النصب في زمن كورونا

النصب في زمن كورونا

16 مارس 2020
+ الخط -

كالعادة، تخرج الكوارث والأزمات أفضل ما في بعض الناس وتدفعهم للتضامن مع غيرهم والتخلي عن أنانيتهم، لكنها في الوقت نفسه تشكل فرصة ذهبية للأوساخ من هواة التربح من المصائب، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر مذيع الراديو الأميركي أليكس جونز الشهير في أوساط المحافظين والعنصريين البيض بنشره لنظريات المؤامرة وترويجه للأفكار المتعصبة، والذي وجهت له المدعية العامة لولاية نيويورك ليتيتا جيمس تحذيراً رسمياً عبر حسابها على موقع (تويتر) لكي تتوقف شركته عن بيع منتجات زعمت أنها تشفي من فيروس كورونا المستجدّ، وتم بيعها بكميات كبيرة من خلال موقع أمازون للتجارة الإلكترونية، ولولا تصدي البعض لفضحه على السوشيال ميديا وإبلاغ السلطات عنه، لواصل بيعها مستغلاً حالة الهلع التي تتنامى من الفيروس اللعين كل لحظة.

من أبرز المنتجات التي باعتها شركة أليكس جونز، معجون أسنان اسمه (سوبر بلو) زعم أنه يشفي جميع فيروسات عائلة سارس ـ كورونا بما فيها الفيروس الأحدث في العائلة اللعينة، وبعد أن فضحته العديد من المواقع، قام بتعديل صفحة المنتج على موقع أمازون وأضاف إليها ملاحظة تقول إن "هذا المنتج ليس مصمماً لتشخيص وعلاج ومنع أي مرض وعلى أي شخص يقوم بأخذ أدوية استشارة طبيبه قبل أن يستخدم هذا المنتج"، وهو ما حدث مع منتجات أخرى كانت شركته تبيعها على مواقع التسوق تزعم القضاء على فيروس كورونا من بينها كريمات ومكملات غذائية.

شارك عدد من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في الحملات على مثل هذا النوع من المنتجات الذي انتشر على الفيس بوك ومواقع التسوق الإلكتروني، ونجحوا في لفت نظر السلطات إلى التدخل، ليس في حالة شركة أليكس جونز وحدها، بل في حالة شركات أخرى قامت بالإعلان عن منتجات وهمية والتي وصلت أحياناً إلى بعض برامج التلفزيون في المحطات الإقليمية، ومع أن مواقع فيس بوك وأمازون وإي بيي تفاعلت وإن متأخراً بعض الشيء مع الحملات على مثل هذه المنتجات، وبدأت في فرض قيود عليها، إلا أن المهمة لن تكون سهلة، خصوصاً مع انتشار المجموعات المغلقة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تستغل حالة الهلع أحسن استغلال.

في الوقت نفسه، كان للتحذير الحاسم الذي أصدرته المدعية العامة لولاية نيويورك لهذه الشركات مفعول مهم، حيث شجع مواطنين أميركيين من ولايات مختلفة على اللجوء إلى حسابها على تويتر لإبلاغها عن شركات تمارس التربح من الكارثة، وكان أحدث ما قرأته بالأمس تغريدة يزعم كاتبها أن إحدى الشركات الكبيرة التي تعاقدت معها الحكومة الأميركية لإجراء فحوص على فيروس كورونا، يملكها شقيق جاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي لم يكن من الممكن أن يفوت فرصة تحقيق أرباح لعائلته من كارثة كهذه، ليتلقى كاتب التغريدة تغريدات مضادة تهاجمه وتتهمه بالافتراء على دونالد ترامب، وتغريدات تدعمه وتطالب المدعية العامة لولاية نيويورك بالتحقيق في هذه المزاعم بشكل جاد، وأعتقد أن الأيام القادمة ستشهد المزيد من هذه الاتهامات التي يختلط فيها الحق بالباطل والدقيق "بالأوفر"، خصوصاً  بعد أن أثبتت التجارب استحالة القضاء على الأخبار الكاذبة التي تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي يعيش مروجو نظريات المؤامرة عليها أسعد أيامهم، وإن كان ما يحققه هؤلاء من انتصارات معنوية، لا يقارن بما يحققه بائعو الأوهام من انتصارات مادية قد تجعل أزمة فيروس كورونا من أهم أسباب سعدهم.   

