العنصرية ضد العرب.. كما يراها مثقفون أتراك

العنصرية ضد العرب.. كما يراها مثقفون أتراك

27 سبتمبر 2023
جدارية تمثِّل حقوق الإنسان أمام مبنى حكومي تركي
+ الخط -

بعد سنوات كانت فيها تركيا ملاذاً للاجئين والمهاجرين العرب، بل ووطناً مؤقتاً لكثير منهم، بعد ما مرَّت به بلادهم من ثورات وحروب وانقلابات عسكرية، أصبحت تركيا اليوم بلداً غير آمن لهم، وخصوصاً بعد تنامي ظاهرة العنصرية ضد كلِّ اللاجئين والمهاجرين، وخصوصاً العرب، وعلى رأسهم السوريون. 

قد يفسِّر البعض هذه الموجة من العنصرية بتراجع الأحوال الاقتصادية في تركيا، ومعاناة المواطن التركي، وخصوصاً مع صعود الخطاب المُحرِّض لقسم كبير من المعارضة التركية ضد المهاجرين واللاجئين، وتصوير الأمر للمواطن التركي على أن هؤلاء من أخذوا فرصته في بلاده. وقد يكون هذا السبب جزءاً من الحقيقة، فتراجع الأحوال الاقتصادية التي أدت إلى خنق المواطن التركي، جعلته يصدِّق بسهولة أن هؤلاء اللاجئين - الحلقة الأضعف في المعادلة السياسية - هم السبب المباشر في أزمة بلاده.

إلا أنّ ما يحدث بحق العرب في تركيا اليوم، يجعلنا نفكر في أنها أكبر من مجرد "موجة" عنصرية بسبب الأزمة الاقتصادية، بعد انتشار حالات التعدِّي على السوريين بشكل واسع، وتكرار حالات القتل، في ظلِّ عدم وجود رادع رسمي من قبل الحكومة التركية تجاه العنصريين. مما يجعلنا نفكر في أن العنصرية تجاوزت مرحلة الموجة التي ربما تهدأ بعد فترة، كما حدث من قبل، لأن حالات التعدي لم تقتصر على اللاجئين والمهاجرين، بل طاولت السائحين العرب أيضاً، في بلد من المفترض أن السياحة تشكِّل أحد أهم أعمدته الاقتصادية.

ما يحدث في تركيا اليوم أكبر من مجرد "موجة" عنصرية 
 

فلماذا تغيَّرت أوضاع اللاجئين والمهاجرين في تركيا بهذه السرعة، وهل يُعرف الشعب التركي بالعنصرية خلال تاريخه؟ في هذا السياق، يجيب المؤرخ الموسيقي التركي مراد أوزيلدريم في حديثه إلى "العربي الجديد" ويقول: "نواجه دعاية معادية للعرب في تركيا على وسائل التواصل الاجتماعي، ويعتمد معظمها على أخبار كاذبة. إلا أن تركيا ليست دولة أجنبية بالنسبة للعرب، فالأتراك والعرب تربطهم علاقات حضارية عمرها آلاف السنين تقوم على الأخوة والقرابة. وبينما يعيش مئات الآلاف من المواطنين ذوي الأصول العربية في مختلف المدن التركية، ويوجد مئات الآلاف من الأتراك في الدول العربية، فإن العنصرية تفقد معناها. لا توجد عنصرية في تاريخ الحضارة التركية، فهي قضية مستوردة بالكامل".

الصورة
مراد أوزيلدريم
المؤرخ الموسيقي مراد أوزيلدريم

بينما يرى المخرج التركي ذو الأصل العربي حسن أوزجون أن العنصرية ليست شيئاً جديداً في تركيا. إذ يقول في حديثه إلى "العربي الجديد": "منذ سنوات، شهدنا أنواعاً عديدة من الممارسات العنصرية، خاصة ضد العلويين والأكراد. فقد شهدنا إجبار العلويين على الهجرة من مناطقهم، وفصل الأكراد من وظائفهم لمجرد أنهم أكراد. لكن لم يكن مستوى العنصرية آنذاك مثل التي ظهرت على شكل العداء تجاه اللاجئين والمهاجرين في السنوات الأخيرة بتركيا. المهاجرون واللاجئون الآن مسؤولون عن كل شيء تقريباً في تركيا: المشاكل الاقتصادية، المشاكل الاجتماعية، الأزمات السياسية وحتى مشاكل المرور، وللأسف، صارت للعنصرية قاعدة جماهيرية واسعة".

