فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (12)

فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (12)

19 أكتوبر 2021
+ الخط -

حدث ذلك في مطلع نوفمبر 1991، في الفترة التي كان سعيد صالح قد قرر فيها العودة ثانية للقطاع الخاص بعد فشل تجربته مع مسرح الدولة، وفي نفس الليلة التي اتفق فيها مع فايز حلاوة، مالك مسرح ميامي، على تأجير مسرحه لإعادة عرض مسرحيته الأثيرة لديه (حلو الكلام)، وبعدها توجه سعيد صالح إلى حي السيدة زينب للقاء بعض أصدقائه الذين كان سيدعوهم لحضور حفل عيد ميلاد ابنته الذي كان سيقام يوم الخميس 7 نوفمبر. وكما قال سعيد صالح في أقواله أمام النيابة، فقد التقى هناك بالمصادفة بزميله وصديقه صبري عبد المنعم، الذي كان يوصل سائق سيارته الذي يسكن في السيدة زينب، ووقف الاثنان ليتحدثا سوياً عن المسرحية التي ستعرض قريباً وسيشارك فيها صبري عبد المنعم، وفوجئ سعيد صالح بشخص يقول له: "مش حاتبطل تعطّ في السيدة يا سعيد؟".

لم يكن سعيد يعرف أن من يتحدث معه ضابط شرطة، وأنه سيشعر بالإهانة حين يسأله سعيد "إنت مين؟"، ليكون رد فعله كما قال سعيد: "لقيته ضربني بالبونية في صدري، فشتمته، ولقيت نفسي واللي معايا في بوكس، ووصلنا لقسم السيدة زينب ولم أعرف الشخص الثامن الذي يدعى أحمد توفيق النسر الذي أخذوه معنا في القضية. أخذونا غدر.

لولا الحكمة والصبر جعلني لا أنفعل أكثر، صحيح أنني شتمت، ولكن عندما تجد نفسك في صدام مع شخص ماذا تفعل سوى الشتائم؟ وأول مرة أشوف هذا الضابط وهو ضربني أمام الناس اللي بيحبوني، خاصة أنني في هذا الحي عشت فترة طفولتي وأنهيت تعليمي الثانوي بمدرسة المبتديان، وفي هذا الحي يعيش صديق عمري سعيد طرابيك بشارع سلامة المتفرغ من شارع زين العابدين، وأيضا صديق عمري الحاج سيد".

فجأة وجد سعيد صالح نفسه مرمياً في حجز قسم السيدة زينب هو ومن تم القبض عليهم معه، وفوجئ بحضور كبير لمصوري الصحف الذين سمح لهم ضابط الشرطة الذي قبض عليه بتصويره، وفي حين ظل يتعامل مع المسألة أنها متعلقة بالصدام الذي حدث مع ضابط الشرطة، فوجئ بأنه متهم بتعاطي وإحراز المخدرات، هو وكل من معه، وعلى رأسهم صبري عبد المنعم الذي قابله بالصدفة. وقال ضابط الشرطة إنه وجد في جيب بنطلون سعيد صالح أربع ورقات سلوفان خالية وأربع قطع مخدرات، وتمكن ضابط الشرطة من تدبير شهود من جيران شقة أطلقت عليها الصحافة فيما بعد اسم "وكر النسر"، نسبة إلى مالكها الذي قال سعيد إنه يراه لأول مرة، وقال الجيران إنهم رأوا دخاناً يصعد من الشقة التي كان يوجد فيها سعيد صالح وصبري عبد المنعم، لكن ضابط المباحث لم يسألهم عن طبيعة خبرتهم في الدخان التي تجعلهم يقررون أنه دخان حشيش، وربما لأنه لمس تضارباً في أقوال الشهود فقد قام بالإفراج عن جميع المتهمين بكفالة بعد تحويلهم إلى النيابة لكي تقوم بالتحقيقات، وتحمل سعيد صالح هجوم المصورين عليه حين خروجه من قسم السيدة زينب قبيل الفجر، وبدأ يفكر مع محاميه مرتضى منصور في اتخاذ إجراءات قانونية ضد ضابط الشرطة الذي قام بتلفيق الاتهام له، واعتدى بالضرب عليه، بل وكان يفكر في اتخاذ إجراء قانوني ضد الصحف التي اقتحمت خصوصيته بذلك الشكل، لكنه فوجئ بعد 17 ساعة من خروجه من القسم بحملة مداهمة لمنزله تمت الساعة الرابعة فجراً، ليتم القبض عليه هو وكل المتهمين معه في القضية، ويتم تحويلهم إلى النيابة.

أمرت النيابة بإخلاء سبيل سعيد صالح وصبري عبد المنعم وأحمد النسر بكفالة خمسة آلاف جنيه لكل منهم، وإخلاء سبيل خمسة آخرين منهم سائق سعيد صالح وسكرتيره الخاص بكفالة ألف جنيه لكل منهم

في عددها الصادر بتاريخ 9 نوفمبر 1991 نشرت صحيفة (الجمهورية) تغطية لما جرى في النيابة بعناوين كاشفة عن طبيعة تعامل الصحافة مع سعيد ومع الفنانين بشكل عام جاء فيها: "سعيد صالح يعترف: أنا حشاش ولست شماما. ضبطوني في الشارع ومنعوني من عيد ميلاد هند"، وتحدثت عن ظهور سعيد صالح في تحقيقات النيابة وهو في حالة إرهاق شديد بعد أن ظهرت عليه أعراض مرض السكر، ليقول للنيابة إنه لم يضبط في وكر النسر بالسيدة زينب كما نشرت الصحف، وإنما تم ضبطه في شارع مظهر أثناء ذهابه لصديقه أحمد توفيق وشهرته النسر لدعوته لحضور عيد ميلاد ابنته هند، وأنكر تعاطيه للمخدرات في شقة النسر، وأكد أنه وصل للبلاد قبل يومين قادما من بيروت، التي سافر لها للاتفاق على عرض مسرحيته (حلو الكلام)، وأنه عاد خصيصا من بيروت لإقامة حفل عيد ميلاد ابنته، وأنه خلال وقوفه مع الممثل صبري عبد المنعم الذي مر عليه بالمصادفة خلال سيره في شارع مظهر، "فوجئنا بالطوفان"، قاصداً ضباط مباحث السيدة والرائد محمد منصور رئيس المباحث، ولذلك أصيب بحالة هيستريا من صعوبة الموقف.

