جدّة عام 1854.. رحّالة فرنسي في أرض الحجاز

جدّة عام 1854.. رحّالة فرنسي في أرض الحجاز

23 أكتوبر 2021
رسم لجدّة أواخر القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

حين وصل الرحالة الفرنسي شارل ديدييه إلى جدَّة على ساحل البحر الأحمر في 22 كانون الثاني/ يناير 1854؛ فوجئ بأنها مدينة كبيرة وحيوية، بعكس الأوصاف التي زوده بها في القاهرة كل من علم برغبته في السفر إلى الحجاز، حيث قيل له إنه سيرى حياً صغيراً ليس إلا. ولذلك أحب المدينة واسترسل في وصفها، وتحدث كثيراً عن جمالياتها، ولم يغفل بعض الجوانب السلبية فيها، ومع ذلك؛ يمكن القول إنه كان من أكثر الرحالة الذين زاروا الشرق عناية بالتفاصيل الاجتماعية وحياة الناس.

وديدييه من مواليد جنيف عاصمة سويسرا الفرنسية عام 1805، وهو في الأصل ينتمي لعائلة فرنسية هاجرت إلى سويسرا هرباً من الاضطهاد في عهد نابليون. وقد درس القانون وعلم النبات والرياضيات في جنيف؛ قبل أن يستقر في باريس، ويكتشف فيها ولعه بالسفر والترحال، خصوصاً بعد أن كلفته الحكومة هناك بمهمة رسمية في بولندا، فأضحى خبيراً بشؤون هذا البلد الواقع في شرقي أوروبا، وكذلك بشؤون ألمانيا المجاورة. كما عمل في الصحافة وساهم في إصدار جريدة ومجلة، وألف كتباً عدة.

وضع ديدييه نصب عينيه هدف السفر إلى إسبانيا، ومراكش، والجزيرة العربية، وسنار، ومصر. ولكن فقدانه لبصره منعه من الاستمرار في رحلته الكبرى التي كان يخطط لاستكمالها نحو بغداد؛ عن طريق دمشق، وحلب، وبادية الرافدين الواسعة، ليصل إلى إسطنبول. ويبدو أن الهدف من رحلاته هذه؛ هو جمع المعلومات الدقيقة لصالح الحكومة الفرنسية عن هذه البلاد التي تشكل مصدر تنافس كبير مع بريطانيا، إذ كانت فرنسا في ذلك الوقت تحاول أن تحصل على حصتها من تركة الرجل المريض الذي بدا أن بريطانيا تحاول أن تستأثر بأثمن ما في هذه التركة، مكرسة جهودها لإحباط الأطماع الروسية الشرهة بأراضي السلطنة.

صدرت الطبعة الأولى من هذه الرحلة التي عنونها مؤلفها بـ"الإقامة مع شريف مكة الأكبر" في باريس عام 1857 عن دار هاشيت، وحظيت باهتمام واسع من بعض الباحثين العرب المهتمين بتاريخ الحجاز، كما صدرت لها ترجمة عربية بتوقيع المترجم الدكتور عبد الرحمن البقاعي عن دار الفيصل الثقافية عام 2001.

من القاهرة إلى جدّة
بدأ ديدييه رحلته إلى الحجاز من القاهرة إلى السويس وجبل سيناء، ودير سانت كاترين، ثم توجه إلى البحر الأحمر فمر في ميناء ينبع قاصداً جدّة التي وصفها بقوله: "كم كانت دهشتي كبيرة حين وجدتها عكس ما قيل لي في القاهرة بأنها حي صغير، إذ كانت محكمة البناء، جيدة التأسيس، تعج بالسكان، نابضة بالحياة، ومزدحمة، وجديرة على المستويات كافة أن تحمل اسمها كميناء لمكة المكرمة، وكذلك معنى اسمها بالعربية وهو الغنية".

