ابن رستة في اليمن العبّاسي.. أمطار وفاكهة وعسل ورياحين

ابن رستة في اليمن العبّاسي.. أمطار وفاكهة وعسل ورياحين

19 فبراير 2022
أبنية صنعاء صامدة منذ قرون (Getty)
+ الخط -

لم تحظ حواضر الجزيرة العربية باهتمام الرحالة والبلدانيين المسلمين في العصر الذهبي للاستكشافات الجغرافية والبلدانية، والسبب أن أصحاب تلك البعثات والرحلات كانوا في معظمهم من السفراء وكتاب الدواوين المبعوثين بمهمات رسمية لصالح خلفاء بغداد، أو غيرهم من حكام وملوك البلدان الإسلامية، لغايات دبلوماسية وتجارية.

ولذلك لم تكن الجزيرة العربية في ذلك الوقت هدفاً لهم، من ديار الخلافة، إضافة إلى أنها فقدت أهميتها التجارية التي كانت تحظى بها في الفترة السابقة على الإسلام، بعد أن غدت معظم طرق تجارة العالم القديم، وخصوصاً طريق الحرير، بيد حكام بغداد ومن يلوذ بهم. غير أن هذه الأهمية ستعود في فترة لاحقة مع الخلفاء الفاطميين الذين أعادوا تشغيل طرق التجارة البحرية لجنوب الجزيرة العربية مع الهند وسواحل شرقي أفريقيا، وهذا مبحث آخر.

ويمكن القول إن اليمن ومدنه وحواضره كان الغائب الأكبر عن مصنفات العصر الذهبي العباسي، مع استثناءات قليلة ربما أهمها كتاب "الأعلاق النفيسة" للرحالة والجغرافي الفارسي ابن رستة الأصفهاني الذي وضع نصاً غاية في الأهمية عن وقائع رحلته إلى اليمن في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، حين كان تحت حكم الأسرة اليعفرية، وهو بذلك سبق الجغرافي والمؤرخ اليمني الكبير أبا محمد الحسن الهمداني بعدة عقود.

يصف لنا ابن رستة مدينة صنعاء وصفاً رائعاً لا يترك فيه صغيرة ولا كبيرة إلاَّ ويكتبها، وينتقل للحديث عن مدينة شبام كوكبان عاصمة بني يعفر، ثم يصف لنا بشكل لافت آثار مدينة مأرب ويسميها مدينة سبأ، ويشير إلى أهميتها التاريخية والآثارية، غير أن نصه لا يخلو من بعض التفسيرات ذات المرجعيات الخرافية حول تاريخ اليمن القديم، وتلك سمة العصر، وليست مقصورة على رحالتنا.

وابن رستة رحالة وجغرافي مجهول، لا يعرف عنه سوى تأليفه لكتابه الكوزموغرافي "الأعلاق النفيسة"، الذي لم يصلنا منه سوى الجزء السابع، وهو المختص بالجغرافيا والفلك، ووصفه لبعض مدن اليمن يأتي ضمن رحلته للحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة في العام 290 للهجرة.


وصف صنعاء

يقول رحالتنا عن صنعاء إنها "مدينة اليمن؛ ليس باليمن ولا بتهامة ولا بالحجاز مدينة أعظم منها، ولا أكثر أهلاً وخيراً، ولا أشرف أصلاً، ولا أطيب طعاماً منها، وهي مدينة جبليّة برّيّة معتدلة الهواء، يعدل طيب هوائها في جميع السنة هواء ربيعيّاً إذا اعتدلت وطابت، ويفرش الفراش الواحد في مكان فلا يحوّل من ذلك المكان لحرّ ولا برد سنين كثيرة، وتدرك عندهم الحنطة دفعتين، والشعير والأرزّ ثلاث دفعات وأربعاً، ومن ثمارهم وعنبهم ما يدرك في السنة دفعتين أيضاً".

ويضيف: "هي مدينة كثيرة الأهل، طيّبة المنازل، بعضها فوق بعض، إلّا انها مزوّقة أكثرها بالجصّ والآجرّ والحجارة المهندمة، فمنها ما أساسه من الجصّ والآجرّ وسائرها حجارة مهندمة حسان، وبعض أرضي بناؤه الجصّ والآجرّ، وبعضها بالجصّ، وأكثر سطوحها مفروشة بالحصى لكثرة أمطارها".

