كارستن نيبور في بغداد خلال أحلك مراحلها: لا مكتبات وتفشّ للأميّة

كارستن نيبور في بغداد خلال أحلك مراحلها: لا مكتبات وتفشّ للأميّة

08 يناير 2022
أشار نيبور إلى أن القسم الأعظم من داخل بغداد مهدم وغير مسكون (Getty)
+ الخط -

تحتل رحلة الألماني كارستن نيبور (1733 - 1815) مكانة بارزة بين رحلات الغربيين إلى الشرق في القرن الثامن عشر، إن لم تكن أبرزها جميعاً، فهي، بالإضافة إلى أسلوبها الوصفي الرائق، امتازت برسم الخرائط والمعالم الأثرية، ووضع الإحصائيات، ووصف الحياة الاجتماعية للمناطق التي درسها الرحالة. ولذلك فهي مصدر أساس لأي دارس يسعى لفهم حال المشرق العربي في القرن الثامن عشر، حيث تندر المراجع، وتشح الكتب التي تتناول تلك الفترة الغامضة من تاريخ بلادنا العربية.

وكارستن نيبور بحاثة ورياضي، وعالم خرائط ألماني، انضم في العام 1760م لبعثة استكشافية مولها ملك الدنمارك فردريك الخامس، شملت مصر، وشبه الجزيرة العربية، وبلاد الرافدين، وبلاد الشام. وقد تعلم بعض العربية قبل أن يبدأ رحلته من مصر، حيث وصل إليها في كانون الثاني/ يناير 1761، ومنها اتجه إلى السويس، فسيناء، وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1762 أبحر إلى جدة، ومنها إلى مخّا ومن هناك زار صنعاء، حيث ارتدى الزي العربي اليمني، ثم توجه إلى بومباي في الهند، ثم عاد عن طريق عمان إلى المنطقة، فزار الخليج والعراق، بدءاً من البصرة وحتى الموصل، ومن هناك توجه إلى حلب، وبعد زيارة قصيرة إلى قبرص تجول في فلسطين، وعبر جبال طوروس إلى بورصة، ووصل إلى إسطنبول (القسطنطينية) في شباط/ فبراير 1767، قبل أن يعود إلى كوبنهاغن في تشرين الثاني/ نوفمبر، من العام نفسه.

ويمكن القول إن رحلة نيبور تعد واحدة من أندر المصادر عن مدينة بغداد في أواسط القرن الثامن عشر، حيث كانت المدينة تعيش واحدة من أظلم مراحلها، وأكثرها غموضاً، إذ كانت تحكمها في ذلك الوقت مجموعة من مغلقة من الباشاوات المماليك الذين شكلوا نخبة حاكمة فريدة من نوعها، تحكمت فيها لعقود طويلة امرأة هي ابنة أحدهم، ورسمت بدهائها معالم مرحلة كاملة يرصد لنا نيبور جوانب منها.  


وصف بغداد

يقول نيبور إن مدينة بغداد التي يحيط بها من جهة البر سور مبني بالقرميد، تقع في مقاطعة الخالص على الضفة الشرقية من نهر دجلة، وأنها مقر ولاية باشا من الدرجة الأولى. ويشير إلى أن "القسم الأعظم من داخل المدينة مهدم وغير مسكون، أما القسم المكتظ بالسكان فهو الذي يقع على نهر دجلة القريب من سراي الباشا، وتكثر فيه أغلب أسواق المدينة المهمة. ولذلك فإن بغداد بالنسبة إلى سائر مدن بلاد المشرق التي تكثر فيها الحدائق، مزدحمة بالسكان، وشوارعها ضيقة، وأسواقها الراقية المهمة مقببة، وفيها شوارع فرعية كثيرة تغلق مداخلها كل مساء على نحو ما هو موجود في القاهرة".

وحول بيوت المدينة التي تعاني من حرارة الصيف يقول: "معظم البيوت مبني بالقرميد، وهي عالية نوعاً ما، وما زالت هذه البيوت تحتفظ بطابع فن البناء الإسلامي، وتكاد واجهاتها المطلة على الأزقة والشوارع تكون خالية من النوافذ، فإن وجدت فيها فإنها لا ترى تقريباً. ويتوسط هذه البيوت رحبة صغيرة مربعة الشكل، تشرف عليها أحسن غرف الدار.