ويقول إن مياه مينائها ضحلة، وأرصفتها الرملية محمية من جهة البحر بحصن، وبسرية مدفعية بينها مدفع ضخم من عيار 500 ملمتر، يزرع الرعب في قلوب البدو. ويشير إلى أن الجهة الأخرى من المدينة محاطة بسور سميك مرتفع بما يكفي، وهو بحالة جيدة وهو محاط بحفرة عميقة، وعليه أبراج في حالة جيدة، وبه ثلاثة أبواب، هي باب اليمن من الجنوب، وباب المدينة المنورة في الشمال، وباب مكة في الشرق. ويقول ديدييه إنه أجمل هذه الأبواب، حيث يقوم على حراسته برجان منخفضان منحوتان بمهارة فائقة. ويخبرنا الرحالة الفرنسي أن عدد سكان جدة يبلغ حوالي 20 ألف نسمة، وأنها تنقسم إلى حيين كبيرين هما؛ حي اليمن في الجنوب، وحي الشام في الشمال، بالإضافة إلى أحياء صغيرة تسكنها مجموعات متمايزة من السكان، غالباً ما يقع بينها شجارات عنيفة. أما شوارعها فهي عريضة ونظيفة نظافة مقبولة، تبدأ عادة بساحات واسعة جيدة التهوية تشكل رئة للمدينة.

بيوت جدّة
وتلفت بيوت جدة نظر شارل ديدييه فيقول إنها متينة البنيان، وتتألف من طوابق عدة، ولها أبواب على شكل أقواس؛ مبنية بالحجر، ولها مظهر جميل، ذات نوافذ واسعة تطل على الخارج. ويقول إن هذا شيء نادر في البلاد الإسلامية، لأن الحياة المنزلية مصانة، وتبنى البيوت عادة بطريقة لا تدع مجالاً لأن يتسرب أي شيء مما يحدث داخل البيوت. ويقول إن هذه النوافذ التي تشبه مشربيات القاهرة، مغطاة بشبك مصنوع من الخشب المفرّض بمهارة عجيبة، ليسمح بالرؤية من الداخل، من دون أن يتمكن من في الخارج من رؤية الداخل، وهي ملونة بألوان زاهية تتباين مع اللون الأبيض للجدران.

وحول سوق جدة يقول: "إنه يمتد على طول المدينة، ويسير موازياً للبحر، ويتصل به بوساطة شارعين جانبيين، وأنه يضم كل أنواع البضائع، وأكثرها أجنبي، وكذلك مواد غذائية محلية أو مستوردة، ونجد أن بضائع دمشق وبغداد وفارس ومصر والهند موجودة في هذا السوق عبر منتجاتها الطبيعية أو المصنعة، وتسود فيه في كل الأوقات حركة غير عادية، وليس من السهل أن يشق المرء طريقه بين أكداس البضائع، والجمال، والحمالين، ناهيك عن الكلاب الضالة والمسالمة التي تبحث عن رزقها في هذه الضوضاء".

نوبيون وحضارمة
ويشير رحالتنا إلى أن العمال في السوق أو الميناء هم في غالبيتهم من النوبيين أو الحضارمة وهؤلاء يمتازون بالوسامة، والعضلات المفتولة، والبأس الشديد، ولكنه يؤكد وجود مختلف الأعراق البشرية من الأفريقية إلى القوقازية، إضافة إلى تنوع اللغات والعادات من قبيل عرب المدن والصحراء، وتجار مسقط والبصرة، والأتراك، والسوريين، واليونانيين، والمصريين، والبربر، والهنود بأعداد كبيرة، والماليزيين، والبانيانيين، حيث يلبس كل منهم زيه الوطني، ويتكلم بلهجته الخاصة.

غير أن شارل ديدييه يلفت النظر إلى أن المسيحيين في زمن ماض لم يكونوا يستطيعون التحرك بحرية في جدة أو الحجاز، أما الآن (1854) فقد تغيرت الأمور، وأصبح المسيحيون يتمتعون بكامل حريتهم في جدة، وبأمن يوازي ما يجدونه في مصر وإسطنبول. ويقول: "لقد تجولت في أنحاء المدينة كلها، في كل الأوقات، في الليل والنهار، وحدي في غالب الأحيان، ولم يتعرض لي أحد قط، ووجدت من الناس كلهم لطفاً وإكراماً. ولم يزعجني إلا المتسولون الذين ينتشرون في كل أحياء المدينة، ويكادون جميعاً يكونون من الهنود، قدموا من أوطانهم للحج، وتقطعت بهم سبل العودة لنقص في المال، ولما لم يكن لهم أي موارد، فإنهم ظلوا هنا عالة على الناس. هناك الكثير من الحجاج المصرييين والنوبيين، وهم كالهنود في فقرهم، ولكنهم يعملون بشجاعة لكسب المبالغ الضرورية لعودتهم إلى أوطانهم".