ويقول إن "لأمطارها أوقات معلومة عندهم علامات لذلك، لا يخطئون، ويُمطَرون في شهور الصيف شهراً واحداً، ومن الخريف تمام أربعة أشهر، ثم تنقطع الأمطار عندهم فلا يُمطَرون أصلا إلى مثل ذلك الوقت من العام الآخر"، ويشير إلى أن "ابتداء مطرهم في الوقت الذي يُمطَرون فيه بعيد العصر، وربّما تكون السماء نقيّة".

ويلاحظ ابن رستة عدم وجود علامات للمطر فالناس "يحثّون بعضهم بعضاً على الفراغ من أعمالهم حذراً من المطر فينشأ السحاب مع فراغهم، فيُمطَرون أكثره من وقت العصر إلى وقت المغرب، فيجرف السيل جميع ما يكون فيها من القذى، ويغسل تلك الكورة بأسرها، ويجري ذلك الماء إلى مزارعهم في مجار قد اتّخذوها لهذا الأمر لا يتعطّل معه شيء من هذه المياه".


أبنية وقصور

وفي وصفه لبنيان صنعاء يقول: "لم يكن لهم سور في القديم، وأُحدِث ذلك بعد فتنة ابن يعفر ملكهم، ولمدينتهم شارع يشقّها بنصفين، وينفذ إلى وادٍ تجري فيه السيول أيّام المطر في عرض دجلة أو أقلّ منها، ويسمّى السّرار، وعلى ضفّتيه قصور مبنيّة من الجصّ والآجرّ والحجارة، وعامّة هذه القصور للدبّاغين، وإليه أيضاً تنفذ فوهة أزقّتها وسوقها في ناحية مما يلي قبلتها، وبعض هذا الشارع، ولكلّ واحد من أزقّتها بابان يفضي أحدهما إلى هذا الشارع، والآخر إلى سور البلد".

وحول مسجدها الشهير يقول: "مسجد جامعها بقرب سورها مبنيٌّ من حجارة وجصّ، وهو مسجد كبير، وذكر فقهاء تلك الناحية أن هذا المسجد بني بأمر رسول الله (صلعم) بعهده، وأن في موضع المحراب قبر نبي من الأنبياء، وكان يعظم ذلك قبل بناء المسجد في المتقدّم من أجل ذلك، وإنه تولّى بناءه رجل من أصحاب النبي (صلعم) (..) لمسجدها اثنان وعشرون مؤذّنا يؤذّنون جميعهم في كلّ صلاة، أحدهم إثر الآخر، إلّا في صلاة المغرب خاصّة، ثم يأخذون جميعاً في الإقامة بصوت واحد، وهم يمشون من المنارة إلى الصفّ، فاذا انتهوا إلى الصفّ، يكونون قد فرغوا من الإقامة".


قصر غمدان

بعد ذلك يصف لنا ابن رستة قصر غمدان الذي يقع مقابل المسجد، ويقول إن أصله "قلعة بناها سام بن نوح"، وهو موضع التبابعة، حكام اليمن القدماء. ويضيف: "في هذه القلعة بئر يستقى منها الماء إلى هذه الغاية، ويقولون إنها بئر سام بن نوح، وفيها بئر أخرى، وهي البئر التي وجد فيها قتيل من المسلمين في خلافة عمر، فاشترك في قتله سبعة نفر، فقتلهم عمر جميعاً به، وقال: لو تمالى عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، وهذا حديث معروف رواه سعيد ابن المسيّب وغيره عن عمر. وإذا ارتُقيَ المقيم الباقي من بناء غمدان أشرف على جميع صنعاء".

ويمتدح ابن رستة مياه صنعاء فيقول: "في كلّ منزل من منازلهم بئر يُستقى منها للشرب، ويُفَضّل ماء الآبار على مياه العيون الجارية عندهم، ووصف فقيه منهم أنه وزن ماءً من آبارهم قليلاً مع مثله من ماء دجلة، فوجد ماء البئر أخفّ من ماء دجلة، وبقرب كلِّ مسجدٍ من مساجدهم، إلّا القليل منها، سقاية فيها ماء للسبيل ومُغتَسلٌ ومُتَوضّى كلٌّ مُصهرج".