أما المصورة والكاتبة ماليسَّا ماي فترى أنها ليست متأكدة من أن العنصرية قد زادت أم أننا صرنا نراها الآن، وتعزو أسباب العنصرية في تركيا والعالم الآن إلى عدة عوامل. إذ تقول في حديثها إلى "العربي الجديد": "السبب الأكبر لتجدد العنصرية، سواء في بلادنا أو في العالم، هو التغير الاقتصادي والانخفاض التدريجي في الموارد. في رأيي، النظام العالمي المتغير، والانتشار السريع للأخبار، وخصوصاً المزيفة تسبب في زيادة مفاجئة في انفعالات مثل الحقد والكراهية والغضب. هناك شريحة غنية في الأطراف، وشريحة فقيرة في القاع، وصلت إلى مستوى الجوع، وقلقة بشأن الغد، وفي حالة من عدم اليقين. وهذا يجعل عقولهم وأرواحهم مشوشة بشكل رهيب. والمهاجرون الذين أتوا إلى بلاد غير بلادهم خائفون أيضاً، لقد هربوا، ويريدون التمسك بالعيش كأمل أخير".

إلا أن الشاعر جينك غوندوغدو يرى أنه لا يمكن لأي أزمة، سواء كانت اقتصادية أو سياسية، أن تبرر العنصرية أو تجعلها موضوعاً عادياً. إذ يقول: "العنصرية مرض فظيع. إنه طريق مرعب يبدأ بالاحتقار والازدراء وإسكات الآخر وعدم الاستماع إليه، ويمتد إلى حرق الناس والقضاء عليهم والحروب والدمار". ويُرجع الشاعر التركي أسباب تزايد العنصرية في تركيا إلى غياب الديمقراطية. إذ يقول: "الديمقراطية تمكننا من فهم بعضنا بعضاً، والنظر إلى العالم بعيون مختلفة. وإذا لم يحدث هذا فسيكون (الآخر) عدواً محتملاً ويجب إسكاته وتجاهله واحتقاره وتدميره. العنصرية في مجتمعات مثل مجتمعنا حيث لا توجد ديمقراطية، هي البنزين الذي سيتم تأجيجه. وبين عشية وضحاها سيتحول (الآخر) إلى نار كبيرة بشرارة صغيرة. إن أعظم احتياط ضد الحرائق هو الديمقراطية والعدالة".

الصورة
جينك غوندوغدو
الشاعر جينك غوندوغدو

تتعدد أسباب العنصرية في تركيا اليوم، ويرى الشاعر والقاص خليل إبراهيم أوزجان، رئيس نادي القلم الدولي في تركيا، أن الخطاب العنصري الذي ينتهجه القوميون هو السبب الرئيسي للعنصرية. إذ يقول في حديثه إلى "العربي الجديد": "صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في تركيا اليوم، كما هو الحال في أوروبا، سبب أساسي في تفاقم كراهية الأجانب من خلال تغذية النزعة القومية المتزايدة. هناك عنصرية وحشية في تركيا اليوم، خاصة ضد الفارين من الحرب في سورية، ومؤخراً ضد القادمين من أفغانستان. ورغم أنه من المفترض أن المهاجرين واللاجئين يتمتعون بحقوق قانونية، إلا أن هذا للأسف لا يُطبَّق في الشوارع، ويتم التعامل مع الأجانب بعدائية. إنه أمر محزن".

وفي محاولة لإيجاد حلٍّ لوقف العنصرية، قامت مجموعة من الصحافيين الأتراك بإطلاق حملة جديدة قبل أيام باسم "نحن أمة واحدة" لمكافحة العنصرية ضد العرب في تركيا. ومن أبرز هذه الأسماء السياسي والكاتب ياسين أقطاي، إذ يقول: "لون بشرتنا قد يكون مختلفاً، لكن قلوبنا بلا ألوان. العنصرية مرض يعيق تقدم البشرية"، بينما قال الصحافي توران كشلاقجي: "المؤمنون جسدٌ واحدٌ، وهناك من يرغب في تقسيم هذا الجسد"، وقال الصحافي كمال أوزار: "في الآونة الأخيرة قام بعض الأشخاص الذين يزعمون أنهم أتراك بزرع بذور العنصرية في تركيا".

الملاحظ على هذه الحملة والحملات السابقة لها أن أغلب المشاركين فيها من المحسوبين على التيار الإسلامي. وهو الأمر الذي لم يتغير في تركيا منذ بداية الوجود العربي فيها. خطاب إسلامي متضامن مع المهاجرين واللاجئين العرب في مقابل تجاهل القطاع الأكبر من التيار العلماني لقضية العرب برمتها، وتصاعد خطاب قومي عنصري ضد العرب، وغياب القرارات الحاسمة من قبل الحكومة التركية لوقف الممارسات العنصرية.

وفي هذا السياق، يرى المخرج حسن أوزجون أن الحكومة التركية هي المسؤول الأساسي عما يحدث في قضية الممارسات العنصرية. إذ يقول: "هذه العنصرية حدثت في البداية منذ أن استخدمت الحكومة خطاباً استفز المواطنين الأتراك بشكل خفي ضد المهاجرين واللاجئين، وأقصد هنا خطاب "المهاجرين والأنصار"، الذي تبنته الحكومة. وقد بدأ العمال اللاجئون، وخاصة السوريين، في العمل بتركيا مقابل لا شيء تقريباً، فقط لتغطية نفقاتهم. وكانت هذه ورقة رابحة وفرصة نادرة لرأس المال التركي، حيث قالوا للعمال الأتراك: "انظروا، هناك عمال يعملون بجهد أكبر وأرخص منكم". ومع تعمق الأزمة الاقتصادية لاحقاً، تبنَّت جميع المعارضة الرسمية تقريباً سياسات عنصرية ضد المهاجرين كي يجلبوا الأصوات في الانتخابات، وهو الأمر الذي غيَّر أبعاد السياسة التركية. فحتى حزب المعارضة الرئيسي، الذي من المتوقع أن ينفذ سياسات ديمقراطية اجتماعية، نفذ ممارسات عنصرية".

