"قاموس دوستويفسكي": كي لا نفقد الصلة مع الإخوة كارامازوف

"قاموس دوستويفسكي": كي لا نفقد الصلة مع الإخوة كارامازوف

04 يناير 2022
تمثال لـ دوستويفسكي أمام مدخل "مكتبة لينين" في موسكو (Getty)
+ الخط -

من الصعب أن نتخيّل صبرَ قارئٍ من القرن الحادي والعشرين على الانغماس في كتاب يتجاوز الخمسمئة صفحة، فماذا عن كتب تتجاوز الألف وأكثر. نعرف، أيضاً، أن مثل هذه الكتب الضخمة، من محاورات أفلاطون إلى "اسم الوردة" لأومبرتو إيكو، قد حوت الكثير من درر الذهن البشري وكنوزه، فهل يمكن أن نتركها تضيع بسبب مزاج القرّاء المعاصرين أو عدم قدرتهم على توفير الوقت والتركيز؟

من هذه الإشكالية انطلق مشروع "قاموس دوستويفسكي" الذي أعدّه الباحث ميشيل نيكو Michel Niqueux، وصدر عن "معهد الدراسات السّلافية" بباريس خلال العام المنقضي، وهو عام المئوية الثانية لميلاد الكاتب الروسي، وقد كان ذلك سبباً لظهور مجموعة أعمال في فرنسا تضيء منجز صاحب "الجريمة والعقاب"، أبرزها هذا القاموس، وكتاب جماعي بعنوان "دوستويفسكي: المغامرة العائلية" (إيغور فولغين وكريستوف ترونتين وبيير لامبيه)، كما صدر كتاب "القيامة الروسية: الإله في بلاد دوستويفسكي" لـ جان فرانسوا كولوزيمو.

من المعروف أن دوستويفسكي كان أحد أكثر الكتّاب ميلاً إلى التشعّب وهو يناقش - أدبياً - قضايا فكرية ووجودية مثل مسألة الشرّ ومعنى الحياة، أو يتوغّل في نفسيّات أبطاله وأفكارهم، كـ راسكولنيكوف (الجريمة والعقاب) وإيفان (الإخوة كارامازوف) وغوليادكين (المَثيل). هكذا فرضت رغبة الوصول بمشاريعه إلى أقصى ممكناتها تلك الأحجام الكبيرة لروايات مثل "الشياطين" و"المراهق" و"الأبله" و"الإخوة كارامازوف".

ما في بطون روايات دوستويفسكي مهدّد بأن يصبح قارة مجهولة

لا يخفى أن هذه الروايات قد كُتبت ضمن أفق تلقّي قارئ القرن التاسع عشر. كانت تصدر في حلقات متسلسلة في الغالب، قبل أن تُطبع في كتب، وكثيراً ما تُقرأ خلال المسافات الطويلة التي تقطعها القطارات أو في أمسيات مخصّصة لذلك. ولقد اندثرت كل هذه الظروف التي ترافق فعل القراءة، وهو ما يعني أن ما في بطون روايات دوستويفسكي مهدّد بأن يصبح قارة مجهولة لا يعرف ما فيها سوى المتخصّصون.

لكن "قاموس دوستويفسكي" يلفتنا إلى إشكالية حول هذه النقطة أيضاً، فحتى هؤلاء المتخصّصون، ممّن يمكن الاستعانة بهم للولوج إلى عوالم الكاتب الروسي، قد تضخّمت مدوّنتهم حوله بحيث بات من الصعب الإمساك بما يقترحونه من مقاربات وأفكار، هذا دون أن نحصي أسماء من تجلّى دوستويفسكي في مرايا أدبهم أو فلسفتهم أو منجزهم الفنّي، مثل نيتشه ولينين ومالرو...

هكذا فـ"قاموس دوستويفسكي" ليس مجرّد احتفاء بعيد الميلاد المئتين للكاتب، إنه أقرب إلى تلبية ضرورة ثقافية، ومن هذه الزاوية تظهر لنا إحدى الوظائف التي ينبغي أن تنهض بها صناعة القواميس، وهو إتاحة مداخل لما هو مفلت عن الإحاطة. القواميس، بهذا المعنى، أجهزة ثقافية للإمساك بالمُتشعّب، ومسارات مختصرة نحو أهدافٍ جعلها التضخّم المعرفي مهدّدة بالضياع.