أناقة وحرارة وأمراض مستوطنة
يؤكد ديدييه أن التجارة هي العمل الوحيد لسكان جدة، وهي توفر لهم الغنى على العموم، ويمتدح نشاط أهل هذه المدينة وخبرتهم وحيويتهم وتوقد أذهانهم، بما يتعارض مع كسل الشرقيين عموماً كما يقول. كما يمتدح أناقتهم حيث يفرطون في اقتناء أدوات الزينة، شأنهم شأن أهل مكة حيث تتشابه ملابسهم مع ملابس أهل جدة تماماً، سواء ملابس النساء، أم الرجال. ويقول إن ملابس الرجال الداخلية مصنوعة من الحرير المضلع، ذي الألوان الجذابة، وهي مشدودة على الخصر بحزام كشميري، ويلبسون فوقها عند الخروج ثوباً طويلاً مفتوحاً من الصوف الناعم يسمى الجبة المصنوعة عادة في بغداد. أما رؤوسهم فيغطونها بطاقية بيضاء مزركشة، يلتف حولها عمامة من الموسلين. والعامة لا يلبسون إلا ثوباً طويلاً من الكتان الخشن.

وفيما يتعلق بلباس النساء، يقول إنه لا يستطيع التكلم إلا بما يراه في الطريق، فالمنتميات إلى العامة منقبات، يختفين تماماً في ثوب من القطن الأزرق، أما الأخريات من الطبقة المترفة؛ فيرتدين سراويل زرقاء فضفاضة مزركشة بالفضة، ويلبسن أثواباً مزركشة مصنوعة من حرير الهند. وعندما يخرجن، وهذا نادر الحدوث، فإنهم يغطين وجوههن بخمار أبيض أو أزرق فاتح يسمى البرقع، ويلتحفن ثوباً فضفاضاً مصنوعاً من نسيج حريري صقيل (تفتة)، أسود اللون يشبه الحبرة المصرية. ويشير إلى ولع هؤلاء النساء بالمجوهرات، شأنهن شأن كل النساء في الشرق والغرب، وهن يلبسن خواتم كثيرة، وعقوداً وأساور، كلها من الذهب، ويضعن في أقدامهن خلاخيل من الفضة.

أما مثالب جدة كما يسميها؛ فهي تتعلق بطقسها الحار وقلة المياه العذبة، والأمراض المستوطنة فيها، ويقول إنه هو شخصياً عانى في بعض الأيام من هذا الطقس المؤذي، رغم أن الوقت هو منتصف شهر شباط/ فبراير. ويخبرنا ديدييه أنه لم يتمكن من السكن في أحد الخانات المنتشرة في المدينة كونه لا ينتمي لفئة التجار، ولذا استأجر لمدة شهر بيتاً له ولمساعديه في الحي الشامي، قرب بوابة المدينة المنورة، ويستطرد في الحديث عن تجارة العبيد في جدة، ويقول إن مصدر هذه التجارة هو ميناء مصوَّع، ويتحدث عن مصائر الجواري اللاتي ينتهي بهن الحال في بيوت السادة، حيث تصبح نسبة غالبة منهن زوجات شرعيات، بعد أن ينجبن أولاداً.

ويذكّرنا رحالتنا أن زيارته لجدة لم تكن بقصد رؤية جدة نفسها، وإنما بنية الذهاب إلى الطائف لروية الشريف عبد المطلب بن غالب، وهي كما يقول مدينة صغيرة تقع على مسيرة خمسة أيام إلى الداخل، مشهورة بمياهها، وجودة ثمارها، وخضرة بساتينها، ويؤكد أنها دار إقامة الشريف الأكبر، أمير مكة المكرمة الذي بنى فيها قصراً. وبعد أن يحصل على موافقة الشريف على الزيارة؛ يحضر إلى جدة في يوم 22 شباط/ فبراير مصطفى أفندي وكيل الشريف، بصحبة الهجن والرجال الذين أرسلهم أمير الحجاز لمرافقته إلى الطائف.

