"تولستوي ودوستويفسكي": عالَمان يتقاربان ويتباعدان

"تولستوي ودوستويفسكي": عالَمان يتقاربان ويتباعدان

15 فبراير 2022
الناقد والكاتب الروسي دميتري ميريجكوفسكي (Getty)
+ الخط -

يتعرّف القارئ في كتاب الروائي والناقد الأدبي الروسي دميتري ميريجكوفسكي (1865 - 1941) "تولستوي ودوستويفسكي: الحياة والإبداع" إلى شخصيّتين شغلتا ولا تزالان عالم الأدب، وكلٌّ منهما موهبة تَسِمُ عَصرَها. يُشكّل العمل، الصادر حديثاً عن "دار المأمون" بترجمة تحسين رزّاق عزيز، إضافةً إلى حقل الدراسات المتعلّقة بالأديبَين؛ ذلك لأنّ الدراسة المطوَّلة تكشف عن جوانب عديدة من حياتهما، كما تعرض مقاربات نقديّة لأسلوب كلّ منهما.

يتوزّع الكتاب، الذي يقع في 298 صفحة، إلى قسمين؛ يتحدّث ميريجكوفسكي في القسم الأوّل عن حياة تولستوي ودوستويفسكي والصعوبات التي واجهها كلّ منهما. وكانت الصعوبات التي واجهها فيودور دوستويفسكي (1821 - 1881)، مرتبطةً بالشؤون المادية وبالقضايا التي وجدَ نفسه متورّطاً بها، والتي وصلت ذروتها وشكّلت خطراً على حياته عندما واجه الموتَ قبل أن يُلغى حكم الإعدام عليهِ وهو على منصة الإعدام. انكشفت على دوستويفسكي بتلقائية كثيرٌ من بوابات الروح، وذلك بسبب اقترابه الشديد من الموت.

أمّا بالنسبة إلى ليف تولستوي (1828 - 1910)، فإنّ الصعاب التي تعرّض لها أو جعل نفسه عرضةً لها كانت امتحاناتٍ روحيّة؛ إذ امتلك الثروة والسمعة، وأراد في لحظة من لحظات الذروة الروحيّة التي يعرفها الإنسان أن يضحّي بهما. كان تولستوي يُصارع بوّابات الروح كي تنفتح أمامه على الذات الإنسانيّة.

تقف حياة الشخصيتين الروسيتين على النقيض، أحدهما يملك، والآخر لا. أحدهما يتعذّب بما يحوزه، والآخر يتعذّب بفاقتهِ. يحلّل ميريجكوفسكي هاتين الشخصيتين من غير أن يفاضل بينهما، فهما يسلكان طريقين مختلفين. وعلى الرغم من كونهما شخصيتين روسيّتين بارزتين في زمانهما، إلا أنّهما لم يلتقيا. الأمر الذي أسفِ لهُ تولستوي؛ إذ اعتبر أنّ دوستويفسكي أقرب شخص إليه، وعندما مات دوستويفسكي، رأى تولستوي أنّه فقد سنداً يعتمد عليه. كما يعتبر ميريجكوفسكي أنّ كّلاً منهما خرج من بوشكين (1799 - 1837)، غير أنّهما فرعان متباعدان.

جناحا طائر حلّق بفضلهما الأدب الروسي في العالم

يرى تولستوي نفسهُ جزءاً من الطبيعة، ولذلك يصف رحلة شقائهِ الروحي التي بدأت مع التملّك ثمّ مع التخلي عمّا ملكهُ على أنّها موت وولادة، خلقٌ وتدمير، حتّى أنّه اعتبر السعادة في أن يكون الإنسان مع الطبيعة. ويتماشى ذلك الجنوح إلى الطبيعة مع خياراته بالبقاء في الريف وعدم اعتدادهِ بمدينة بطرسبورغ، على النقيض من دوستويفسكي الذي تحضرُ المدينة في أدبهِ بأجوائها البائسة وعبر الشخصيات التي تواجه مصيراً قاهراً؛ إذ يضع شخصياته بصورة دائمة في مواجهة مع موتهم، وهو موت يأتي من داخل الشخصيات: من عذاباتهم وآلامهم الروحية والفكرية، ثمّ يخرج بصورة انفعالاتٍ ومحاكمات مسرحيّة، فيما تولستوي يمثّل وجهة نظر ثانية في الفنّ الروائي؛ إذ يصف معارك الإنسان من الخارج وصولاً إلى جولات الموت في الداخل، فيما تجول الشخصيتان الروسيتان في النفوس انطلاقاً منها، مثل دوستويفسكي الذي يصعّد أزمات الداخل إلى الخارج، وانتهاءً إليها، مثل تولستوي الذي يدفع بأزمات الخارج إلى الداخل، يتلاقيان. ومن خط اللقاء الرهيف يصنع ميريجكوفسكي عالمهما الذي يتلاقى ويتباعد.

كانت لدى تولستوي رغبةٌ في أن يكون جنرالاً في الجيش، إلّا أنّ الأقدار لم تحالفه؛ فعكف على عالم الأدب وأصبح كما يصف نفسهُ "جنرالاً في الأدب". ويشير هذا الإعلان المباشر إلى إنسانٍ معتدّ بنفسهِ، كما لو أنّ الأدب بالنسبة إليه تعويضٌ عن مجدٍ آخر. لكن، في جميع الأحوال، للإعلان هذا دلالة على شخص مأخوذ بفكرة المجد ذاتها. إلى جانب ذلك كانت لتولستوي زوجة جميلة وشهرة وأطفال أصحّاء، وقد وصل إلى ذروة الرفاهية عندما بدأ يأنف ذلك المجد، فأراد التخلّي عنه مع إدراكه أنّه إنسانٌ فانٍ. لكنّ الإدراك بالفناء هو ترفٌ بالنسبة لمن أتاحت له حياته أن يكون زاهداً، على عكس دوستويفسكي الذي عاشَ ما أراد تولستوي أن يختبره.

