مشكلة أوكرانية وبؤس هندي وخزعبلات كونية

مشكلة أوكرانية وبؤس هندي وخزعبلات كونية

01 يونيو 2020
+ الخط -
"كم طفلاً يمكن أن نبيع للعالم؟"، تحت هذا العنوان المثير، كتبت يوليا جوربان مقالاً نشرت مجلة (ذي ويك) الأميركية مقتطفات منه، تتحدث عن مشكلة فريدة من نوعها تواجهها عشرات السيدات الأوكرانيات اللواتي يقمن بتأجير أرحامهن مقابل مبالغ مالية يتفق عليها عبر الإنترنت مع الآباء والأمهات الراغبين في الإنجاب، بوساطة مراكز طبية متخصصة تقع في أوكرانيا، ليتم تسليم الأطفال بعد الولادة بشكل قانوني إلى الآباء والأمهات الذين يحضرون إلى أوكرانيا لاستلامهم. لكن هذه العملية تعثرت في الشهور الأخيرة بعد قرارات إغلاق الحدود ومنع السفر التي رافقت انتشار وباء كورونا في العالم، وهو ما منع الكثير من الآباء والأمهات "الرسميين" من استلام أبنائهم الرضع من "الأمهات المؤجرات". ما أدى إلى تفجّر جدل عنيف في المجتمع الأوكراني حول هذه الظاهرة، فيديو تم نشره مؤخراً على صفحة أحد هذه المراكز الطبية، يظهر فيه عدد من الأطفال الرضع، يرقد كل منهم في مهده الموجود داخل غرف أحد فنادق العاصمة الأوكرانية كييف، وهم في انتظار آبائهم "القانونيين" لاستلامهم بعد فتح الحدود وعودة الرحلات الجوية، لأن العقود المبرمة مع الأمهات المؤجرات لأرحامهن تمنع قيامهن برعاية الأطفال الرضع حتى لو رغبن في ذلك، لكي لا يتعلقن بالأطفال بشكل يصعب مهمة تسليمهن إلى عائلاتهم القانونية فيما بعد.

مركز (بايوتيكس كوم) الذي نشر الفيديو على صفحته، كان يأمل أن يؤدي نشر الفيديو إلى طمأنة الآباء والأمهات "القانونيين" إلى أن أطفالهم الرضع بخير ويتلقون العناية اللازمة في انتظار اللقاء بهم، لكن الفيديو أثار الكثير من الغضب الإعلامي والشعبي بعد نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما دفع المسؤولين الأوكرانيين إلى إصدار تصريحات وبيانات تدين ما وصفوه بـ"البيع غير المقنن لأطفال أوكرانيا"، خاصة أن عدد الأطفال الخارجين من أرحام أمهات بديلات يمكن أن يصل إلى ألف طفل، إذا استمر إغلاق الحدود لعدة أسابيع.

بعيداً عن التصريحات الهادفة لامتصاص الغضب الشعبي الذي فوجئ بهذه الظاهرة الموجودة منذ سنوات طويلة، صرحت ميكولا كوليبا المفوضة الرئاسية لحقوق الأطفال أنها ستدفع في اتجاه تعديل تشريعي يقوم بقصر خدمة تأجير الأرحام على الأزواج الأوكرانيين المحرومين من الإنجاب فقط، لكي لا تصبح أوكرانيا "متجر العالم لشراء الأطفال" على حد تعبيرها، لكن الكاتبة لم تسألها في المقتطفات التي قرأتها من المقال عن مسؤولية الحكومات الأوكرانية المتعاقبة عن هذه الظاهرة التي لم تلجأ إليها الأمهات البديلات من فراغ، والتي لا تنفرد بها أوكرانيا عن غيرها من الدول، ربما لأن الكاتبة تدرك أن "العايط في الفايت نقصان عقل"، أو لأنها تعرف أن تشريعاً مثل هذا لن يصدر بسهولة، لأن المتربحين من وراء بيع الأرحام والأطفال سيحاولون عرقلته بكل ما أوتوا من قوة.


.....

في تصعيد وقح لم يقم به الكثير من رؤساء العالم الذين يفضلون الذبح المستتر للفقراء، بدلاً من الذبح العلني لهم، أعلن رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي أن على فقراء بلاده اللجوء إلى المؤسسات الخيرية لطلب العون خلال أزمة كورونا بدلاً من اللجوء إلى الحكومة أو انتظار أي شيء منها، وهو ما علّقت عليه أستاذة العلوم السياسية الهندية زويا حسن في مقال لها بصحيفة (ذي هيندو) بأنه تصريح ينسجم مع الرؤية السياسية والفكرية للمتشددين الهندوس الذين يمثلهم مودي، خصوصاً بعد أن أعلن ائتلاف (سانج برايفار) الذي يضم عدداً من الأحزاب والمنظمات اليمينية من بينها حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، أن على المجتمع الهندي أن يواجه أزمة الوباء من خلال إجراءات "الضبط الذاتي لنفسه"، وهو مصطلح يبدو أكثر عمومية، لكنه أشد وقاحة وغلظة من مصطلح (مناعة القطيع) الذي استخدمه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في بداية تعرّض بريطانيا للوباء.

حاول مودي في آخر خطاباته الرسمية أن يظهر بمظهر المهتم بالفقراء، لكنه لم يعدهم بأي إجراء حكومي لحل أزماتهم، بل اكتفى بأن يطلب من الأثرياء الهنود أن يقوم كل منهم بمساعدة تسع عائلات فقيرة خلال الأزمة، كما طلب من الشركات والمؤسسات أن تواصل دفع مرتبات موظفيها، لكنه لم يعلن عن إجراءات رسمية لضمان تحقيق ذلك، ولمحاسبة من لا يلتزم به، كما أنه تجاهل ملايين الهنديين الذين يعملون في "اقتصاد تحت الأرض"، الذي تستفيد منه الدولة، لكنها لا تحاسب المتربحين منه ولا تراقبهم، وهو ما دفع مئات الآلاف من العمال الذين لم يتلقوا أي مساعدة أو عون إلى الهجرة مجدداً نحو قراهم ومدنهم الأم، سائرين على الأقدام في قوافل بشرية رآها العالم كله عبر عدسات المصورين، لكن مناظرهم البائسة وموت المئات منهم من الجوع والمرض خلال تلك الرحلة القاسية، لم تحرك ساكناً في رأس مودي ورجال حكومته.

في ختام مقالها، تشير الأكاديمية الهندية إلى مفارقة أن مودي الذي لا يكف عن الإشادة بأقرانه اليمينيين من أمثال ترامب وجونسون، والحديث عن صداقته العميقة معهم، يرفض اتخاذ أي من الإجراءات التي اتخذها أصدقاؤه لدعم مواطنيهم خلال الأزمة، معتبراً أن على الفقراء أن يحلّوا مشكلتهم بأنفسهم بالاعتماد على كرم وسخاء الأغنياء، متسائلة "كم من الهنود سيتضورون جوعاً بسبب قسوة مودي وأيديولوجيته عديمة القلب، ومتى سيكون لدينا حكومة أكثر إنسانية تلبي احتياجات مواطنيها"، وهو سؤال مشروع، ربما أنسى العشم أو الحزن كاتبته أن كثيراً من الفقراء الذين يتضورون جوعاً الآن هم الذين صعدوا بمودي وأمثاله إلى مواقع الحكم، ليس فقط رغبة في تحسين أحوالهم، وإنما رغبة في التنفيس عن كراهيتهم للآخرين المختلفين معهم في الدين والعرق والرأي، وقد أثبتت التجارب أن الجوع لا يطفئ دائماً نار الكراهية العرقية والطائفية، بل يزيدها ضراوة في أغلب الأحيان.

....

في عددها الأخير نشرت مجلة (ذي هاربر) الأميركية قائمة بعدد من الوسائل العلاجية الزائفة والتدابير الوقائية "الفشنك" والتي تم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي بدءاً من يناير الماضي، بدعوى أنها تمنع الإصابة بفيروس كورونا أو تشفي من أصيبوا بها، والتي لم تنتشر فقط في جروبات الماميز على الواتساب، والحسابات المضروبة على تويتر، والصفحات المشمومة على الفيسبوك، بل تم الترويج لبعضها في البداية من قبل عدد من السياسيين والمشاهير، وعلى رأسهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومن بين هذه الوسائل العلاجية ما يلي:

"التعرض للأشعة فوق البنفسجية ـ زيارة الساونا بانتظام ـ شرب الماء المغلي بعد إضافة الليمون إليه ـ شرب منقوع الشمر ـ شرب الفودكا ـ شرب الويسكي الساخن ـ شرب الميثانول ـ شرب سوائل تبييض المواعين ـ استنشاق الكلوفوروم والإثير ـ استنشاق الكوكايين ـ تناول الزنجبيل المسلوق على معدة فارغة ـ تناول الكركم بانتظام ـ أكل البصل والثوم ـ أكل كميات من الأفوكادو ـ امتصاص خليط من الأعشاب المتداولة في الهند منذ قديم الزمان والتي تعرف بخلطة الأيورفيدا ـ تناول مزيج مكون من زهرة العسل ونبات الفورسيثيا ونبات بايكال سكولكاب ـ تنظيف الأسنان بمعجون أسنان مملوء بمعدن الفضة ـ لمس شاشة التلفزيون أثناء مشاهدة الواعظ الإنجيلي كينيث كوبلاند ـ تدفئة الجوارب قبل لبسها ـ "تلييط" الصدر بدهون الوز بشكل يومي ـ دهن البطن بالمسطردة بانتظام ـ تشغيل مجفف الشعر بعد إلصاقه بفتحة الأنف".

أكثر ما توقفت عنده في تلك العلاجات المزيفة ثلاثة أساليب علاجية أولها تناول مرخيات العضلات، والتي لم أفهم هل تصور من اخترعها أن مرخيات العضلات ستؤثر على الفيروس بعد دخوله في الجسم، أو أنها ستؤثر على عضلات المريض فتمنع الفيروس من الالتصاق بها. الأسلوب الثاني هو "شرب مياه الحنفية في مصر"، وهو أسلوب لم أسمع به من قبل، على كثرة ما وصلني ويصلني من نصائح بلهاء يتطوع الأقارب والأصدقاء بإرسالها، ويبدو أن من استخدمه افترض أن نسبة الكلور العالية في مياه الحنفيات لدينا ستكفي للقضاء على الفيروس، لكنه نسي أن ما بها من شوائب سيقضي على كلية السليم قبل المريض. أما الأسلوب الثالث وهو الأشد فرادة وغرابة فهو "قيادة الجرارات أو التراكتورات"، وقد حاولت البحث عن تفسير لهذا العلاج، فلم أجد سوى أن رائحة عادم التراكتور ستقضي على كل ما في الجهاز التنفسي، كفانا الله وإياكم شر الجهل والمرض.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.