الصورة
بغداد أواخر القرن التاسع عشر - القسم الثقافي
من بغداد في أواخر القرن التاسع عشر (Getty)

والظاهر أن هذا الطراز من البناء في بلاد المشرق لا يتفق مع شدة حرارة الصيف التي يتذمر منها السكان. فإذا ما توسطت الشمس السماء عند الظهيرة، فإن الغرف المحيطة بهذا الصحن المربع الشكل تنقلب إلى أفران لا يمكن المكوث فيها، وذلك لخلوها من المنافذ ووسائل التهوية الطبيعية. ولكي يدفع السكان عنهم غائلة الحر الشديد في أيام الصيف فإنهم يبنون في كل بيت سرداباً يقضون فيه معظم أوقات النهار. وهذا السرداب عبارة عن غرفة مقببة فيها مجرى للهواء، يتكون من فتحة واسعة باتجاه الشمال، لأن الهواء يهب على بغداد في أحر أيام الصيف من جهة الشمال، كما هي حالة القاهرة".

أما الحرارة في فصل الشتاء فلا تنخفض كما هو الحال في ألمانيا بلاده، كما يقول، ولكنه رأى في أوائل شهر شباط/ فبراير الجليد، وكان سمكه نصف إصبع تقريباً، ويقول إن الناس يستغربون موجة الصقيع الطارئة التي تجمد فيها أكثر من عشرين شخصاً في بضع ليال، خصوصاً وأن فقراء هذه البلاد عراة ويبيتون لياليهم في الأزقة والشوارع. 


ثلاث بوابات

ويحدثنا نيبور عن وجود ثلاثة أبواب لمدينة بغداد من جهة البر؛ الباب الأول يدعى باب المعظم، وقد سمي بهذه التسمية نسبة إلى الإمام أبي حنيفة الذي يلقبه السنة بالأعظم أي المبجل، ويبعد قبره عن هذا الباب مسيرة نصف ساعة. ثم الباب الوسطاني، ثم برج الطلسم، وكان فيما مضى باباً من أهم أبواب المدينة، ولكنه كان حين زاره نيبورعبارة عن برج ضخم، ويقول إن السلطان مراد هو الذي أمر بسده ولم يفتح منذ ذلك الحين. أما الباب الثالث هو باب الجسر.

وحول تحصين المدينة يقول رحالتنا: إنها محاطة بعشرة أبراج ضخمة شبيهة بالقلاع، موزعة في واجهات سور المدينة، وقد أقيمت عليها سبعة مدافع نصفها مجهز بالقنابل. ويذكر أن ثمة أبراجا أصغر مبنية بين الأبراج الكبيرة، ولكنها تستعمل للدفاع بالبنادق فقط. ومع ذلك يشير إلى أن السور ضعيف ولا يصلح للدفاع، وليس فيه شيء من وسائل الدفاع والتقوية من الخارج، كما أن الخندق جاف خال من الماء، فهو، بحسب رأيه، لا يقف أمام هجوم قوات أوروبية، إذ يسهل عليها الاستيلاء على المدينة، في حين تعد بغداد مدينة حصينة جداً بالمعايير الشرقية، حيث صمدت أمام نادر شاه مرات عديدة حين ضرب عليها الحصار بغية الاستيلاء عليها، كما يقول.

وتلفت لامبالاة جنود الإنكشارية الذين يحرسون أبواب المدينة نظر نيبور، حيث رآهم، من دون سلاح، وقلما يدققون بالداخلين أو الخارجين من المدينة، ولا عمل لهم سوى لعب طاولة النرد، وكانوا لا يهتمون بما يجري حولهم، حتى وإن وقعت اضطرابات في الشوارع أو اختل النظام.


