى أميركا اللاتينية، في البيئات العربية المتنوعة، في السهوب الأفريقية، وفي مزارع الشاي وألوان الساري الهندي، إذ أن ما ينتجه هؤلاء الكتّاب لم يعد "ضرباً من الغرابة"، أو متعة ذلك الخيال الاستعماري الذي أطلق عليه إدوارد سعيد، مرة واحدة وإلى الأبد، اسم "الاستشراق"، لكنه نتاج أدبي بكل معنى الكلمة.

ما زالت رفوف المكتبات تنقسم إلى مؤلفين إيطاليين وأجانب

كتّاب عرب وأفارقة وآسيويون وأميركيون جنوبيون وأوربيون شرقيون، ما زالوا يغذّون الأدب الإيطالي بذكرياتهم وأحلامهم، من حكايات الأمهات، من طقوس المراهقة التي عاشوها في مواطنهم. أو ما استوعبوه من قصص آبائهم من الجيل الأول. لكن الشتات هو مفتاح عالمنا، والكتابة عن الشتات، يعني العودة إلى الأسباب الحقيقية التي أجبرت الكثيرين على النزوح من أراضيهم. صحيح أنه، مع عصر "الهجرات العظيمة"، اختفت الجغرافيا، لكن ليس فكرة الانتماء العرقي. 
لقد نشأ هذا الأدب من موجات هجرة هائلة وغير عادية: ملايين الرجال والنساء الذين ينتقلون من قارة إلى أخرى، مما أدى إلى ظهور ثقافة مكوّنة من العناصر التي تفرض تحوّلاً على جميع الثقافات المشاركة في العملية. إن نتيجة مثل هذه الحركة لا تكمن فقط في الإنتاج الأدبي الاستثنائي والحيوي، ولكن في إعادة معنى مستمر للوجود.

عادة ما يندفع الأشخاص الذين يمدّون جذورهم في مكان ما إلى حد افتراض علاقة حميمة مع اللغة المكتسبة، إلّا أن كلمة "مهاجر" تبقى عبئاً ومسارًا مجرّدًا لا يفي بالشروط المطلوبة في البيئة الجديدة، من تضارب العادات والتقاليد، إلى الممارسات العنصرية، وهنا يلعب الأدب دوراً مهماً، لأنه يتحدّث بتقنيات مختلفة عن الجموع وعن الأفراد. مع ذلك، رغم ما يبذله الكتّاب المهاجرون من جهد لمنح مغزى لثبات فعل الهجرة وتفاعله مع المجتمع الجديد، لكن يبدو أن هذه الجهود لا تمنح مسكنًا أو إقامة، حتى في اللغة.

لاستيعاب مدى أهمية هذا الأدب ذي الأطياف والألوان المتعددة، من الضروري إجراء تقييم نقدي لنتائجه. لكن كيف؟ وبأية أدوات؟ إن تحليل أي نص من نصوص الكتّاب المهاجرين، يفرض، بالتزامن، تحديد الاختلافات المتضمنة في النص، وكذلك تلك التي يمكن قراءتها بوضوح ما بين السطور، وإعطاءها أهمية متساوية، مع الإشارة بشكل خاص إلى أن أهميتها ترمز إلى وجودهم وغيابهم في الوقت نفسه!
 

* كاتب ومترجم سوري مقيم في ميلانو

المساهمون