الأحلام تتّصل من سراديب

الأحلام تتّصل من سراديب

18 فبراير 2023
بير كيركيبي/ الدنمارك
+ الخط -

1

ما إنْ تذكر واحداً حتّى تتذكّر مُجاوره الذي يتّصل به من نفقٍ عادةً ما يكون في شبكة من الطوابقِ تختلفُ إنارتها الداخلية. كلّ الأحلام تبدو جديدةً، بمعنى لم تكن يوماً مأهولةً لكنّها مهدومة جزئياً، تشغلها أنقاض، أنقاض جديدة بيضاء عموماً، ذلك النوع من الأنقاض بين الغرف، الذي يبقى في الغرف أو في الصالات الكبيرة الشاسعة أو في الممرّات بعد أن تركه البُناةُ المفترَضون لسبب ما دون أن يُنهوهُ، كأنهم يئسوا لأن الأنقاض تتراكم في الردهات كلّما حاولوا أن يُخلوها... لكنْ ليس هذا فقط، ثمّة أنقاض، دائماً بيضاء، تُضاف كلّما يغادرونها.

عادةً ما لا يغادرون البناء أو لنقل شبكة من الأبنية سوى ليظهروا في جزء آخر... مثلاً، حلم أنّ عاصفةً سريعة أطاحت بعريشةٍ من الحديدِ على السطح، والكلب الذي أخذوه إلى مدرسة الكلاب ليتخلّصوا منه في الليلة ذاتها ظهر بطريقة عجائبية في ساحة القرية.

البناةُ المفترَضون، لأنكَ لم ترهم مرّةً، تحدس وجودهم حَسبُ من الأنقاض التي تركوها بين الغرف، إذ لا ينهون شيئاً. هكذا الغرفُ تبقى جديدة والأنقاضُ أيضاً... والبناةُ يبقون فِتياناً.


2

وصلنا إلى أرضِ جذورٍ مقلوبة. مبتسمين أخذنا أمامها صوراً تذكارية، بينما نسند أقدامنا إلى عروقها الثخينة الملتفّة، ما زال يصعد منها بخارُ الأرض. وراءنا في أنساقٍ المحاريثُ الهائلة ذات النّصال الحديدِ الأبيضِ تَبرِقُ. امتدحنا المحاريثَ، ومُتونها الغائرة في الأديم، الأثلامَ الضخمة التي حفرَتْها بعمق ستِّ قاماتٍ من تلك التي لحرّاسٍ يقفون وراء رماحهم على مداخل البوّابات في أور... بارتفاع الدنان العظيمة التي ملأوها زيتاً وخمراً من أجل خلودهم قضاةُ نينوى، بلحاهم العظيمة تطول إلى الأرض.

قبل أن نذهب أضفنا حكمةً دهريّةً على دفترٍ أمام بوّابة الحقول: الترابُ هذا لم يرَ الشمسَ يوماً...


3

كان ذلك بمناسبة ذكرى غامضة فيها أنّنا ننزل أدراجاً متعرّجة وممرّات إسمنتية تنتهي إلى منحدرٍ تُرابي سامق تحت الجسر... قلتِ شيئاً لم أفهمه وهززتُ رأسي موافقاً، كان مستحيلاً أن أسمعكِ، الصخب كان عظيماً.

كشّافاتٌ مبهِرةٌ تُضيء المكانَ، طبولٌ وموسيقى وأبواق، وطعامٌ ساخن يتصاعد منه البخار. متجوّلون يعرضون أشياءَ صغيرةً على طاولاتٍ من تلك التي تُطوى، وثمّة أرانب صغيرة على إحداها، وظيفتها أن تلتقط بأفواهها أوراق الحظّ المطوية... حين تَفتح الورقة التي سحبها الأرنب تعرف متى ستقع في الحب، وكم منعطفاً أمامك ستعبر قبل أن تصلَ، وعند أيِّ مفرقٍ ستعود من أوّل الدرب، وكيف ستهلك سريعاً إنْ لم تردد فوراً سبع مراتٍ تعويذةً في لافتةٍ أمامك على الطاولة.

طلبنا أن يسحب لنا الأرنب حظنا، لكنّ الأرنب تراجع حين رآنا، وانسحب إلى قفصه وعيناه تحملقان في لا شيء. صاحبه صار ينظر إلينا كمَن يتأمّل كائناتٍ من الفضاء.