خراب المستنصرية

ويقول الرحالة الألماني إن قصر الباشا يقع أمام القلعة على نهر دجلة، وهو واسع جداً، ويحتوي على أبنية كثيرة، ولكن معظمها متهدم. وحول المدرسة المستنصرية التي كانت مثار إعجاب الكتاب والمؤرخين العرب يقول: "لم تعد هذه المدرسة تستعمل اليوم مسكناً للعلماء، ومركزاً للتعليم، وقد أصبح مطبخ الطلاب والعلماء الذين كانوا يسكنون ويقيمون في الجناح التابع لهذه المدرسة، داراً للجمرك، كما أن القسم الباقي من هذا المعهد، وهو القسم الأكبر، صار خاناً ينزل فيه أصحاب القوافل، ويسميه الناس خان ميدان العلف، وجميع أبنيتها متهدمة. وبامتداد واجهة البناية الواقعة على نهر دجلة كتابة طويلة يستدل منها أن الخليفة المستنصر كان قد شيد هذا البناء الواقع على دجلة سنة 630 للهجرة/ 1232 ميلادية".

وفي وصفه لنهر دجلة في بغداد يقول نيبور: "يتراوح عرض دجلة في بغداد بين ستمائة قدم، وستمائة وعشرين قدماً، وعليه جسر من القوارب رديء جداً يتكون من أربعة وثلاثين قارباً، ربطت مع بعضها البعض بثلاث سلاسل من الحديد، وهذا الجسر صالح للاستعمال في الأحوال الجوية الهادئة، وعندما يكون الجو خالياً من العواصف والزوابع، ولكنه يكون غير أمين حين يفيض النهر، وتحدث العواصف. فإذا فاض النهر فجأة ولم يسارع القائمون بحراسة الجسر، وإلى فك السلاسل في أحد جانبي النهر فوراً، فإنها تنقطع ويجرف تيار الماء القوي الجسر معه، كما حدث مثل هذا في شهر كانون الثاني/ يناير سنة 1766م عندما هبت رياح قوية من الجنوب الشرقي على المدينة".


فيضان دجلة

ويوثق رحالتنا حادثة فيضان دجلة في الشهر المذكور، ويعزوها إلى ارتفاع درجة الحرارة الذي أدى إلى ذوبان الثلوج في الجبال، وهو ما تسبب بارتفاع مستوى ماء النهر في منتصف كانون الثاني/ يناير ارتفاعاً كبيراً إلى درجة انقطعت فيها السلاسل الحديدية، وجرف الماء الجسر والقوارب معه، كما غرقت أعداد كبيرة من الماشية، وهرع الناس إلى القوارب للنجاة بأرواحهم. ويقول إن النهر واصل ارتفاعه عدة أيام أخرى بحيث فاض ماؤه على جوانبه. وفي الأيام التاسع عشر والعشرين والواحد والعشرين من الشهر أصبحت جميع الأراضي المحيطة ببغداد تحت الماء، ولكن مستواه أخذ يهبط قليلاً في اليوم العشرين من الشهر، وواصل هبوطه، ولم يعد للارتفاع ثانية إلا في وسط شهر آذار/ مارس.

ويشير نيبور إلى أن ضواحي بغداد الواقعة في الجانب الغربي من المدينة كانت في ذلك الوقت مغمورة بالماء، وهي كثيرة البساتين ولكنها خالية من السكان تقريباً. ويؤكد أن بغداد القديمة العباسية تقع في هذا القسم، حيث تكثر الأضرحة والمساجد. وإلى الشمال الغربي من بغداد يقع ضريح لإمامين هما موسى الكاظم وحفيده محمد الجواد، ويقول: "يظهر أنه كان لهذين الضريحين فيما مضى منزلة كبيرة لأن القبتين كلتيهما، والمنارة بنيت على طراز الهندسة المعمارية الفارسية، وكسيت بالآجر الملون الذي أخذ يتداعى ويتساقط شيئاً فشيئاً".


برج عقرقوف

يصف لنا رحالتنا بعض المواقع القريبة من بغداد مثل عقرقوف ، التي يقول إنها تقع على بعد ساعتين ونصف الساعة من غربي بغداد، وهي عبارة عن برج عال كثير الشبه ببرج الحلة، ولكنه ليس مبني بالآجر، وإنما باللبن المجفف بحرارة الشمس فقط. ويشير إلى أن الرحالة والسياح الغربيين يعتقدون أن برج عقرقوف هو نفسه برج بابل، ولكنه يؤكد أن برج بابل يقع بالقرب من الفرات، بينما عقرقوف لا يبعد عن دجلة كثيراً، ويعتقد أن أحد خلفاء بغداد، أو أحد ملوك الفرس الذين اتخذوا المدائن مقراً لهم شيد هذا البناء مصيفاً، وأقامه بهذا العلو لكي يلتذ بنقاوة الهواء وبرودته.