موهبتان من القوة أنّهما تخلقان ما تعذّر عليهما اختباره

الفارق الجوهري بينهما أنّ تولستوي كان مُخيّراً في زهدهِ، فيما دوستويفسكي لم يحتج إلى التشبُّه بصيرورة الطبيعة، بل كانت حياتهُ مثالاً لها في أكثر جوانبها قسوة. الأمر الذي انعكس على شخصياتهِ؛ إذ يُعرّف الناقد أدبه على أنّه "موهبة القسوة". لا يترك دوستويفسكي لدى شخصياته ما يغطّي عريهم النفسي. على العكس من تولستوي الذي يتفنّن في تزويق ما ترتديه النفس وهو يصف بالكلمات الجوانب التي يريدها منها.

يشغل الجانب الفني القسمَ الثاني من الكتاب. وعبر شواهد من رواياتهما، يعيدُ الناقد السرد إلى تولستوي والحوار إلى دوستويفسكي، كما يرى أنّ الشخصية لدى دوستويفسكي تصل إلى الحدود النهائية، ورواياته ليست ملاحم، وإنّما مآسٍ. دوستويفسكي أقرب إلى الفنّ التراجيدي، فهو يضع أبطاله في مواقف ميؤوس منها. في مقابل ملاحم تولستوي التي لا نسمع الأبطال فيها، بل نراهم بأعيننا. وبحسب ميريجكوفسكي، نظر دوستويفسكي إلى هاوية الروح، بينما نظر تولستوي إلى هاوية الجسد.

كان دوستويفسكي يقول عن نفسه بأنّه أديب بروليتاري فقير، وعمله في الكتابة إنّما كان لتحصيل خبز يومهِ. أمّا تولستوي، الذي عدّ نفسه "جنرالاً في الأدب"، فقد قاده الورع المسيحي إلى التفكير بتنفيذ وصية المسيح بالتخلّي عن الملكية الشخصية وعن المنزل والأولاد والحقول. ورأى الروائي الروسي إيفان تورغينيف (1818 - 1883)، عيب تولستوي الوحيد في افتقاره إلى الحرية الروحية، كما لو أنّه كان يبحث عن مرجع لسلوكه، وقد وجده عند المسيح. لكنّ زوجته حالت دون تخلّيه عن أملاكه. وعلى العكس ممّا كان يخطط لهُ بدأت ثروته في الازدياد، الأمر الذي يتناغم مع رؤيته للفنّان الذي كلّما أراد أن يبارك أخذ يلعن، حتّى أنّ تولستوي حصد ربحاً مالياً وفيراً من أعمالهِ الأدبية. وبينما كانت الحبال تأكل من كتف دوستويفسكي وهو يَنقل الأحجار في السجن، كان تولستوي يساعد، بترفّع، امرأةً في جمع الطوب لبناء موقد.

الصورة
تولستوي ودوستويفسكي

يضع الناقد الروسي كرم دوستويفسكي الطبيعي وميله لبعثرة المال مقابل حرص تولستوي الطبيعي على المال وميله إلى عدم التبذير. أحدهما، بحسب الناقد، مسرف ومتشرّد إلى الأبد والآخر وُلد هاوياً للجمع. وفي هذه المقاربة التي تردُّ كلّاً منهما إلى طبيعة مختلفة عن الآخر، بدت محاولة تولستوي للتخلّي عمّا امتلك سعياً ضد طبيعته. صحيح أنّ زوجته من أنقذته ممّا كان مقبلاً عليهِ، لكن في النهاية فإنّ أحدهما كان يحلم بالثروة والآخر كان يحلم بالفقر. ووفقاً للظروف التي شاءت حياتهما أن تمضي عليها، كلاهما رأى جانباً لم يره الآخر من البشرية. وبذلك عملت موهبة الاثنين على تعويض ما فاتها، فهما موهبتان من القوة أنّهما تخلقان ما تعذّر عليهما اختباره.

في الكتاب حكاية عن موت دوستويفسكي الذي كان معتاداً، في اللحظات الحاسمة من حياته، على أن يفتح الإنجيل عشوائياً، ويقرأ عدة أسطر، فقرأ "أنا محتاج أن أعتمد منك، وأنت تأتي إلي"، ثمّ أخبر زوجته "إذاً، سأموت"، ومات بعد ذلك بساعات. تعطي هذه الحكاية عن مكانة الإيمان في حياة دوستويفسكي انطباعاً عن جانبٍ اختبر فيه أعماقه، وادّعاه تولستوي. إذ بينما قرأ دوستويفسكي اقتراب موتهِ في الإنجيل، بقي تولستوي بحسّه الديني خائفاً من الموت. في النهاية يصوّر ميريجكوفسكي كلّاً من تولستوي ودوستويفسكي على أنّهما جناحا طائر حلّق بفضلهما الأدب الروسيّ وسط أصقاع البشرية وأمدائها.


* كاتب من سورية

المساهمون