سد صنعاء والأطعمة والفواكه

أما أطعمة الصنعانيين، ومحاصيلهم فيقول إنها تتكون من "البرّ النقيّ والعلس، وهو شبيه بالحنطة إلاَّ أنه أدقُّ من الحنطة، في سنابل لا تشبه سنابل الحنطة، عليها قشرتان إحداهما قشرة السنبلة، والأخرى قشرة مقاربة لقشر الأرزّ، فيقشَّر من قشرته ويُطحن ويخبز، فيوجد طعمه أطيب من طعم خبز الحنطة، وعندهم فواكه سَريِّة (فاخرة) مثل أنواع التفّاح والبرقوق وهو المشمش، والفرسك أنواع وهو الخوخ، ومن أنواع الإجاص ما ليس بخراسان، والكمّثرى أنواع كثيرة. وعندهم على ما زعموا قريب من سبعين لون عنب، وعندهم النخيل في قراها دون قصبتها، والموز عندهم كثير في كلّ موضع يدرك الموز عندهم في كلّ أربعين يوماً يقطع ثمرته، ولا ينقطع القطاف عنهم أبداً، وعندهم باقلي رطب (أي فول أخضر)، وقصب سكّر، وجوز، ولوز، وفستق، ورمّان، وتين، وسفرجل، وبطّيخ حسن غير طيّب، يؤكل مع السكّر، والقثّاء، وأنواع الخضر، والأترجّ (..) وعندهم قرع كبار، كلّ قرعة مثل جرّة كبيرة يباع بالأمنان مقطَّعاً، وكلّ ما كان أكبر كان أرطب".

ويتابع رحالتنا تعداد الخيرات والتجارات التي تعج بها صنعاء فيقول: "عندهم كثير كبّار (القبّار- الشفلَّح) حلو الطعم، وألوان الرياحين، والورد، والياسمين، والنرجس، والسوسن ألوان، وربّما وجد كلّها في وقت واحد، وعندهم العسل الكثير، ويفضّلون لحم البقر على لحم الضأن السمين يشترى جميع ذلك بسعر واحد، وللحوم ضأنهم وبقرهم خاصّيّة، وذلك أنها لا تنضج إلّا على الجمر، والوقود يسخنها و لا ينضجها، ومن عندهم يجلب الأدم (الأردية الجلدية) والنعال المشعّرة، والأنطاع (البسط الجلدية)، والبرود المرتفعة، والمصمَّت (ثوب بلون واحد)، والأردية، يبلغ الثوب من البرد عندهم خمسمائة دينار، وألوان الفصوص والأواني بقرانيّة، وسعوانيّة، والجزع (أنواع من الياقوت)، وأنواع الخرز يبلغ الفصّ من البقرانيّ مائة دينار وأكثر، ولهم سوق على حدة لا يباع فيها إلّا المزامير قد شدّوها حزماً ونضدوها في حوانيتهم، ولهم خانات كثيرة، ومحالّ فيها خلق كثير يعملون أواني الجزع، وأنواع الخرز".

وثمة إشارة إلى وجهاء صنعاء وأثريائها إذ يقول إنهم "قوم من نسل سيف بن ذي يزن، في غاية السراوة والنبل، يتقدّمون في ذلك وجوه سائر الكُوَرِ، وهم قوم يرجعون إلى سخاء وكرم"، ويلفت الأنظار إلى أن ضياع صنعاء هي "أجلّ ضياع، وأكثرها فاكهة، وأحسنها عمارة، وهي على ثلاثة أصناف: صنف منها أعذاء (أي لا يسقيها إلا المطر)، وصنف منها على العيون، وصنف على الآبار يستقى منها بالإبل والبقر، وصنف وهي أسراها وأكثرها قيمة، على ماء السدّ".

ويقول إن "السدّ سُكْرٌ قد اتّخذ على فوهة جبال أحاطت بمواضع تقرب من ضياعهم، قد نصبوا على أسافل ذلك السدّ أفواهاً يُجرُون منها المياه في أنهار قد احتفروها إلى ضياعهم، وكانت قراهم عشريّة قبل ولاية ابن يعفر، فوظّف ابن يعفر بدل ذلك عليهم مائتي ألف دينار".