هنا، لا ينسى أن يوصينا ميشيل نيكو - منذ الأسطر الأول من التقديم - بألا نختزل عالم دوستويفسكي في مجموعة كلمات وتعريفاتها، فـ"القاموس يُستعمل كدليل، له قيمة بلا شك ولكنه لا يعوّض الشيء الذي يحيل إليه؛ أي أنه لا يمكنه أن يعوّض قراءة النص الدوستويفسكي"، وإلا بات القاموس حاجباً لا يؤدّي الدور المنتظر منه.

في حالة دوستويفسكي، وفي حال أحسن استعماله القارئ، يتيح القاموس أن نتقدّم خطوة أبعد مما يقف كتّاب السيرة، فمن المعروف أن دوستويفسكي يمثّل ظاهرة متعددة المستويات؛ هناك من جهة مادة أدبية لها منطقها التخييلي والأسلوبي، وهناك حياة شخصية متقلّبة تبدو هي الأخرى مثل رواية دوستويفسكية بعبارة هنري ترويا، وهناك دوستويفسكي الذي صنعه الآخرون، من أقارب وناشرين ومؤوّلين...

تختلف كثيراً أشكال حضور الكاتب الروسي بين ثقافة وأخرى

ما يتيحه القاموس هو الربط بين عناصر متباعدة بين هذه الفضاءات، حيث يضعها في كتلة واحدة ضمن ترتيب اعتباطي متفق عليه (الأبجدية)، فيما أن السيرة - وكذلك الدراسة الأدبية أو الفلسفية - تبحث على تصعيد تلك العلاقات إلى مستوى من الوعي يُجبرها على اختزالات كثيرة كوضع حدثيْن متفرّقين (مثل تجربة السجن التي عاشها دوستويفسكي ومحورية الجريمة في عدّة روايات) على خطّ تأويلي واحد.

ينجح القاموس في الربط بين المتنافر حين لا يدّعي أيّ ربط، أما كتّاب السيرة (وهؤلاء يحضرون في القاموس: ليونيد غروسمان، دومينيك أربان، جوزيف فرانك، ...)، فحين يعقدون الروابط يجتهدون لوضعها على سلّم زمني واحد خاضع لمقتضيات البناء السردي، أي يقترحون علاقة ماهي إلا احتمال بين احتمالات كثيرة يتركها القاموس تتعايش معاً، وهو بذلك أقرب إلى الطريقة التي يعمل بها العقل البشري بالتحرّك في كل الاتجاهات رابطاً بين الإحالات (أو يترك ذلك) غير ملتزم بالزمن وغيره من الشروط التي تفرضها الكتابة السردية أو النظرية.

يتوزّع القاموس على ثلاث مجموعات كبرى من المداخل، في الأولى نجد عناصر العالم الأدبي الذي ابتدعه دوستويفسكي، فنقف على حبكة كل رواية على حدة، وأحياناً نجد حكاية كل شخصية وكأنها رواية منفصلة بذاتها، ويذكر نيكو حين يقتضي الأمر ذلك بعض الأحداث الحافة بكتابة هذه الرواية أو تلك وأشهرها حكاية تأليف رواية "المقامر"، أو ما ورد في رسائل دوستويفسكي من تفسيرات لمشاريع مؤلفاته وكيف يودّ بناء الشخصيات.

أما المجموعة الثانية فهي التي يسميها نيكو بـ"عالم الأفكار"، أي مجموع تلك الثيمات التي تناولتها نصوص صاحب "الزوج الأبدي" ومن أبرزها: العدمية، والشيطان، والحالِم، والحرية، والنزعة السّلافية، والمال.

