"أهل الدار": نواةُ مسرح عربيّ في تركيا

"أهل الدار": نواةُ مسرح عربيّ في تركيا

09 فبراير 2021
من أحد عروض الفرقة في مدينة إزمير
+ الخط -

رغم ما تعرّض له العرب في جنوب تركيا من عمليات تتريك شملت، منذ ضمّ لواء إسكندرون عام 1939، منْع التحدّث بالعربية أو بأيّ لغةٍ أُخرى غير التركية في المؤسسات العامة حتى عقدين ماضيين، إلا أنّ هناك بعض المحاولات التي استمرّت في سبيل الحفاظ على الهوية العربية في المنطقة. من أبرز هذه المحاولات فرقة "أهل الدار" المسرحيّة التي أسّسها المخرج التركي ذو الأصل العربي حسن أوزجون، في مدينة أنطاكية أولاً، قبل أن يتّسع نطاق عملها وجمهورها ليشمل أغلب مدن تركيا الجنوبية.

ابتدع أوزجون، أوّل الأمر، شخصيّةً لنفسه أسماها "فَرْفُور"، وبدأ بتقديم أعمال تنتمي إلى المونودراما، لاقت نجاحاً كبيراً بين أهل مدينته، أنطاكية، بحكم معرفتهم بالعربية، باستثناء الأجيال الشابة. هكذا رأتِ النور نواةُ أوّل مسرح عربي في تركيا. حول بدايات هذه التجربة والظروف التي جاءت فيها، يقول المخرج حسن أوزجون في حديثٍ إلى "العربي الجديد": "نحن، مع الأسف، أوّل فرقة مسرحية عربية في تركيا. وأقول مع الأسف لأن شعباً يملك ثقافة قديمة على هذه الأرض حُرم لعقود من تقديم أيّ عملٍ فنّي وثقافيّ يتعلّق بهويته. هذا وضع مؤلم للغاية. لقد تعلّمت اللغة التركية في الصف الأول الابتدائي، وكالعديد من أبناء جيلي، تعرّضت للضرب والعقاب كثيراً في المدرسة عندما كنت أتحدّث العربية. ضمن هذا الواقع تحديداً، بدأت عملي المسرحيّ بلغتي الأمّ - وهي العربية بالتأكيد - رغم كل شيء، وأنا مستمرّ منذ ذلك الحين. أشعر وأنا أتحدّث بالعربية على المسرح أنني آخذ حقّي من المعلّمين الذين عاقبوني بالضرب وأنا صغير، بسبب تحدُّثي هذه اللغة في المدرسة". 

عبر فنّ بسيط، تطرح الفرقة وتناقش إشكاليات تتريك العرب

ويضيف أوزجون: "بعد هذه الفترة الأولى، أسّسنا فرقة "أهل الدار" عام 2008. وقد واجهنا الكثير من الصعوبات منذ الأيام الأولى، لكنْ لم يكن أمامنا إلّا أنْ نواجه الحظر والعقوبات والضغوط. تعرّضت للاعتقال أكثر من مرّة بسبب تأسيسي لمسرح عربي في تركيا، حتى إننا نحضّر بعض الأعمال ونحن نعلم أنّنا سنُعتقل بعد العرض مباشرة. إلا أننا لم نتراجع رغم هذه الضغوط، وواصلنا بإصرار ليكون هناك مسرح عربيّ في تركيا. لم يواجه مسرحُنا المنع في السنوات الأخيرة، لكنّنا نعاني 
من صعوبات من نوع آخر، كعدم توفّر أماكن للعرض، وصعوبة الحصول على الأوراق والأذون الرسمية".

وبخصوص الموضوعات التي تقدمها "أهل الدار" يقول: "عادةً ما نقدّم أعمالاً تنتمي إلى الكوميديا والكوميديا السياسية والتراجيكوميديا. نستمدّ موضوعاتنا من حياتنا اليومية والقضايا الاجتماعية التي تخصّ أهلنا في مدن وقرى جنوب تركيا، ومن القيم الثقافية التي حاولت السلطات محوَها على مدار عقود. نقوم بكتابة النصّ بشكل جماعي، ونختار موضوعاتنا بشكل جماعي أيضاً. أحمل صفة ممثّل، فحسب، أثناء اختيار الموضوع، وأتحوّل إلى العمل كمسؤول ومخرج للعمل في اللمسات الأخيرة فقط. تعمل فرقتنا وفق ثلاثة مبادئ يجب أن يتضمّنها أيّ واحد من عروضنا: أن يكون مسرحنا باللغة العربية، وذلك ضد التتريك، وأن نقف بجوار المضطهدين والمهمشين، وأن يوضع العمل الفنّي من منظورٍ نسويّ، وذلك ضد الهيمنة الذكورية".