يختلف موقف المثقفين الأتراك تجاه الحلول التي من شأنها أن تحدَّ من العنصرية في تركيا. يفضِّل بعضهم الحلول الثقافية ومحاولات إدماج المهاجرين واللاجئين، مثل الشاعر عدنان أوزار، المعروف بأنشطته في هذا المجال خلال السنوات الماضية. يقول في حديثه إلى "العربي الجديد": "الفعاليات الثقافية بمعناها الواسع، التي تتضمن تعليم اللغة للأجانب لها دور مهم للغاية لمكافحة العنصرية، وكان من المفترض أن تُقام فعاليات ثقافية أكثر، ويتم الاهتمام بدمج المهاجرين في المجتمع. أنا على استعداد أنا وغيري للعمل في هذا المجال، لكننا، للأسف، قليلون للغاية".

كما يدعو الشاعر والقاص إبراهيم أوزجان الأتراك إلى عدم النظر للمهاجرين على أساس دينهم أو عرقهم أو جنسيتهم أو جنسهم، ويوجه رسالة للأجانب المقيمين في تركيا، إذ يقول: "يحتاج الأجانب الذين يعيشون في تركيا إلى اتخاذ المزيد من الخطوات في ما يتعلق بالاندماج. وبطبيعة الحال، سوف يستغرق هذا وقتاً". ويرى أن "المنظمات غير الحكومية أكثر اجتهاداً في مكافحة العنصرية وكراهية الأجانب".

الصورة
خليل إبراهيم أوزجان
الشاعر والقاص خليل إبراهيم أوزجان

وهناك من يرى أن الحلَّ سياسي في المقام الأول، مثل المخرج حسن أوزجون، الذي يرى أن الأزمة الاقتصادية تعرقل التغلب على العنصرية في المدى القريب. إذ يقول: "لا يمكن أن يكون هناك حل للعنصرية سوى تعزيز وصعود حركة الطبقة العاملة في تركيا. يمكن أن يؤدي ذلك إلى صعود التضامن العمالي. عندها فقط يمكن كسر هذه الموجة العنصرية. وهناك أمثلة صغيرة على ذلك. في السنوات الأخيرة، كانت هناك إضرابات لعمال الأحذية في أضنة وغازي عنتاب وإزمير. اجتمع العمال السوريون والأتراك، الذين عادة ما يتنافسون، واتحدوا للمرة الأولى. وقاموا بإضرابات مشتركة وحصلوا في النهاية على الأجور والحقوق التي أرادوها. لقد كانت هذه تجربة أصلية ومهمة جداً للتضامن الطبقي، لكنها للأسف ظلت محلية. ومن الضروري التوسع في هذا ونشره. ولهذا يجب أن تنمو الحركة الطبقية، وبخلاف ذلك لا أعتقد أن هناك أي إمكانية أخرى يمكن أن تمنع العنصرية".

العنصرية مرض فظيع، يبدأ بالازدراء وينتهي بالدمار

ويجمع مراد أوزيلدريم بين الحلول السياسية إلى جانب الدور الثقافي للحدِّ من العنصرية، إذ يقول: "وقف العنصرية يبدأ بمنع الأخبار الكاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الآونة الأخيرة، اتخذت وزارة الداخلية إجراءات جدية للغاية بشأن هذه القضية وسيتم تقديم الذين ينشرون أخباراً كاذبة إلى العدالة. وفي هذا الصدد، من الضروري التصرف بسرعة. إذا أردنا وقف العنصرية فلا بد من إقامة الندوات والمؤتمرات في المدارس والجامعات للوقاية منها".

وأخيراً يؤكد الشاعر والقاص خليل إبراهيم أوزجان على أهمية التضامن مع المهاجرين واللاجئين، إذ يقول: "يمكن لأي شخص أن يكون مهاجراً أو لاجئاً في عالمنا الصغير. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك في التاريخ. يجب أن يعتمد كل شيء على فهم الناس بعضهم لبعض، لأن العالم يجب أن يكون كافياً لنا جميعاً. فالناس لا يغادرون أوطانهم اعتباطاً. يهاجرون إلى أماكن يأملون أن يعيشوا فيها حياة أفضل، بسبب آرائهم السياسية أو بعد الأزمات الاقتصادية. وهذا ليس بالأمر السهل على الإطلاق. الحدود لا تسمح للجميع بالعبور. وتحدث معظم الوفيات عند هذه المعابر الحدودية المأساوية".

 

المساهمون