إيف غونزاليس- كيخانو: القومية العربية في تحوُّلاتها

إيف غونزاليس- كيخانو: القومية العربية في تحوُّلاتها

17 أكتوبر 2023
إيف غونزاليس- كيخانو
+ الخط -

تعود العناصر الأُولى التي صيغ منها هذا الكتاب إلى سلسلة نصوص نُشرت ضمن "دفتر بحثيّ" بعنوان: "السياسة والثقافة العربيّة"، حرّرها الباحث الفرنسي إيف غونزاليز- كيخانو بين سنتيْ 2006 و2018، ظهرت وقتها على المنصّة الرقميّة "فرضيّات". وقد استعادها في كتاب أطلق عليه عنوان "صُنع العروبة" (صدر عن دار دياكريتيك للنشر) بعد أن حذف منها بُعدها الراهن، حيث كانت بعض تحليلاته تُتابع نسق الأحداث المتسارعة في العالم العربيّ وترصد ما يجري فيه يومًا بيوم، مضيفًا إليها إطارًا نظريًّا وذهنيًّا يجعل منها "محاولة تأمليّة" حول الانتقال من القومية العربيّة في مداها الأيديولوجي إلى العروبة شعورًا مُشتركًا وحيًّا بين العرب، رغم زوال الأبنية الحزبيّة والسياسية التي كانت تحتضن القومية وتُوجّهها.

تتألّف هذه المحاولة من عشر مقالاتٍ تتناول العلاقة بين العروبة والانتماء إلى "العالم العربيّ" بوصفه رقعة جغرافيّة، مع تحليل التعابير الثقافيّة والرياضيّة والفنيّة لهذه المراوحة الدّائمة بين القومية العربيّة كيانًا والعروبة حسًّا. وقد مُهّد لهذه المقالات بمقدّمة عامّة، أوضح فيها صاحب "عروبة رقميّة" العوامل الرئيسة التي أسهمت في هذا الانتقال. وخُتمت هذه المحاولة بتحليل آثار الرياضة، وخصوصًا كرة القدم، في إنماء الشّعور القومي وإذكاء العواطف الوطنية ولاسيما خلال البطولات الكبرى، وآخرها كأس العالم لكرة القدم الذي نُظّم في قطر وعكس ما بين بلداننا من حساسيّات تُجوزت فقط في لحظات فوز الفرق العربيّة وتأهّلها.

كما تطرّق الكاتب إلى مسألة الضّاد وتفاوُت سجلّاتها بين الفصيح والعاميّ؛ حيث أشار إلى أبرز التحوّلات التي طرأت على استخدامها، ولاسيّما التوظيف السياسي لها والمراوحة بين مستوياتها، ليس فقط حسب الجمهور المُخاطَب، وإنما حسب الهدف المنشود، أكان تعبويًّا أم إقناعيًّا أم دعويًّا. وضرب مثَلًا رئيس تونس الراحل زين العابدين بن علي الذي صاغ خطابًا واحدًا بالعاميّة، كان "الخطاب الأخير وغير المُجدي"، إلى جانب مئات من الخطابات الفصيحة.

متابعة لمتغيّرات القومية العربية وتعبيراتها الرسمية والشعبية

ويتعلّق السؤال المحوري الذي يُحرّك هذه التحليلات بغياب القوميّة العربيّة، كبناء أيديولوجيّ لمعرفة إن كان ظرفيًّا أم دائمًا؟ وهل يُعدّ هذا الغياب علامةً على نضج الفكر العربيّ وتحرّره من أوهام الوحدة التي لم تحصل قطّ على أرض الواقع وبقيت "صرحًا من خيال" غذّى الخيال والعواطف ثمّ هوى، دون أن تكون له ترجمة موضوعيّة عبر المصالح الاقتصادية أو الأنظمة السياسية وآليات العمل المشترك. وقد استنتج الباحث أنّ عجز الدول العربيّة عن "صنع" هذه الوحدة لا يعود فقط إلى عوامل خارجيّة، وإنما إلى فكرة الوحدة ذاتها وما تنطوي عليه من بذور عجزها البنيوية عن تعبئة الشعوب والنخب السياسيّة لتحقيقها ثمّ إيجاد الوسائل العقلانيّة لتثبيتها.

كما حلّل غونزاليز- كيخانو تحوّلات صورة "العالم العربي"، وهي بحسب المؤلف تسمية صنعها الغرب، رابطًا إيّاها بالعديد من الأفكار النمطية، ناقلًا عن هنري لورانس أنّ هذه التسمية تعود إلى سنة 1882 حين استخدمها نائب برلمانيّ، عقب انتصاب الاحتلال الفرنسي بتونس (1881).

وقد كانت الأمثلة السياسيّة التي انتقاها الكاتب للتدليل على طروحاته متنوّعة، امتاحها "من تطوان إلى بغداد"، مستعرضًا تقريبًا تجارب كلّ الرؤساء والقادة العرب الذين كان لهم تأثير في الخطاب القومي سلبًا أو إيجابًا. كما توزّعت المدوّنات المحلَّلة لتشمل على حدّ سواء نصوصًا مجرّدة ونتاج فيسبوك وتعابير فنّيّة ورياضيّة شعبيّة، لأنّ التركيز لم يكن على الإطار الفكري الذي توسّع فيه المنظّرون؛ مثل ساطع الحصري وميشال عفلق وعصمت عبد المجيد وغيرهم، بل كان على التعابير السياسيّة والشعبيّة العفويّة، في محاولةٍ لرصد التحوّلات والاستجابات التي حصلت في الواقع أكثر من تلك التي حرّكت الفكر القومي ولا سيما في مرحلة بَحثه ونضجه إبّان فترة ما بين الحربين وبعدها. وحظيت المرأة العربيّة ودورها أثناء "الربيع" بتحليلات معمَّقة أبرزت الدور المتنامي الذي أدّته مُشارِكةً وقائدة.