أمرت النيابة بإخلاء سبيل سعيد صالح وصبري عبد المنعم وأحمد النسر بكفالة خمسة آلاف جنيه لكل منهم، وإخلاء سبيل خمسة آخرين، منهم سائق سعيد صالح وسكرتيره الخاص، بكفالة ألف جنيه لكل منهم، وتولت شقيقة سعيد صالح تحصيل المبالغ من المحامين وتم دفع الكفالات، وخلال رحلة سعيد صالح ورفاقه من مقر النيابة إلى قسم السيدة زينب ليتم الإفراج عنهم، حدثت مشكلة بين سعيد صالح ومصور (الجمهورية) الذي أصر على تصويره، ورفض نائب مأمور قسم السيدة طلب سعيد صالح بأخذ الفيلم من الكاميرا، وأثناء سداد الكفالة حضر زكريا سليمان، نقيب الممثلين، وسناء شافع عضو مجلس إدارة نقابة المهن التمثيلية، واحتضنا سعيد الذي ظل يصرخ في وجه النقيب: "أنا اتبهدلت، النقابة لازم تتدخل بسرعة وتوقف المهازل اللي بتحصل للفنانين"، فرد عليه زكريا سليمان: "تماسك يا سعيد واحنا حنناقش كل حاجة".

حاول مرتضى منصور محامي سعيد صالح أن يقنعه بالحديث مع مندوب صحيفة (الجمهورية)، فردد سعيد صالح أمام الجميع: "صحيح أنا أشرب الحشيش ولكن عمري ما شربت هيروين"، فرد أحد رفاقه "ما تقولش الكلام ده يا سعيد"، مستنكراً اعترافه بشرب الحشيش، وبعد سداد الكفالة لم يتم الإفراج عن سعيد ومن معه، بل تم اصطحابهم إلى مديرية أمن القاهرة لعمل البصمات بوحدة التسجيل الجنائي، فقام سعيد صالح بمقابلة اللواء فادي الحبشي، مدير مباحث القاهرة، والعميد محمود وجدي رئيس المباحث، واتهم الرائد محمد منصور بالاعتداء عليه بالضرب ومحاولة إثارة الرأي العام ضده بالاتصال بالصحف لتصويره. 

وكما يصف محرر (الجمهورية) الموقف، فإن سعيد صالح كان يردد بعض النكت مبتسما خلال حديثه مع فادي الحبشي، بينما ظل صبري عبد المنعم "ملتزما في حديثه ويتحدث بهدوء شديد"، وبعد انتهاء الإجراءات في الثانية بعد منتصف الليل اصطحب مرتضى منصور سعيد صالح في سيارته المرسيدس بعد أن تم الإفراج عنه هو وجميع المتهمين بعد إجراءات استمرت أكثر من 12 ساعة، ليقول سعيد صالح في تصريحاته بعد الإفراج عنه "إنه واثق من البراءة، وأن أقل محامي يستطيع الحصول له على البراءة، وأنه سعيد بإخلاء سبيله من النيابة ليستطيع تكملة مشواره الفني ومحاربة الظلم والفساد".

قبل بدء التحقيقات، كان مرتضى منصور، محامي سعيد صالح، قد قام بتقديم مذكرة من نقابة المهن التمثيلية إلى النائب العام المستشار رجاء العربي تعلن تظلمها من طريقة القبض على سعيد صالح كأنه إرهابي خطر على الأمن العام، مع أنه كان قد سبق الإفراج عنه بكفالة، ودفع مرتضى منصور بأن قرار إعادة الحبس إجراء غير سليم من الناحية القانونية، لأن شهادة الشهود الجدد الذين أحضرهم ضابط الشرطة لم تضف جديداً إلى أدلة الاتهام الواهية، وحين قرر النائب العام الإفراج عن سعيد صالح ومن معه بكفالة بعد انتهاء التحقيقات، أدلى محمد رشيد النحال، محامي صبري عبد المنعم، ومرتضى منصور محامي سعيد صالح، بتصريحات للصحف أشادا فيها بالقرار، وقال مرتضى منصور إنه يعتبر تصحيحاً لتجاوز قام به أحد وكلاء النيابة، وأنه لن يتحدث عن التفاصيل لأنها "مسألة داخلية في بيت النيابة العامة"، وأشاد بالنائب العام الذي لم يفرج عن فنانين مشهورين، بل شمل قراره بالإفراج ستة آخرين من عامة الشعب، منهم سائق سعيد صالح، ووصف القرار بأنه "سيسجل في التاريخ للنائب العام لأنه لأول مرة في تاريخ القضاء في مصر يتم التصرف على أعلى مستوى وبهذه السرعة"، لكن ذلك لم يكن كافياً لإقناع الصحفيين بالتوقف عن نشر المزيد من الاتهامات لسعيد صالح والحديث عن وجود شبهة مجاملة له، دون الالتفات إلى الطريقة المهينة التي تمت معاملته بها لمجرد أنه داس على طرف ضابط شرطة لم تعجبه طريقة سعيد في الحديث معه.

....

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.