في هذا السياق، قرأت على موقع NBC الإخباري الأميركي تقريراً كتبه بن كولينز يشير إلى فضيحة ثقافية وتسويقية مرتبطة بوباء كورونا، وبموقع أمازون للتجارة الإلكترونية الذي بيعت عليه كميات كبيرة من كتاب بعنوان: (فيروس كورونا: كل شيء تحتاج إلى معرفته عن فيروس مدينة ووهان وكيف تقي نفسك منه) والذي يحمل اسم المؤلف ريتشارد ج. بيلي، والذي لم يكن يظهر فقط في قسم الكتب على موقع أمازون حين يكتب المستخدم اسم (فيروس كورونا) في خانة البحث، بل كان يظهر فور استخدام خانة البحث عن فيروس كورونا على الصفحة الرئيسية للموقع، قبل مناديل كلوروكس المطهرة ومعقمات الأيدي.

حين قرأ بن كولينز الكتاب وجد أنه يبدأ بمقدمة مكتوبة بشكل جيد تجيب على سؤال "ما هو فيروس كورونا؟"، فاستبشر بالكتاب خيراً، لكنه مع مواصلة القراءة اكتشف أن باقي فصول الكتاب مسروقة وبكل بجاحة من عدد من مواقع الإنترنت، وربما كان ما لفت انتباه موقع NBC إلى تلك السرقة، أن أول فصلين من الكتاب مسروقين حرفياً من تقارير إخبارية كتبتها محررتان للموقع هما إيريكا إدواردز وسارة ميلر وتم نشرها في شهر يناير الماضي، أما الفصل الثالث المخصص لإرشادات النظافة فقد تم لطشه بالحرف من موقع شركة لخدمات النظافة تقع في كاليفورنيا اسمها (نانسي لخدمات التنظيف)، في حين تم سرقة باقي الفصول بالكلمة والحرف من مقالات نشرت على مدونة صينية تُنشر باللغة الإنجليزية وموقع صحيفة الجارديان البريطانية.

حين حاول بن كولينز البحث عن مؤلف الكتاب، لم يجد له أثراً لا على الموقع ولا على شبكة الإنترنت، مما يعني أنه مجرد اسم مستعار استخدمه شخص ما في التربح منتهزاً حالة الهلع التي تدفع الملايين للبحث عن أي معلومات عن هذا الوباء الغامض، مستغلاً ما يقدمه موقع أمازون من إمكانيات النشر الذاتي التي توصل أي كتاب إلى من يبحث عنه دون وسيط يقوم بعملية الرقابة على محتواه، وحين واصل بن كولينز البحث وجد أن هناك كتباً أخرى عن فيروس كورونا تظهر على محرك البحث الخاص بأمازون، تم تأليفها بعد السطو على مجهود آخرين، ونشرت بأسماء مستعارة لمؤلفين مجهولين وحققت مبيعات كبيرة في وقت قياسي.

الغريب أن أحد هذه الكتب والذي كان يحمل عنوان (فيروس كورونا كوفيد 19: كل ما تريد معرفته عنه وكيف تحمي عائلتك منه) وتمت نسبته لمؤلف اسمه جيرالد ليم وانج، تم حذفه من على الموقع يوم 9 مارس بسبب تورطه في الانتحال وسرقة المحتويات، في حين بقي كتاب ريتشارد ج. بيلي على الموقع لفترة أطول، مع أنه كان يحمل نفس المضمون المنتَحل، وربما كان الفرق بين الكتابين أن كتاب وانج ـ إن كان هناك وانج بالفعل ـ أكثر في عدد صفحاته بحوالي 31 صفحة، مما يشكك في كون الاسمين مجرد واجهة وهمية لأشخاص قاموا ببيع الكتابين بأسعار تتراوح من خمسة دولارات إلى 12 دولارا أميركيا، واكتفوا بإتاحة نسخ الكترونية من الكتابين، تاركين خيار الحصول على نسخ ورقية محدداً بخيار "الطباعة حسب الطلب".

نجحت الضجة التي أثارها بن كولينز في إجبار موقع أمازون على حذف كتاب ريتشارد ج. بيلي، لكن خانة البحث عن كتب حول فيروس كورونا على الموقع ظلت ممتلئة بكتب مماثلة للكتابين السابقين، كل ما فيها مسروق ومنتحل من كتب ومقالات أخرى، وتحمل اسماء مستعارة لمؤلفين مجهولين، وهو ما يشير إلى فشل الموقع الذريع في التعامل مع هذه الظاهرة التي تنتج عن وجود دور محدود للتدخل البشري في عملية وضع السلع والمنتجات على الموقع، بما فيها الكتب طبعاً، وهو ما يزيد من فرصة نشر الكتب التي تحتوي على فصول مسروقة من كتب أخرى تحقق لناشريها الإلكترونيين أرباحاً سريعة ومضمونة، وهو ما لم يلفت الأنظار إلى تلك الظاهرة إلا حين ارتبط الأمر بانتشار وباء يحتاج الناس إلى أن يقرأوا عنه معلومات مؤكدة تساهم في إنقاذ أرواحهم، ليزيد الضغط على إدارة أمازون للاهتمام أكثر بطبيعة الكتب التي تباع عليه، وتخصيص موارد بشرية إضافية للتعامل مع الشكاوى التي ترد إليه بخصوص هذه الكتب، ليتم فحص محتواها والتأكد من دقته وعدم مخالفته لحقوق الملكية الفكرية قبل عرضه على الموقع، وهي مهمة برغم كل الوعود الطيبة لن تكون سهلة أبداً.

في السكة نفسها، قرأت في صحيفة (نيويورك تايمز) تقريراً عن شقيقين أميركيين تعاملا مع فيروس كورونا بوصفها فرصة ذهبية لحل مشاكلهما المالية إلى الأبد، حيث كان رد فعلهما أسرع من رد فعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب في التعامل مع الأزمة، ففور سماعهما بوقوع أول حالة وفاة بسبب الفيروس في الولايات المتحدة، ركبا سيارتهما نحو ولاية تينيسي ومنها إلى عدد آخر من الولايات الجنوبية، ليأخذا جولة على متاجر "دولار تري" التي تبيع كثيراً من السلع بأسعار مخفضة جداً، والتي يقبل عليها كثير من الأميركيين من ذوي الدخول المنخفضة، وقاما بشراء كل ما استطاعا الحصول عليه من المعقمات والمطهرات، وعادا بها إلى منزلهما، ليبدءا مع تصاعد حالة الهلع من فيروس كورونا في بيعها على موقعي أمازون وإي بي بأسعار تبلغ أضعاف ثمنها الأصلي، لكن طاقة القدر التي فتحت لهما سرعان ما أغلقت، حين قام الموقعان بحظرهما من التعامل على الموقع هما وعشرات الانتهازيين الذين اتخذوا خطوات مماثلة، بعد تلقي شكاوى كثيرة تشير إلى المغالاة في أسعار المعقمات للتربح من الأزمة، لتستقر كراتين المعقمات والمنظفات في مخزن منزلهما باحثة عن مشترٍ، وإن كنت لا أظن أنها ستنتظر طويلاً مع تصاعد الإحساس العام بوجود خطر حقيقي يشكله فيروس كورونا المستجد على حياة الأميركيين، بعد أن صدق الكثيرون في البداية ما قاله دونالد ترامب عن كون الأمر أزمة عابرة لا تستحق الهلع، وما قاله الكثير من داعميه ومؤيديه من الإعلاميين مثل المذيع راش ليمبو وغيره عن كون الوباء المزعوم مجرد مؤامرة ينفذها الديمقراطيون لنشر الهلع في البلاد وإطاحة ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة.

بالأمس شاهدت فيديو ساخراً انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر فيه رجل وقد وقف على أحد النواصي، وبدا لنا أنه تاجر مخدرات يستقبل زبوناً جديداً، ويتأكد من هويته قبل التعامل معه، وبعد أن يحصل منه على مبلغ مالي ضخم، يقوم بتسليمه لفّتين من ورق التواليت، في إشارة ساخرة إلى النقص الفادح الذي يعانيه ملايين الأميركيين في المنظفات والمعقمات والمناديل، منذ أن تصاعد الحديث عن إمكانية تكرر السيناريو الإيطالي المأساوي في عدد من المدن الأميركية، بالطبع لا أستبعد أن يكون ورق التواليت قد وجد مغامرين نهّازين مثل الأخوين الذين بادرا إلى شراء المعقمات، وهو ما يعني أن المشهد الساخر قد يتحول إلى حقيقة يومية يعيشها الملايين في مدن أميركا، ومع أن شكاوى المستهلكين لن تجعل مهمة المتاجرين بالكوارث سهلة على المواقع الرسمية، إلا أن تصاعد الهلع واستمرار التعثر الحكومي في التعامل مع الأزمة، سيتيح لتجار الكوارث فرصاً غير رسمية للوصول إلى الباحثين عن احتياجاتهم والمطاردين لأي أمل في الشفاء من الفيروس، ولو كان أملاً واهياً.

والمشكلة أن يد القانون قد تستطيع الوصول إلى الانتهازيين الصغار الذين يحاولون تحقيق خبطات ثراء سريعة في مثل هذه الأزمات، لكنها بالتأكيد لن تصل إلى المتنفذين الكبار الذين يتربحون من جميع الأزمات والكوارث، والذين ندعو الله تعالى أن يوفقهم إلى إنجاز حل سريع يقينا من هذا الفيروس اللعين، أياً كان ما سيحصلون عليه من أرباح، لكي نلتقط أنفاسنا ونواصل حياتنا بعيداً عن الذعر والهلع، قبل أن تدهمنا الكارثة التالية.  

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.