إلى الطائف
انطلق الموكب الشريفي إلى الطائف، وكان ديدييه قد اصطحب معه مترجم القنصلية الفرنسية في جدة، وباقي مساعديه، وقد وصلوا إلى بستان الشريف الأكبر المسمى بستان الحسينية على مشارف مكة، حيث كانت بانتظارهم وجبة دسمة هي عبارة عن خروف كبير مسلوق. وفي صبيحة اليوم التالي توجهوا إلى الطائف للقاء الشريف، وفي طريقهم صادفوا كوكبة من البدة رافقوهم في مسيرهم. وقد وصفهم ديدييه بكلمات مفعمة بالإعجاب: "ليس بالإمكان تقديم لوحة أكثر روعة، ولا استعراض أكثر تأثيراً ومفاجأة، كانوا أول بدو أشاهدهم في بيئتهم الحقيقية، وحملت لهم منذ تلك اللحظة احتراماً واستلطافاً لم تزدهما التجربة الطويلة إلا تمكناً".

وكانت الحفاوة والولائم في استقبالهم في أي محطة كانوا ينزلون فيها للاستراحة، وذلك لأنهم ضيوف الشريف الأكبر، وعندما وصلوا إلى الطائف ليلاً، ودخلوا من بوابة المدينة، وجدوها غارقة في الصمت والظلام، فتوجهوا مباشرة إلى المنزل الذي أعد لإقامتهم. وكانت فيه طاولة طعام معدة على الطريقة الأوروبية. وقد عدد لنا ما تم تقديمه لهم في ذلك العشاء كما يلي: "جاء أولاً الخروف الذي يعد من عادات الضيافة، كان محشواً بالرز واللوز والفستق. ثم تلته أوراق العنب المحشوة، والكباب، وهو قطع من اللحم مربعة ومشوية على السفود، وعصائر الورد المخثرة المطبوخة مع صدور الفراريج أو الخراف. أتت بعد ذلك تشكيلة منوعة من الحلويات تسمى الفطير، ناهيك عن الأشياء العجيبة، كان كل ذلك متبلاً بالأعشاب العطرية المقطعة في الخل، وله صلصة بالكريما المطيبة بالتوابل، وهو خليط كان يثير الرعب لدى بدر الدين حسن الحلواني المشهور في "ألف ليلة وليلة". ثم أعلن عن تقديم البيلاف نهاية العشاء الذي جرت مراسمه بسرعة كبيرة".

في قصر الشريف
توجه شارل ديدييه (الصورة) للقاء الشريف عبد المطلب، الذي كان يسكن في قصره على مسافة من مدينة الطائف، وقد لاحظ رحالتنا مظاهر البذخ التي كان الشريف يحيط نفسه بها، وهي مظاهر أوروبية، كما قال، والسبب في رأيه أن الشريف عاش سنوات طويلة من حياته في إسطنبول قبل أن يتم عزل شريف مكة السابق عون الرفيق، ويعين مكانه.

الصورة
شارل ديدييه (عن ويكيبيديا)
شارل ديدييه (عن ويكيبيديا)

وقد دار حوار سياسي بين الرجلين أطلع خلاله ديدييه الشريف على مجمل الأوضاع السياسية في أوروبا، وخصوصاً أخبار الحرب الروسية العثمانية، وقد خمن أن الشريف متعاطف مع الروس كرها بالعثمانيين، رغم تحفظ الشريف في إبداء أي موقف حيال ما سمعه. ولفت نظر ديدييه أن الشريف ملم إلماماً كاملاً بالشؤون السياسية الدولية، ومطلع بشكل جيد على ما يجري، وكان مهتماً أن يعرف أخبار فرنسا بعد الانقلاب الذي حصل فيها في تلك الفترة. بعد ذلك ينتقل الرحالة الفرنسي للحديث عن مدينة الطائف، حيث يقول عن بساتينها: "إن بساتين الطائف التي تجعلها مشهورة في الحجاز كله منتشرة حول المدينة، وتبدو كأنها واحات في وسط الرمل. إن البساتين صغيرة على العموم، وفيها قليل من النباتات، ولا تدين بشهرتها إلا للقحط الشامل الذي يسود الجزيرة العربية".

ويصف ديدييه شوارع الطائف وأسواقها، ويمتدح لطف الناس وحسن تعاملهم معه، ويلفت الأنظار إلى إحساسه بالبرد للمرة الأولى منذ فترة طويلة. ثم يحدثنا عن جولة سياحية شملت المناطق المحيطة بالطائف برعاية الشريف. ويخلص إلى نتيجة مفادها أنه بعد أن أتيحت له فرصة الاختلاط بالعرب تأكد أن العرب أكثر نباهة وظرفاً من الأتراك.

المساهمون