ويقول: "بالقرب من عقرقوف تلول كثيرة صغيرة، وعليها قطع كثيرة صغيرة متناثرة من كسرات الفخار والآجر، وتدل دلالة واضحة على وجود بيوت في هذا المكان، ولعلها بقايا بيوت وحدائق أو مدينة صغيرة قد تكون قسماً من بغداد القديمة".


آثار المدائن

ينتقل رحالتنا بعد ذلك للحديث عن آثار مدينة المدائن حيث يقول: "كانت فيما مضى مدينة كبيرة عامرة، وبقيت مقراً لملوك الفرس سنوات عديدة بعد وفاة الرسول محمد (ص)، وتقع على دجلة على بعد أربع ساعات تقريباً من بغداد من جهتها الجنوبية الشرقية. ولم يبق منها اليوم شيء ما خلا قسما من بلاطها الكبير، يطلق عليه تخت كسرى، أي قصر خسرو. وهذا القصر مبني من الآجر والجص، وليست عليه كتابة".

ويضيف أن في بغداد عشرين جامعاً لها مآذن في أقل تقدير، وعدد كبير من المساجد الخالية من المآذن. وفيها اثنان وعشرون خاناً كبيرة يسكنها التجار، أما البقية فهي صغيرة، كما فيها حمامات كثيرة وبيمارستان أو دار للعزل الصحي، ذات غرف قذرة ومظلمة يحجر فيها جميع المجذومين والمصابين بالأمراض السارية.


جهل مطبق

وحول الحالة العلمية للمدينة يقول نيبور: "كانت بغداد تشتهر في أيام الخلفاء بالعلوم والنشاط الثقافي، أما اليوم (1766 ميلادية) فقد أهملت هذه الناحية، وأصبحت البلاد في جهل مطبق، وفي حالة أسوأ مما في مصر واليمن. فقد وجدت في بغداد عدداً قليلاً من الناس ممن يعرفون القراءة والكتابة. وإذ كان هناك في القاهرة مكان يشتري منه المسلمون كتباً قديمة، فليس في بغداد محل كهذا أبداً، فإذا ما أراد أحد أن يقتني كتباً بغير أن يكلف نفسه عناء الاستنساخ، أو تكليف أحد به، فإنه ينتظر حتى يموت أحد الجامعين للكتب، وعندها تباع في السوق كما تباع الألبسة القديمة، وينادي عليها الدلالون للمزايدة على أثمانها".

ويعرج رحلاتنا على الحديث عن الأوضاع التجارية في المدينة فيقول إن التجارة الأوروبية ليست واسعة في بغداد، مشيراً إلى وجود وكيل للشركة الهندية الإنكليزية يأتي إليها من بومباي خصيصاً بين وقت وآخر، بهدف تصريف بضائع الشركة. كما أنه يشير إلى وجود تاجر من مدينة البندقية الإيطالية لا يجلب سلوكه الشكوك والظنون، كما هو حال بقية تجار الشركات الأجنبية الكبيرة وممثليهم.

ويختم نيبور وصفه لبغداد بسرد تاريخي مفصل لسيرة الوالي حسن باشا الذي تولى بغداد للمرة الثانية عام 1702، حيث وطد حكمه فيها، وحسَّن في أوضاعها المتردية، وحدَّ من سيطرة الإنكشارية داخل المدينة، وتصدى لقبائل الأعراب خارجها. وبعد ذلك يحدثنا عن حكم الولاة المماليك للمدينة، وخصوصاً في عهد أحمد باشا ابن حسن باشا، وسليمان باشا الذي استمد نفوذه من زوجته عادلة خاتون ابنة أحمد باشا، وكانت الحاكم الفعلي لبغداد، لسنوات طويلة.

المساهمون