4

أرضٌ من رملٍ أبيض في تناقضٍ مُذهِل مع النباتات الخضراء الكثيفة في جوانب السواقي. كنّا ندور مع أصدقاء حول البيت لنريهم المكان (وراءَ الرملِ الأبيض الشجيراتُ والسواقي). بوضوحٍ بالنسبة لهم كنتِ سيّدةَ البيت، قلتُ ربما اكتشفوا ذلك ولاحظوه وأعجبهم، دون أن يقولوا... ثم إنّي كنت لاحظته في أثناء جولتنا، أكيدٌ أن ذلك كان جليّاً لهم حين كنتِ تدْعينهم في الأماكن الضيّقة أنْ تفضّلوا...

المواضع الضيّقة تلك كانت جسوراً قصيرة تكفي للعبور فوق ساقية، كنت أنشئُ واحداً منها كلّما تسنّى لي. الجسر من هذه يحتاج إلى ثلاث قطع أو أربع من جذوع الحور المقطوعة، أغطّيها بأغصان متشابكة وأعشاب، وفوقها التراب، بحيث تتّصل بما حولها بلا حدود. هكذا تبدو من بعيد مجرّد مرتفعٍ طفيفٍ في أرضٍ بيضاءَ تقطعها السواقي. تذكّرتُ الآن: بناء جسور صغيرة كانت هوايتي صبيّاً.

المفاجأة لي كانت في الأطراف البعيدة، الأشتال التي كنت نسيتُ متى زرعتُها، كلّها كانت مشغولة بالورد الأصفر، بالورد تحديداً. وردٌ جوريّ أصفر كبير، أشتالٌ كثيفة وقريبة من بعضها ومليئة بالورد لدرجة أنّك لا ترى أغصانها... لم أفهم لماذا هذه الأشتال الصغيرة، التي لا تتجاوز ذراعاً واحدة في ارتفاعها، قد امتلأت كلّ هذا بالورد. عطرُه كان نافذاً يملأ هواء الظهيرة، أو يعود إلينا مع الهواء كلّما ابتعدنا...


5

تحت قشرة الصحراء أروقةُ تذوّقِ الأسماك... كأن تتذوّقي القريدس المجمّد بالتهامه دون استخدام اليدين، هكذا بالفم مباشرةً...
صاحب المطعم لا يقول شيئاً، يدلّنا فقط إلى مكامن الأسماك الألذّ ضمن كُتَل الثلج الهشّ. ما من خزائنَ أو ثلّاجاتٍ أو ما يشبهها. هكذا تحت سطح الصحراء مباشرةً...

في أروقة الأسماك كنتِ تقبّلينني بخفّة، بالأوبار الدقيقة حول فمكِ دون أن تُفتري عن شفتيكِ. أحببتُ ذلك كثيراً...
أو بينما نعود وكنتُ أشرح شيئاً ما لأحدهم كان يمشي معنا، تركتهُ يمضي أمامنا، كما تتركُ جرواً صغيراً يعدو بعيداً لأنّ النهار كان في آخرهِ...

أو لأنّ معطفَهُ الأبيضَ أضاءته الشمس، أو كيما تتوقّف كل قليلٍ لتفكّر في ما قاله،
أو لأقول شيئاً ما لا يُقال إلّا وقوفاً...
فكّرتُ: أن تقبّليني بشفتين شهيّتين مبلولتين حارّتينِ تركتِهِ للّيل... عاد يمضي أمامنا.


6

عدنا من خرافة البستان... أنْ بينما نمشي أسألُكِ عن حدسٍ يقول أنهم ينتظروننا في بستان...
أشرتِ بيدكِ، إمّا عبرنا أمام أوّل بستانٍ بالصدفة كان هناك، قلتِ هذا هو البستان
ملأٌ غفيرٌ ينتظروننا، عيونهم تعلّقت علينا منذ أن عبرنا من البوابة... قالت الحُلوة تأخّرنا، لا بأسَ
الطيور تنتظر سنينَ، رفوف القطا في الصحراء، الغزالاتُ أمام الماءِ
آرتيميس ربّة البراري، القوسُ والسِّهام...
...
لا زمنَ يذهب أبعدَ من هذه التلالِ، تُخومِ الليل،
لا زمنَ يعرفونهُ
يدفعونه أمامهم كمَن يدفع الهموم، أو يدفع الأذى...
كمَن يدفع عربة الليل في الهاوية. 


* شاعر سوري مقيم في باريس

المساهمون