وحول استقبال الجمهور، في عدد من المدن، لمسرح "أهل الدار"، يشير المخرج: "من المعروف أنّ أغلب الذين ينتمون إلى أصول عربية في تركيا يعيشون في الجنوب، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ولذلك فإنّنا نقدّم عروضنا بشكل مكثّف في هذه المنطقة ومدنها، مثل أنطاكية وإسكندرون وأضنة ومرسين وطرسوس. نتنقّل بين هذه المدن وضواحيها، ونتلقّى ردوداً إيجابية غالباً من أهلها، الذين يشتاقون لحضور عروض بلغتهم الأم. وغالباً ما يحضر في مثل هذه العروض ما لا يقل عن ألف شخص، ويرتفع هذا الرقم إلى عشرة آلاف في المهرجانات الكبرى. بدأنا، في السنوات الأخيرة، تقديم عروض أمام أهالينا المهاجرين في بعض المدن الكبرى، مثل إسطنبول وإزمير".

يُحسب للفرقة مساهمتها في الحفاظ على العربية جنوب تركيا

وعن سؤال العلاقة بين الفن والمجتمع، والغاية من تقديم مسرح عربي في تركيا، يقول أوزجون: "منذ سنوات والعمل على تتريك العرب في جنوب تركيا يجري بشكل منهجي، سواء على مستوى اللغة أو الثقافة بشكل عام. وقد فكّرنا في طريقة لمواجهة هذا التتريك من خلال الفن. ذلك أننا نعتقد أن اللغة الأمّ هي التي تحمل ثقافة كل شعب وهويته وذاكرته الجماعية، وأن الشعب الذي يفقد لغته يفقد معها كينونته أيضاً. نقدّم مسرحنا من هذا المنطلق، ولا أريد أن يُفهم كلامي على أنه تأييد للقومية؛ على العكس من ذلك، نحن نضع حدوداً فاصلة وواضحة بيننا وبين القومية، ونؤمن بأخوة الشعوب، ولكنّ هناك حلقةً مفقودة في سلسلة شعوب تركيا، ألا وهي حلقة العرب".

تظل مشكلة الدعم من أبرز إشكاليات المشاريع الثقافية المستقلة، وهو ما تعاني منه فرقة "أهل الدار" بدورها. "مع الأسف، لا يوجد لدينا أيّ دعم رسمي أو غير رسمي.ونتعاون فيما بيننا لتغطية تكاليف العروض، ولا يحصل أيّ شخص منّا على راتب من هذا العمل. لدى أعضاء الفرقة مهن مختلفة: منهم معلمون وعمال وطلاب. ونواجه بالطبع العديد من العقبات بسبب غياب الدعم، إلا أننا لا نريد أن تكون هذه الأسباب ذريعةً للتوقّف. هدفُنا هو مواصلة ما بدأناه".

أسّس أوزجون قبل عدّة سنواتٍ مركزاً ثقافياً يحمل اسم "أهل الدار" أيضاً، ويصف عمل المركز بالقول: "كنا وصلنا إلى مرحلة نحتاج فيها إلى تأسيس مساحة خاصّة بنا، ولذلك أسسنا مركز أهل الدار للثقافة والفنون عام 2012. قمنا بترميم بيت قديم عمره ثلاثة قرون. وإلى جانب العروض المسرحية، نقدّم في المركز عروضاً للموسيقى العربية أيضاً، ولقاءات حول الأدب العربي والفلكلور الشعبي. كما يقدّم المركز دورات لتعليم اللغة العربية، في مسعى لسدّ الفجوة التي اتسعت عبر عقود بين جيل الأجداد والأحفاد".

رغم قلّة الإمكانات المادية، والظروف الصعبة التي نشأت فيها وتمرّ بها الفرقة حتى يومنا هذا، إلا أنها تعدّ نواةً لمسرح عربي من المنتظر أن تؤتي ثمارها خلال السنوات القادمة. ومهما يكن، فإن يُحسب لـ"أهل الدار" نجاحها الملحوظ الذي حققته في مدن الجنوب التركي، سواء على مستوى المساهمة في الحفاظ على العربية فيها أو طرح ومناقشة إشكاليات التتريك عبر طرق فنية بسيطة. 

بسبب جائحة كورونا، اضطرت الفرقة إلى إيقاف عروضها الحيّة، لكنّها استمرّت بالتواصل مع جمهورها افتراضيّاً، حيث قدّمت عرضاً نُقل عبر الإنترنت منتصف تمّوز/ يوليو من العام الماضي، بمناسبة "عيد الحصاد".

المساهمون