ويبدو أن حظر التجول الليلي كان سائداً في صنعاء حين زارها ابن رستة، فها هو يقول: "الناس ينتشرون في حوائجهم بالنهار، ويجتمعون في مجالس الفقهاء وغيرهم بعد العتمة، إلى وقت يضرب فيه الكوس (أي الطبل) المنصوب على غمدان، فيسمع ذلك أهل البلد، فمن وُجد قبل صوت الكوس لم يتعرّض له، ومن وُجد بعد ذلك خارجاً حُبس وعُوقب". ولا ينسى أن يشير إلى أن الغالب على عامة أهل صنعاء وسائر اليمن التشيع، وأنهم حين يقسمون يقولون وحق أمير المؤمنين علي.


شبام كوكبان

يحدثنا ابن رستة عن شبام، وهي قاعدة حكام اليمن في زمنه بنو يعفر علماً أنها غير شبام حضرموت، وتسمى الآن شبام كوكبان، إذ يصفها بقوله إنها من صنعاء على ستّة فراسخ (أي ما يعادل 18 كلم).

الصورة
شبام كوكبان - القسم الثقافي
في شبام كوكبان (Getty)

ويضيف: "وشبام ليس إليها طريق إلاَّ طريق واحد ضيّق، يُرتقى إليها من جبل صعب قد نصبت عليه قنطرة يُعبر إليها بها، وفيها قصور كثيرة تزيد على خمسمائة، وقرى كثيرة تزيد على أربعين قرية، فيها عيون وأنهار، ومزارع، وبساتين، ونخل، و مواش لا تحصى كثرة؛ من الإبل و الدوابّ وغيرها، وفي نفس شبام سوق عظيمة، ومسجد جامع كبير، وهذه القلعة بجميع ما فيها من القرى، كانت خاصّة لابن يعفر هذا في خاصّته، وكبار قوّاده، وقراباته في هذه القلعة، وعساكره نزول على أهلها، وفيها مساكن، ومرابض تحتمل ألوفاً من الرجال والدوابّ، و تخترقها عيون كثيرة الماء".


مدينة سبأ

ينتقل ابن رستة بعد شبام كوكبان للحديث عن مدينة مأرب التي يسميها مدينة سبأ، وينسبها إلى إقليم حضرموت، حيث يقول: "من شبام إلى ناحية حضرموت إلى مدينة سبأ ثلاث مراحل (حوالي 120 كم)، ومدينة سبأ هي مدينة مذحج، وسيّدهم ابن الروبة، وله دار الضيافة من لدن الجاهليّة، وله بتلك الناحية معادن الذهب لا يشركه فيها أحد، ترتفع له منها أموال كثيرة".

ويصف آثار هذه المدينة العريقة بشكل مسهب: "بها كان قصر بلقيس وعرشها، وآثارها باقية إلى اليوم، ورسومها مستبينة، وكان قصرها من حجارة، فذلك الرسم، وتلك الأعمدة الحجريّة ثابتة في تلك المواضع إلى هذه الغاية، وهي المدينة التي تسمّى اليوم سبأ التي فيها قصر بلقيس، وإلى جانبها آثار مدينة كبيرة عجيبة البنيان، يزعم أهل سبأ أنها كانت مدينة سبأ من قبل، وهى التي ذكرها الله في كتابه فقال جلّ وعز: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ}، وأنها كانت مدينتين عظيمتين طول كلّ مدينة منها أكثر من مسيرة يوم، متقابلتين فيهما أنواع الفواكه و الثمار، ذات أشجار ملتفّة، و جنّات كثيرة، وكان السائر يسير بين أشجارها المثمرة وعلى رأسه مكتل، فلا يمشى إلاَّ قليلاً حتّى يمتلئ المكتل من ثمار تلك الأشجار من غير قطف ولا التقاط، وكان أهلها يتفاخرون بالضياع السنيّة والأبنية العجيبة، والنفقات الكثيرة، إذ كانوا أغنياء أصحاب صامت (ذهب وفضة) ومواش".

ويشير ابن رستة إلى وجود حجارة بيضاء يسميها مساند (جمع مسند) عليها كتابات بالكتابة الحميريّة، مدون فيها الأحداث التي كانت مؤرّخة، ويذكر أيضاً السدَّ الذي نقبته الفئران، بحسب المأثورات العربية القديمة "وانبثق ذلك السدّ وأتى على أهل هاتين المدينتين، فما بقي من الأموال والمواشي فيهما شيء، وجرف آثارهما، وصارتا كالوادي الذي لا زرع فيه ولا ضرع".

المساهمون