وهكذا، يمكن قراءة هذا الكتاب بوصفه متابعة لكلّ متغيّرات القوميّة العربيّة وتعبيراتها الرسميّة والشعبيّة، حيث تتالت الفصول لرصد لما أطلق عليه "أفق الهويّة المشتركة" وآليات صناعتها، وقد تحدّث الباحث عمدًا عن مسار "صُنع"، لأنّه تمّ تدريجيًّا، لبنة لبنةً من خلال الإخفاق والهزّات، الطموح والإصلاحات التي ميّزت الفكر القومي طيلة عقود في ظل مفارقات حادّة: فحين فشلت كلّ محاولات تأسيس كيان سياسي موحّد، يضمّ الدول العربيّة بفضل الهويّة المشتركة لشعوبها مع إمكان صموده في وجه الزمن، لم تُضعف الخيبات الشعورَ بالانتماء العربي، بل زادته رسوخًا.

الصورة
غلاف الكتاب

وأمّا أسلوب الكتاب فيجمع بين التحليل التاريخيّ لكمّ كبير من المعطيات والأحداث المتّصلة بتحوّلات العالم العربيّ إثر خروجه من حُكم الدولة العثمانية وانبثاق دول ما بعد الاستقلال الحديثة، وبين التفكيك السيميولوجي للخطاب العربي (وأحيانًا الإسلاميّ) الذي رافق هذه التحوّلات، مُشرّعًا لها أو ناقدًا لانحرافاتها. وقد شمل هذا التحليل خطب السّلطات السياسية والنخب الفكرية والتعبيرات الفنّية والشعبية، رصدها جميعًا بوصفها ظواهر علاميّة تُحيل على ما وراءها.

إلّا أنّ الملاحَظ أنّ غونزاليز- كيخانو لم يستعد الانتقادات النظريّة التي صاغها المؤرّخ التونسي هشام جعيّط في كتابه "الشخصيّة العربيّة والمصير العربي" (1984)، ولا انتقادات عابد الجابري في "الخطاب العربي المعاصر (1982) وغيرهما كثير. وقد سبق لهم أن أبانوا الفروق الدقيقة بين الحسّ العروبي والهيكليّة الحزبيّة والعسكريّة من خلال تجارب عبد الناصر وقاده حزب البعث في سورية والعراق. ويمثّل هذا الغياب النظري ثغرة جعلت هذه المحاولة أقرب إلى الوصف العامّ الذي لا يسبر أغوار الظاهرة بقدر ما يتابع التحوّلات العابرة دون الغوص في عواملها الحقيقيّة.

ومع ذلك، تبقى هذه المحاولة قراءةً رصينة برهنت على أنّ العروبة حسٌّ تَصنعه الظروف السياسيّة المُحيطة فيتفاوت مداه بين العاطفة الشعبية العفويّة وبين التوظيف السلطوي له، حين تُكلّسه في تنظيمات حزبيّة وحتى عسكريّة، جاعلةً منه مصدرًا للشرعيّة تسوّغ به القمع والاضطهاد، وقد تكون له، في منطقة وسطى، تعابير دينيّة يمتطيها الفاعلون في الحقل الإسلامي والمسيحيّ، أو في المجال الفنيّ.

مدخل لفهم فكر وشعور امتدّا لأكثر من قرن ونصف

ولذلك، يُعدّ هذا الكتاب مدخلاً مهمًّا لفهم هذا الفكر- الشعور الذي امتدّ الآن لأكثر من قرن ونصف، ولم تنقطع تجلّياته البتّة. وتكمن جدّته في إنجازه لضرب من التحليل السيميائي لبعض علامات العروبة ورموزها الظاهرة، سواء تلك التي ابتكرتها الأنظمة العربيّة ذات التوجّه القومي أو الشعوب في تلقائيتها للتعبير عن حسّها المشترك. وقد عالج دلالات هذه الرمّوز والعلامات بين تلاعب الأنظمة السّياسيّة بأحلام الشعوب من أجل تخديرها وإحالتها على مفارقات وتناقضات عديدة هيمنت على العالم العربيّ بعد الحرب العالميّة الثانية ولا تزال إلى يومنا.

يُذكر أن إيف غونزاليس- كيخانو هو  باحثٌ وأستاذ جامعي متخصّص في الأدب العربي الحديث؛ يُدرّس في "جامعة ليون الثانية". وإلى جانب إصداره لمدوّنة رقمية تُعنى بالشأن الثقافي والسياسي العربي، ترجم أعمالاً لكتّاب وشعراء عرب معاصرين؛ مثل: صُنع الله إبراهيم، وحنان الشيخ، ومحمود درويش ورشيد الضعيف. من أبرز مؤلَّفاته "العرب يتحدّثون إلى العرب" (2009)، و"الهويات الرقمية العربية" (2012).

* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون