القتل على المبادئ الدستورية الأميركية (1/2)

القتل على المبادئ الدستورية الأميركية (1/2)

27 مايو 2020
+ الخط -
منذ أول لحظة في فيلم (قتل جيد good kill) يحرص الكاتب والمخرج أندرو نيكول على تذكير المشاهد بأن ما سيراه مأخوذ عن وقائع حقيقية، وقعت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حين بدأ الجيش الأميركي في استخدام تكنيك الضربات الجوية الموجهة عن بعد، للحرب على الإرهاب، وأن قصة الفيلم وقعت بالتحديد خلال عام 2010، في ظل أكبر تصاعد لعمليات القتل التي تستخدم الدروع الجوية الموجهة عن بعد، لتتيقظ حواسك وأنت تشاهد لقطات مصورة من ارتفاع ساحق، لشوارع قرية في إحدى ربوع أفغانستان، مصحوبة بصوت يقول "البحث عن أهداف معادية".

تبدأ الكاميرا التي نفهم أنها مثبتة في طائرة بالاقتراب أكثر وأكثر من شوارع القرية، ونرى لقطة مقربة لعين الرجل الذي يقوم بتوجيه الطائرة التي تبحث عن الأهداف المعادية، فيرى في شوارع القرية سيدة تحتضن طفلها، وأطفالاً يلعبون الكرة، وحافلة مدنية تسير في شوارع القرية، ثم يصل أخيراً إلى الهدف المعادي الذي يرغب في توجيه الضربة إليه، وهي مجموعة رجال يقفون في شوارع القرية سوياً. نسمع صوتاً على خط اتصال مفتوح، يؤكد له أن هذا هو الهدف المعادي طبقا للمعلومات الإستخباراتية، ويأمر بسرعة التنفيذ قبل أن تقترب الحافلة من الرجال فيزيد عدد الضحايا، ينفذ الرجل الجالس خلف الشاشة، ينطلق الصاروخ في خلال عشر ثوان، فيصيب الهدف مباشرة.

حين ينجلي الغبار عن حصاد الضربة الصاروخية التي هبطت من السماء، نسمع صوته ينطق بعبارة "good kill" التي اختيرت عنواناً لهذا الفيلم الجريء، ويقول قائده معلقا على النيران التي يراها مشتعلة أمامه: "لا يسمونها نيران الجحيم دون سبب"، فيعلق زميله بفخر شديد: "هذا أفضل استخدام رأيته اليوم لمبلغ 68 ألف دولار من أموال دافعي الضرائب"، في إشارة إلى قيمة الصاروخ الذي تم إطلاقه على الأعداء المفترضين، في حين يبدأ زميل آخر في عد الضحايا الذين أسفر عنهم التفجير، ثم ينهض منفذ الضربة ليغادر الشاشة، ويخرج من المكان الذي نكتشف أنه ليس سوى مقطورة في قاعدة جوية في صحراء نيفادا، على مقربة من مدينة لاس فيغاس الشهيرة، ويركب سيارته متجها إلى منزله ليستأنف حياته العادية.


في السوبر ماركت الذي يتوقف أمامه في طريقه إلى البيت لإحضار بعض الطلبات، يقول له العامل مشيراً إلى زيه الرسمي: "هل هذا حقيقي؟"، فيرد عليه بلهجة لا تخلو من السخرية: "فجرت ستة من رجال طالبان اليوم وها أنا عائد إلى البيت لعمل حفلة شواء"، يظن العامل أنه يمزح، يهز منفذ الضربات الجوية رأسه دون اكتراث، ويتحرك عائدا نحو بيته، ليشهد فور دخوله أزمة بين زوجته وابنه بسبب مشكلة يواجهها الولد في المدرسة، يطمئن على ابنته، يبدأ في الشواء، وفي المساء تحاول زوجته الجميلة إغراءه، فلا تجد منه تجاوباً، فتقول له ساخرة: "تبدو على بعد أميال من هنا، ربما سبعة آلاف ميل"، يتجاهل الدعابة ويغادر الفراش ليوجه لها رسالة بأنه غير مهتم، لنعرف فيما بعد أنها لمست وترا حساسا لديه، ونفهم من هذا المشهد أن السعادة التي نتوقعها في بيت مريح وفخم كالذي يسكنه البطل، ليست موجودة على الإطلاق.

مع توالي أحداث الفيلم، ندرك أن مشكلة بطل الفيلم الميجور توماس إيجان، والذي لعب دوره الممثل المتميز إيثان هوك، ليست في أنه يمارس القتل، كما نتخيل في البدء، بل في أنه لا يجد متعة في القتال عن بعد، فقد كان من قبل طياراً حربياً مشهوداً له بالكفاءة خلال قيادته لطائرة إف 16، التي خاض بها أكثر من مائتي طلعة جوية في العراق وأفغانستان، قبل أن يستقر به المقام في قاعدة كهذه، لكي يضرب الأهداف المعادية عن بعد، وبشكل يعتبره إهدارا لطاقته ومهاراته القتالية.

في مشهد مبكر في الفيلم، نراه يناشد قائده أن يعيده ثانية إلى الطيران الحربي، فيقول له قائده ساخرا "أعرف كيف تشعر، الأمر أشبه بالإنتقال من سيارة فيراري إلى سيارة فورد فييستا، لكن عليك أن تتقبله"، ثم يعده بأنه سيحاول تلبية طلبه، وبعد قليل نعرف أنه كان يكذب عليه، لأنه لا يستطيع التفريط فيه، فهو الوحيد من منفذي الضربات الجوية، الذي لا يحتاج لأن يبذل مجهوداً لكي يتخيل أنه موجود بالفعل في سماء أفغانستان، وهو يقوم بتنفيذ الضربات الجوية عليها، فقد كان بالفعل في سماء أفغانستان يوما ما، ولذلك فهو يؤدي بكفاءة منقطعة النظير، ولكي يرينا المخرج أندرو نيكول مدى قوة مشاعر الحنين التي يحس بها بطله إلى مقعد الطيار المقاتل، يجعلنا نراه يحلم بتلك العودة إلى مقعد الطيار المقاتل، مؤدياً طلعات شديدة المهارة، وحين يستيقظ من نومه، نراه يقف بسيارته أمام طائرات مقاتلة مركونة على أرض القاعدة الجوية، ناظراً إليها بأسى، كأنه يرى فيها مستقبله الشخصي، إذا قرر أن يواصل التمرد على قدره، وظني أن اختيار أندرو نيكول لتنفيذ هذا الحلم، لم يكن بسبب رغبته في إحداث إبهار فني يزيد من تميز الفيلم، بل لكي يساعده أكثر على تقديم شخصيته للمشاهد بوصفه شخصاً لا يمتلك موقفاً ضد الحرب أو متشككاً فيها، بل هو فقط ضد القتال عن بعد، بوصفه ينتمي إلى المدرسة القديمة من المقاتلين، وهو ما سيساعدنا على أن نصدق أزمة الضمير التي سيعاني منها فيما بعد.

في مشهد محوري نرى القائد الذي يلعب دوره الممثل المخضرم بروس جرينوود، وهو يلقى كلمة حماسية على الدفعة الجديدة التي تم تجنيدها، للبدء في التدريب على تنفيذ الضربات الجوية عن بعد، وقد أحاطت بهم الدروع الجوية التي تطير بدون طيار، قائلا لهم بصرامة وجدية: "الطائرات التي تحيط بكم ليست مستقبل الحرب، هي الواقع اللعين الموجود الآن بالفعل، في أي وقت في النهار أو في الليل، توجد دستة منها تحلق في السماء، وأغلبها يطير فوق جنة عدن التي يسمونها أفغانستان، ومن شدة نشاطها بدأ البعض يعتبرها طائرنا الوطني الجديد ـ في إشارة منه إلى النسر الأميركي الشهير ـ أعلم أننا نواجه بخراء كثير من قبل الرأي العام بخصوص هذا البرنامج، وقد سمعت كل تلك الجدالات العقيمة والهجمات السخيفة التي تتهمنا في القوات الجوية بأننا نخوض حربا كألعاب الفيديو، كل ذلك الكلام لا طائل من ورائه، لأن القوات الجوية تأمر بتصنيع طائرات كهذه الآن، اكثر بكثير من الطائرات القتالية التقليدية، هذه الطائرات أو الدروع الجوية أو سموها كما تشاؤون، لن يتم إيقافها، بل ستكون موجودة في كل مكان، لا أريد أن أنمق كلامي بعبارات من نوعية ملاحقة الهدف أو القضاء على التهديد، أو ما إلى ذلك، من الآخر نحن نقتل أناسا بهذه الطائرات، ولذلك يجب أن أذكركم كل يوم بأن هذا ليس بلاي ستيشن لعين، بغض النظر عن أننا لم نعترف في الصحافة بأننا قمنا بتجارب المحاكاة على ألعاب إكس بوكس، وأن نصفكم تم تجنيده من المولات لأنكم بارعون في الألعاب، لكن تبقى الحقيقة أن من يطلق الزناد أولا سيفوز في الحرب، لكن سيكون عليكم وأنتم تضغطون على الزناد هنا، أن تتذكروا أن ما تفعلونه حقيقي، وأن ما ستفجرونه لن يكون مجرد صور رقمية، بل سيكون لحما ودما لعينا".

مع تطور أحداث الفيلم، يظل الفيلم مقسماً بين مكانين رئيسيين: المقطورة التي يتم توجيه الضربات منها في القاعدة الجوية، والأرض المستهدفة في ربوع أفغانستان، لتتطور مع الوقت علاقة بين الميجور توماس إيجان، وبين الشخصيات التي يراها على الأرض من خلال كاميرات الدرع الجوي الموجّه، لتصل العلاقة إلى تعاطف مع بعض تلك الشخصيات، تعاطف لا يشعر به مع زوجته التي تعيش إلى جواره، لكنه يشعر بغربة شديدة عنها، تزداد كل يوم، بسبب عدم سيطرته على مشاعره الغاضبة من نقله إلى هذه الوظيفة التي فقد معها روحه وقدرته على السعادة، لأنه أصبح ببساطة "طيارا لا يطير"، ولذلك فهو لا يشعر بأي تقدير لمهنته، كالذي يشعر به ضابط المرور الذي يرفض تحرير مخالفة له، حين يقود سيارته وهو سكران، تقديرا منه لاشتراكه في الحرب على الإرهاب التي تم تجييش المجتمع الأميركي للاشتراك فيها بصورة أو بأخرى.

...

نكمل غداً بإذن الله
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.