في نفق العروبة

في نفق العروبة

19 مارس 2020
+ الخط -
لم يكن أحد على الإطلاق يتوقع أن تشهد البلاد مصيرًا كهذا.

لسنوات طويلة كان هاجس غيابه المفاجئ يؤرق معارضيه قبل مؤيديه ويرعب خصومه أكثر من المنتفعين به.

كلما كانت سيرة احتمال غيابه المفاجئ تأتي يهرب من مسكها الجميع، يصرخ البعض بحدة لإخفاء رائحة النفاق: «ربنا ما يحرمنا من طلته أبدًا»، ويهرب البعض من الموضوع الشائك مكتفيًا بإبداء قلقه على البلاد ومتمتمًا: «حتى الرسول مات وأمر الله لابد يكون.. بس ربنا يستر»، البعض الثالث كان يقول بحماس في وجه من يخاف على مستقبل البلاد: «مصر طول عمرها ولادة»، فإذا طلبت منه أن يرشح واحدًا من مواليدها للعب دور البديل قال لك وهو يكاد يرزعك قلمًا من فرط الغيظ: «يعني إذا كان قد حكمها أكثر من ربع قرن من لم يكن يحلم بحكمها البتة تأكد أنها لن تمانع في تسليم مقاليدها لشخص آخر لا يحلم بحكمها قط.. صحيح أن مصر جاءها الضغط والسكر بس لا تنسَ أن قلبها لسه كبير».

لكنَّ أحدًا من كل هؤلاء لم يكن يتوقع أن يأتي غيابه المفاجئ على ذلك النحو الفريد الذي هز الكون كله.

منذ اللحظة الأولى التي أذاعت فيها وكالات الأنباء ومحطات التليفزيون ذلك الخبر العاجل وحتى الآن لم يفهم أحد ما حدث. «اختفاء موكب الرئيس في نفق العروبة». كيف ولماذا وأين اختفى وهل سيعود؟ كل هذا لا يعرفه أحد وربما لن يعرفه أحد في المستقبل القريب.

كل ما يعرفه الناس أن موكب سيادته دخل نفق العروبة في طريقه إلى مجلس الشعب ليلقي خطابه التاريخي الذي سيقرر فيه ما إذا كان سيقبل تولي مسئولية البلاد ست سنوات أخرى بناء على طلب المستمعين، بعد لغط استمر سنوات طويلة حول ما إذا كان سيورث مقعده لابنه، أو سيسنده لأحد معاونيه، أو سيترك ذكرى طيبة بإجراء انتخابات رئاسية حرة تحت إشراف القضاء وانصراف الأمن، يقرر فيها الشعب مصيره لأول مرة بعد مرور ستين عامًا على إطلاق أغنية «عرف الشعب طريقه».

للحظات ظن الضباط المسئولون عن تأمين الموكب والعساكر المديرون ظهرهم باتجاه المخبرين اللاعبين أدوار المواطنين المدلهين بحبه، أنهم قد أصيبوا بعمى مؤقت جعل الموكب يفوتهم بعد خروجه من النفق، لكن الصيحات التي انبعثت من أجهزة اللاسلكي تسألهم عن سر تأخر وصول الموكب إليهم جعلتهم يفتحون أعينهم على اتساعها بحثًا عن سر تأخر خروج الموكب من النفق، لكن أعينهم ما شافت إلا النفق خاويًا موحشًا كئيبًا كأنه لم يفتتح بعد.

لأيام تلت شافت أعين عاثري الحظ هؤلاء "نجوم الضهر" وهم يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب التي لم تقع على أعتى المعارضين في تاريخ البلاد، كان السؤال مُربكًا للسائل والمسئول: «الموكب راح فين ياله.. يعني إيه اختفى.. إنت هتستعبط». وبعد أن اعترف جميع هؤلاء في اليوم الخامس من التعذيب بأنهم قاموا بإخفاء الموكب في مكان أمين مستعدين للإرشاد عن مكانه وإعادة تمثيل الجريمة، اتضح عدم جدوى الاستمرار في تحميلهم المسئولية وكان لابد أن تواجه البلاد مصيرها المظلم الذي لم يخطر لها على بال.

كل الاحتمالات قُتلت بحثًا، حتى تلك التي كانت تستوجب قتل قائلها لفرط تفاهتها؛ مثل احتمال تعرض الموكب لهبوط أرضي بفعل تكرر إصلاحات المحافظة للنفق، مرورًا بتكليف مرصد حلوان بدراسة احتمال انجراف الموكب داخل ثقب كوني أسود بحكم تصادف دخوله النفق لحظة تعامد قرص الشمس على قطاع الأخبار، وصولا إلى تشكيل فريق من أطباء العيون لدراسة احتمال كون الموكب "موجود بالفعل بس إحنا اللي مش قادرين نشوفه". حتى أستاذ التاريخ الشهير الذي اعتقل لأنه قال في قناة فضائية إن ما حدث يذكر باختفاء الحاكم بأمر الله في صحراء المقطم قبل مئات السنين تم إطلاقه لكي يرأس فريقًا بحثيّا يحقق في ملابسات اختفاء الحاكم بأمر الله لكي يستفيد فريق البحث الجنائي منها، بل ووصل الأمر إلى إصدار قرار من النائب العام بفتح قبر ست الملك شقيقة الحاكم بأمر الله لدراسة تورطها في قتل أخيها فقط لكي يتم حسم ما إذا كان يمكن لأي حاكم بأمر الله أو بأمر غيره أن يختفي أساسًا.

زادت البلبلة عندما تفجرت أرض البلاد في سائر مدنها منتجة سوائل كثيفة لزجة، قال بعض رؤساء تحرير الصحف الحكومية إنها من فرط حزن أرض مصر على اختفائه المفاجئ، وقال بعض أئمة المساجد إنها دليل على أن غضب الله قد حل على العباد وإنه قد حان ظهور إمام الزمان، ليتضح بعد تشكيل لجنة هندسية رفيعة المستوى أن الأمر وراءه تصدع مفاجئ في شبكتي مواسير المياه والصرف الصحي. وخلال ذلك كله لاص أساتذة القانون الدستوري أيامًا وليالي في محاولة البحث عن مخرج دستوري لسد الفراغ الدستوري الذي حدث، خاصة أن حكاية الاختفاء المفاجئ هذه لم تكن لترد أبدًا لدى «أجمح» ترزية الدساتير خيالا.

الذين راهنوا على أن الشعب سينتج بعد ما حدث نُكتًا تميت من الضحك خاب أملهم جميعًا؛ لأن الشعب منذ اليوم الأول لتلك المفاجأة الكونية كاد يموت من الخوف، علماء الاجتماع السياسي فسروا ذلك بأن النكت كانت تنطلق بعد رحيل حكام قصيري العشرة مع الشعب المؤمن، والمؤمن كما نعلم إلف يؤلف، على عكس سيادته الذي لم يعد أولاد بلدنا يتخيلون أيامهم من غيره، ولدوا ونشأوا وشبوا وشابوا وترعرعوا وذبلوا عليه، عندما جاء إليهم لم يكونوا يعرفونه ثم أصبحوا لا يعرفون غيره، تسعة وتسعون وتسعة من عشرة في المائة من أبناء الشعب لم يشهدوا حاكمًا قبله ولا غيره، كأن الدنيا بدأت به وكأنها لن تنتهي أبدًا ما دام فيها، طبقات الأرض تبدلت فالتحم بعضها وانفصل بعضها، وبقي هو، أغرق المد البحري جُزرًا وهدمت الزلازل دولا وغطت البراكين مُدنًا وشردت العواصف شعوبًا، وهو كما هو، يبدو كأن التاريخ قد تجمد عنده فاصطدم الماضي بالحاضر قبل أن يصطدما سويّا بالمستقبل ويشكلون معًا شيئًا غير مسبوق في تاريخ الكون، وحدة زمنية مصمتة، الحاضر فيها ماض سبق للناس أن عاشوه، والمستقبل فيها يتمنى الناس أن يكون بنفس سوء الحاضر لا أكثر سوءًا، لم يعد الزمن في أيامه يقاس بالأيام أو الشهور أو حتى بالسنين، أصبح يقاس بالحِتت، "حِتَت" زمنية قد يبدو لك أنها تختلف عن بعضها لكنك لو أمعنت النظر فيها مليّا لاكتشفت أنك قد عشتها قبل ذلك، إن كنت مؤيدًا تشعر أنك قد قلت كل ما لديك في حِتّة ما، وإن كنت معارضًا تشعر أنك قد استنفدت كل ما لديك في جميع الحِتَت، جاب الكل آخره دون أن يبدو أن هناك آخِرًا يمكن أن يبلغه أحد.

عندما اقتربت البلاد من دخول عام على اختفاء موكبه المفاجئ في نفق العروبة كان قد تأكد للجميع مجددًا أن "ربنا ما بيعملش حاجة وحشة". ملف التوريث الذي أنهك البلاد والعباد سنين عددًا أُقفِل غصبًا عن الجميع مؤيدين ومعارضين، فحتى أكثر الجائعين للتوريث لم يكن ليجرؤ على الإفصاح عن رغبته دون أن يعرف مصير الموكب المختفي. بعد شهر على الأكثر عاد الناس لممارسة حياتهم الطبيعية بأفضل مما كانوا عليه ولم يعد تفسير لغز الاختفاء يحتل أغلب وقتهم، بل أصبح اللغز الجديد الذي يشغل بال المراقبين هو أن كل ما كان الجميع يحذرون من حدوثه عند غياب الرئيس لم يحدث، فلم تشهد البلاد انفلاتًا أمنيّا أو فراغ سلطة أو ثورة جياع أو أزمة دستورية أو اختلالا اقتصاديّا أو ماء نقيّا، وهو ما فسره علماء الدين أن اختفاءه المفاجئ أعاد الوازع الديني ليتحكم في أفعال الناس خوفًا من أن يتعرضوا للاختفاء، وعندما أرسلت الأمم المتحدة وفدًا من كبار خبراء السياسة والاقتصاد والاجتماع السياسي الدوليين لدراسة هذا الوضع الفريد دوليا لمعرفة كيفية التعاطي معه لم يصل الوفد إلى نتائج قاطعة،حتى أن رئيس الوفد قبل مغادرته البلاد لم يجد تفسيرًا لعدم احتياج الناس إلى من يشغل المنصب الشاغر سوى قوله: «بعد دراسة مستفيضة اتضح لنا أن الجمهورية في السنوات الأخيرة من حكمه لم تعد تحيا، بل أصبحت تعيش وخلاص، ولذلك فهي لا تحتاج إلى رئيس بقدر ما تحتاج إلى معجزة».

وعلى مقهى شعبي يقولون إن عمره سبعة آلاف سنة قال لاعب طاولة بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «حد يصدق إن البلد تمشي كده بالبركة»، فقال له صاحبه وهو يحاوره: «ومنذ متى مشت بلدنا بغيرها».

....

ـ نُشرت هذه القصة لأول مرة عام 2007 وهي جزء من مجموعتي القصصية الثانية (ما فعله العيّان بالميت)، وأظنك ستجدها مرتبطة بما يجري في هذه الأيام، وبما سيجري بعدها.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.