بحثا عن أغنية تليق بمقام ست الحبايب (2/2)

بحثا عن أغنية تليق بمقام ست الحبايب (2/2)

25 مارس 2020
+ الخط -
لا أريدك أن تفهمني خطئاً فتتصور أنني معادٍ لأغاني الأمومة، لمجرد أن لي موقفاً سلبياً ـ أو لنقل غير متحمس ـ من أغنية (ست الحبايب) ومحاولة استنساخها بشكل ما في أغنية (أحن قلب في الدنيا دي قلبك يا أمي)، فأنا محب منحاز لأغنية جميلة غنتها فيروز ولحنها الأخوان رحباني وكتبها سعيد عقل، يقول مطلعها: "أمي يا ملاكي.. يا حبي الباقي إلى الأبد.. ولم تزل يداكي أرجوحتي.. ولم أزل ولد"، لأنها تعلو على كل تفاصيل السهر والتعب والشيل والحط والطبخ والخبز والكنس والتشقير، لتلتقط فكرة الحب الأبدي بوصفها جوهراً لفكرة الأمومة، وإن كانت فكرة الأبدية تمثل نوعاً من الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة على الأم التي لا نكف أبداً عن الاحتياج إليها والاعتماد عليها.

تربط أغنية فيروز أيضاً بين الأمومة والملائكية التي ترتبط في اذهاننا بفكرة القداسة والتخلي عن كل ما هو بشري، وهي صورة تعودنا على أن نتخيل فيها أمهاتنا، حتى لو كن نعلم أن أمهاتنا بشريات خلقن مثلنا من طين لازب، وهو ما نبدأ في اكتشافه مبكراً، في اللحظات التي تتخلى فيها أمهاتنا عن صبرهن علينا أو على آبائهن، لتنبعث منهن كلمات غير ملائكية بالمرة، لكننا تعودنا على إسقاط هذه اللحظات من ذاكرتنا، لنحتفظ لأمهاتنا بصورة المضحيات الصابرات الصامدات اللواتي لا تدوم لحظات انهيارهن لأكثر من دقائق.

حكاية الربط بين الأم والملاك ترد سريعاً في أغنية أخرى من أغنيات الأمومة هي أغنية شادية الشهيرة بعنوان "ماما يا حلوة يا أجمل غنوة" التي كتبها كمال منصور ولحنها منير مراد، حيث يرد في كلماتها: "انتي يا ماما ملاك مِ الجنة.. تحت جناحك أعيش وأتهنى"، ومع إن منير مراد بدأ الأغنية بلحن راقص ممتلئ بالشقاوة التي تبروزها طريقة شادية في نطق كلمة "ماما"، إلا أن رتابة الكلمات وعقمها أضفيا على اللحن فجأة نفحة من النكد التي جعلت الأغنية مرتبكة ومعلقة بين السماء والأرض، فلم يعش منها إلا مطلعها الذي يستخدمه المونتيرون بكثافة في فيديوهات الحلقات الخاصة التي يتم عملها من البرامج التلفزيونية بمناسبة عيد الأم.


ستجد ارتباكاً من نوع مشابه في أغنية جميلة عن الأمومة لفيروز كتبها ولحنها زكي ناصيف، فبعد مدخل رائع تقوم فيه فيروز بمحاولة جميلة تحول الأمومة إلى رائحة عطرة، حين تقول: "أمي يا أمي الحبيبة.. نفح الرياحين والورود"، ثم تعبر عن اشتياقها إلى ابتسامة أمها الرطيبة، وتثني على جمال وجهها بأجمل ما يكون الثناء " لا وجه قد لاح فيه حسن.. يرقى إلى وجهها الكريم"، لكن اللحن يسقط بعد ذلك في فخ الرتابة، وتواصل الأغنية الابتعاد عن الوجدان، حين تدخل في تهويمات فنية غريبة من نوعية "ألقاك في نجمة الصباح في مبسم الزنبق الرطيب.. في زرقة البحر في الأقاحِ"، وهي أماكن لا تخطر على بال الواحد منا حين يلتقي أمه، ليس لمشكلة فيها، بل لمشاكل تخص علاقتنا كمصريين بكلمات مثل الزنبق والأقاحِ.

ذكرتني هذه المشكلة بصديق كنت قد دللته على أغنية فيروز "أمي يا ملاكي" فأعجبه الجزء الأول منها جداً، لكنه فصل من الأغنية حين وصل إلى الجزء الثاني منها، الذي قرر سعيد عقل أن يشير فيه إلى فكرة وجع الأمومة، فربطه بوجع الحب، قائلاً: "أمي نبض قلبي.. ندايا إن وَجِعت.. وقبلتي وحبي.. أمي إن وَلِعت"، لكن وقع كلمة "وَلِعت" لم يكن مناسباً لصديقي، لأنه ذكره بدعوة أمه الدائمة: "إلهي تولع يا بعيد"، وهي من جنس الأدعية الغاضبة التي تحب أمهاتنا ترديدها، معتمدات على أن أحداً لن يؤمن على دعائهن، وأن الله لن يستجيب له، لأنه جل في علاه يعلم أنه ليس سوى طق حنك وفش غلّ.

على عكس اللحن الجنائزي الرتيب الذي قدّمه بليغ حمدي مع وردة في كلمات عبد الوهاب محمد "كل سنة وانتي طيبة يا مامتي وبعودة الأيام"، والذي زاده التصوير التلفزيوني رتابة وغتاتة، يقدم كمال الطويل وصلاح جاهين مع سعاد حسني في "صباح الخير يا مولاتي" الأمومة في حالة أكثر تنوعاً، بها الكثير من البهجة لكنها لا تخلو أيضاً من الشجن، وبرغم عبقرية الدخلة التي تصف الأم بأنها "أول حب في حياتي"، وتلعب على فكرة تعدد ألقاب الأم "يا ماما يا أمّه يا أمّاتي"، إلا أن الأغنية تدخل بعد ذلك في حالة من التيه لحناً وكلاماً، تصل إلى ذروتها في المقطع الذي يقول: "أغني للأمومة ولليد الخدومة.. وأقول الله يا أمي على الدفء والنعومة"، لتعود صورة أم حسين السيد لتخيم على باقي كلمات الأغنية التي تتحدث عن التعب والشقا والسهر وبيات الأم مهمومة، لكن صلاح جاهين يعود كعادته لتقديم شيئ مختلف مع نهاية الأغنية، حين يقول: "ما انساش الابتسامة.. ومش حانسى يا ماما.. الشخطة اللي تعلم.. وما تهينش الكرامة.. علمتيني المعاني.. والصبر على الأماني.. والضحك والأغاني.. وكلمتيني يا ما"، ليوجه في الشطرة الأخيرة تحية متفردة لرغي الأمهات التي نظن وتظن أمهاتنا أنه "يدخل من وِدن ويخرج من الوِدن التانية"، لكننا نكتشف في مرحلة ما أن شيئاً ما يبقى منه، وأننا نعيد إنتاجه مع أبنائنا أحياناً بشكل أفضل، وفي أغلب الأحيان بشكل أفشل.

سيبقى لكل من هذه المحاولات في الغناء للأم تميزها وخصوصيتها وجمهورها المتحمس، لكنني أعتقد أن مقام الأمومة لا زال بحاجة إلى أغنية أكثر ذكاءً وفرادة، وحتى يحدث ذلك، ستبقى أكثر أغنية تذكرني بأمي وتجعلني أنهار من العياط، كما ينهار المولعون بأغنية "ست الحبايب يا حنانا إنت"، أغنية "يا ظالمني" للست أم كلثوم، لأنني لا أنسى أول مرة سمعتها فيها من فم أمي، وهي تغنيها خلال انهماكها في الغسيل، حريصة على ألا تطلق العنان لدموعها، وقد استعدت منها بعد ذلك مراراً وتكراراً المقطع الذي تتجلى فيه مغنية مع الست: "ويكتر في هواك اللوم.. وأبات أبكي على حالي.. وتفرح فيّ عُزّالي.. ولما أشكي تخاصمني.. وتغضب لما أقول لك يوم يا ظالمني"، وحين سألتها مناغشاً ذات مرة ما إذا كانت الأغنية تذكرها بحبيب قديم، زغدتني بقدر كبير من ضبط النفس، ثم قالت لي وهي تواصل مسك نفسها من البكاء: "باغنيها لأمي يا موكوس.. بكره لما تبعد عن أمك هتفهم.. ولو إن عمرك ما هتفهم".

والله فهمت يا أمي. فهمت.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.