ونجد ضمن الفئة الثالثة أسماء أعلام، وهؤلاء إما ممّن تأثّر بهم دوستويفسكي (غوغول، بوشكين، شيلر، هوفمان، بلزاك...) أو ممّن أثّر فيهم أو ممّن انكبّوا على دراسته (باختين، شيستوف، باردييف، كلوديل،...)، إضافة إلى من كانوا طرفاً في حياة دوستويفسكي، ولا يمكن فهم الكثير من فصولها من دونهم، كزوجته أنّا غريغورييفنا التي أشرفت على نشر مجموعة كتاباته الذاتية بعد رحيله، وأخيه ميخائيل الذي كان أكثر من خاطبه عبر الرسائل، وحلقات النقّاد والناشرين والكتّاب المعاصرين له.

الصورة
"قاموس دوستويفسكي"

القاموس من وجه آخر يبدو كاستعراض لقدرة الثقافة الفرنسية في هضم دوستويفسكي. إنه يشير إلى المثابرة في نقل أعماله منذ نهاية القرن التاسع عشر (هناك ثلاث ترجمات مختلفة للأعمال الكاملة، ناهيك عن روايات ترجمت أكثر من عشر مرات). كما يشير القاموس إلى أن الثقافة الفرنسية قد نقلت أبرز ما كُتب عن دوستويفسكي بلغته الأصلية (باختين، غروسمان، شيستوف، ...)، ونقلت الكثير مما صدر عنه في لغات أخرى كالألمانية (فرويد، تسفايغ...)، والإنكليزية (جورج شتاينر، جوزيف فرانك...) وغيرها.

وأكثر من ذلك يُبرز القاموس أن الثقافة الفرنسية تحتوي على عدد من أبرز المتخصّصين في أدب دوستسويفسكي مثل جاك كاتو ودومينيك أربان وأندريه ماركوفيز، كما أن المثقفين الفرنسيين كانت لهم قراءات فريدة لنصوص صاحب رواية "المراهق" مثل رونيه جيرار وأندريه جيد وجوليا كريستيفا. تقريباً، يقول القاموس بأن الثقافة الفرنسية التقطت معظم ما يمكن التقاطه من "مجرّة دوستويفسكي"، وما القاموس إلا محاولة لجعل هذا المنجز الكبير مرئياً في إطار واحد.

نفهم عبر هذا الحضور الطاغي للثقافة الفرنسية عبر أسطر القاموس أن مادته ستكون مختلفة تماماً لو أنه كُتب في ثقافة أخرى. من المؤكّد مثلاً لو أُنجز المشروع بالعربية لكان أقلّ حجماً، لكنه قد يستوجب ملء فراغات لا تحضر في القاموس الفرنسي حيث يغيب حضور دوستويفسكي تقريباً في مشهد البحث الأدبي أو الفكري، ويغيب كذلك بشكل واضح من خلال المشتغلين بالأدب، في حين أن حضوره الأبرز في الثقافة العربية تجلّى من خلال السينما في أعمال المُخرجين المصريّيْن حسام الدين مصطفى ("الإخوة الأعداء" عن رواية "الإخوة كارامازوف"، و"سونيا والمجنون" عن "الجريمة والعقاب"، و"الشياطين" عن رواية بنفس العنوان) ومدحت السباعي ("الجريح" عن رواية "الأبله"، و"فقراء لا يدخلون الجنة" عن "الجريمة والعقاب")، ناهيك عن الجهد الذي خصّصه المترجم السوري سامي الدروبي لنقل الأعمال الكاملة مبكّراً، وتظهر في السنوات الأخيرة ترجمات جديدة.

من هذا المنظور، يكون هذا النوع من القواميس المتعلقة بشخصية إبداعية مثل رسم مشهد علاقتها مع ثقافة ما. سيقودنا التفكير في مثل هذه الصناعة إلى معرفة الكثير مما ينقصنا، أدباً وفكراً. ستفرض أسئلة حارقة نفسها: ماهي الأدوات التي نحافظ بها على صلتنا بروائع دوستويفسكي؟ ولكن قبل قبل ذلك، ما هي الأدوات التي نحافظ بها على صلتنا بمن هو أقرب كابن خلدون أو ابن سينا أو نجيب محفوظ؟

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون