ما بعد سقوط الكومبين (14)

ما بعد سقوط الكومبين (14)

06 فبراير 2020
+ الخط -
قرر مؤمن بعد خناقة السيفون أن يلقنني درساً قاسياً، لعلي أدرك أنه يستطيع تحويل حياتي إلى جحيم إن أراد، ولكي يفعل ذلك لم يدخل معي في مواجهة عاصفة، بل قرر أن يختفي من الشقة تماماً وفجأة، ليتركني أواجه مصيري مع من يأتي إليها من أقاربه، ولا أظنه كان سيفعل ذلك لو توقع تداعيات قراره.

بعد أن وقعت الفاس في الراس، ووقع الكومبين على بلاط بلكونته، أصر مؤمن على أن غيابه الطويل عن الشقة بعد خناقة السيفون لم يكن بإرادته، بل كان بسبب تكليفه من رؤسائه بحضور دورة تدريبية لمدرسي التربية الرياضية عقدت في الإسكندرية، وأن قرار إشراكه فيها جاء مفاجئاً لكي يعوض غياب زميل له، ولذلك لم تتح له فرصة إبلاغي بسفره، زاعماً أنه ترك لي ورقة يبلغني فيها بذلك، لكن أحد أقاربه أضاعها للأسف، وأنه حين عاد من رحلته المفاجئة، وجد أهل خطيبته يطالبونه باتخاذ إجراءات حاسمة في مسألة الإعداد للزواج التي تأخر فيها أكثر من اللازم، ولذلك بات يضطر للسفر إلى بلدته بانتظام، ولم يعد يبيت في شقتنا كثيراً، لكنه كلما مر على الشقة ـ وكان ذلك دائماً يحدث للمصادفة خلال وجودي في الجامعة! ـ كان يحرص على الاطمئنان على نظافة المطبخ والحمام والصالة، بوصفها المناطق المشتركة بيننا والتي كان يزعجني تعرضها للعدوان المستفز من بعض أقاربه.

كان إحساسي يقول لي إنه ليس هناك دورة تدريبية ولا إجراءات زواج ولا دياولو، لكن المسألة لم تكن تستاهل أن أذهب إلى عمرو فلنّكة في بولاق الدكرور لكي أتأكد مما زعمه مؤمن، خاصة أنني كنت قد قصرت في زيارة عمرو ووالدته منذ حمي وطيس الدراسة، كما أنني كنت منشغلاً بمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل أن يأتي أول الشهر ويتوجب علينا أن ننفذ فرمان الحاجّة أم عادل بترك شقتنا إلى الأبد، ولذلك لم أجد جدوى من الدخول في مواجهة مع مؤمن، أقول له فيها إنني أعلم أنه قرر بعد خناقة السيفون أن يسلط علي ابن عمته عادل، لكي يضايقني بشكل مدروس، لا يمكنني أن أشكو منه بنفس الطريقة التي شكوت فيها من تدهور أحوال المطبخ والحمام، فحين يقوم سي خرا عادل بالغناء لعمرو دياب بأعلى صوته، وهو يقوم بالطبخ أو الكوي أو الغسيل أو التنظيف، لن تكون مهمتي سهلة لو خرجت لأطلب منه أن يخفض نهيقه، لأنني سأدخل معه في نقاش عبثي، لأن عادل لا يمتلك فقط اعتقاداً راسخاً بأن صوته جميل ويبهج السامعين، بل لديه فوق ذلك يقين بأنه النسخة الفيومي من عمرو دياب، متغاضياً عن نقطة أنه كان يعاني من حَوَل صريح في عينه اليسرى، ومتجاهلاً أن تشبهه بقصات شعر عمرو دياب وألوان ملابسه لن يجعله شبيهاً لعمرو دياب، ولا أذكر أنه فوّت فرصة رآني فيها داخلاً إلى المطبخ والحمام أو خارجاً منهما، إلا وبادرني برفع عقيرته بالغناء لعمرو دياب، قبل أن يسألني عن رأيي في تطور مستواه الغنائي من مرة لأخرى، ثم يطلب مني نصيحة أو تعليقاً، مكرراً في كل مرة تعليقاً سمجاً يؤكد فيه أنه لن يتنكر لي حين يصل إلى الشهرة، وأنني سأكون الصحفي المفضل لديه، ولن يمنح أحداً غيري حق نشر أخباره وحواراته، بل وامتلك الجرأة مرة على أن يسألني هل سيكون من الحكمة أن يحكي لجمهوره عن الظروف الصعبة التي تقابلنا فيها، أم أن ذلك يمكن أن يؤثر على شعبيته.


ما جعلني أشك في أن احتلال عادل للشقة طيلة غياب مؤمن عنها، كان جزءاً من خطة مسبقة لعقابي، هو أنني كنت أعرف أن مؤمن لم يكن يطيق ابن عمته ولا عمته التي لم تكن علاقتها طيبة بوالدته، ولذلك لم يجد حرجاً في السخرية من صوت عادل وحَوَلَه وأوهامه الفنية أمام غريب مثلي، مشفعاً تلك السخرية التي كنت أجدها قاسية بتحذير صريح وجهه لعادل من تعلية صوته بالغناء لكي لا يشتت تركيزي وأنا أذاكر، وحين أخذت يومها أغمغم محرجاً بأنه لا توجد مشكلة بالنسبة لي مع غناء عادل، أصر مؤمن على أن يكرر تحذيره، ثم قال لي بعد أن خرج عادل غاضباً من الشقة إن علي أن أحذر من عادل حين يأتي إلى الشقة، وحين طلبت منه أن يوضح أكثر ما يقصده بالحذر، لأنني لا أمتلك أصلاً في غرفتي ما أخاف عليه، لم يعطني مؤمن عُقاداً نافعاً، لكنه قبل أن ينهي كلامه، طلب مني بعد تردد أن أقوم بإغلاق باب غرفتي بالترباس حين يبيت عادل في الشقة في غيابه، وحين توترت وراحت دماغي لبعيد لا تخشى سواه في حالة كهذه، ضحك مؤمن ضحكة صفراء، وقال لي إنه لم يقصد ما فكرت فيه، وكل ما في الأمر أن عادل يمشي أحياناً وهو نائم، ولذلك لا يمكن التحكم في أفعاله، وأنه قصد مضايقته والسخرية منه أمامي، لكي لا يستحلي التردد على الشقة والمبيت فيها، خصوصاً أن لديه بدائل أخرى يمكن أن يلجأ إليها، حين "ينزل" إلى القاهرة لمطاردة أوهامه الفنية التي اتضح أن عادل كان يأخذها بجدية شديدة.

لذلك كله، لم أكن أتوهم أو أبالغ حين ظننت أن سوء نية مؤمن كانت وراء احتلال عادل لغرفته، التي أصبح يبيت فيها كل ليلة، ويعقد فيها جلسات للسمر مع أصدقاء له لا يقلون غرابة عنه، كان أحدهم يتباهى بأنه شبيه مصطفى قمر مع أنه كان أكثر بدانة مني، وحتى صوته كان أكثر "خنفاناً" من مصطفى قمر، ولو أنك رأيتهم وهم يتحلقون حول عادل للاستماع إلى غنائه بمنتهى الحماس والوله، لولّيت منهم فراراً، وقد ظلت قدرته على تجميعهم حوله محيرة بالنسبة لي، فلم يكن أحد منهم من أقاربه أو بلديّاته لكي يواظب على الاستماع إليه مجاملة، ولعلي الآن أشعر بالندم لأني لم أبادر إلى سؤال عادل من أين كان يأتي بندمائه؟ وهل كانوا يصدقون فعلاً أنه يشبه عمرو دياب شكلاً وصوتاً؟ أم أنهم كانوا يأخذونه على قد عقله طمعاً في العشوات التي كان يطبخها أحياناً أو يجلبها من خارج البيت أحياناً أخرى؟

كان يحلو لعادل أن يقيم جلسات سمره الممتدة في الصالة، بدعوى أنه لا يرغب في عقدها في غرفة مؤمن التي توجد بها بلكونة، يمكن أن تنبعث منها أصوات الساهرين لكي تقلق راحة الجيران، أما الصالة اللازقة في باب غرفتي، فلن يزعج الغناء والشخر والنخر فيها أحداً غيري، ولولا أنني كنت قد تعودت من قبل على المذاكرة في قهوة الأهلي والزمالك التي كنت أهرب إليها أنا ومحمود لنذاكر عليها، لما كنت قد تمكنت من التركيز في كلمتين على بعض، خلال الفترة التعيسة التي سيطر فيها عادل على الشقة، والتي انتهت بافتراسه هو وجلساء سمره للكومبين الذي هبط عليهم من السماء.

الغريب أنني حين راهنت على تدخل الأستاذ عبد الحكيم لإيقاف تلك المهزلة، خذلني تماماً ولم أسمع له حساً، مع أنه كان يقوم أحياناً بالتخبيط على حائط الشقة الملاصق لشقته، حين يعلو صوتي أنا ومؤمن بالخناق أو بالضحك، فتوقعت أن يكون ذلك الطناش التام من آثار تدخلات أبلة عزيزة، خصوصاً بعد أن بلغتها شكوانا من تشغيل زوجها لنا في مشاويره اليومية، وهو ما تأكد لي حين التقيت به بعدها على السلم، فبادرني بالثناء على أصوات الطرب التي تنبعث من الشقة، وقال إنها تدخل على قلبه البهجة، لدرجة أنه فكر في حضور إحدى جلسات السمر، لكنه خشي أن يثقل حضوره على روادها الذين لا يعرفونه، فاكتفى بالاستمتاع عبر الحيطان.

لم يفوت الأستاذ عبد الحكيم الفرصة لكي يوجه لي رسالة مشفرة بأنه لن يتسامح مع صداقتي المفاجئة بأبلة عزيزة، حين قال لي إنه يرجو ألا يكون قد تسبب في مشكلة بيني وبين مؤمن، لأنه لم يكن يعرف أن مؤمن لم يُدع معنا إلى عزومة شبرا الخيمة، وحين التقى به سأله عن رأيه في أكل المدام، ثم استغرب استغراب مؤمن من سؤاله، ولذلك اضطر لأن يقول له إنني ذهبت إلى شقة أبلة عزيزة بصحبة محمود ورانيا، مضيفاً أنه شعر بغضب مؤمن من استبعاده من تلك العزومة، خاصة أن أبلة عزيزة كانت قد قالت لزوجها إنها ستدعونا سوياً للاحتفال بعودتنا إلى الشقة، لكن الأستاذ عبد الحكيم صاحب القلب الكبير أكد لي أنه طلب من مؤمن ألا يغضب مني لأنني بالتأكيد لا علاقة لي بالأمر، وان الخطأ ربما كان خطأ أولاده، وأنه سيرتب له زيارة قريبة إلى شبرا الخيمة ليتعرف على زوجته وطفلته، ويجرب أكل المدام الذي ربّى له كرشاً لأول مرة في حياته، ومع أنني أعلم جيداً أن الأستاذ عبد الحكيم لم ينفِ لمؤمن علاقتي بما جرى، بل حرص بكل طاقته على أن يؤكد لمؤمن أنني كنت وراء استبعاده من العزومة، إلا أنني لم أعلق على ما سمعته، واعتبرته قرينة دامغة تؤكد أن معاناتي مع عادل وأصدقائه كانت من تدبير مؤمن الغاضب، الذي جاءت حكاية العزومة كقرينة إضافية لتأكيد ما يتصوره عن استعلائي غير المبرر عليه.


في ظروف أُخرى كنت سأنشغل بفتح الموضوع مع مؤمن، ليفهم حقيقة ما جرى في موضوع العزومة، وأؤكد له من جديد أنني لا أملك ما أتعالى به عليه أو على غيره، وأن ما يشعر به ليس سوى تعبير عن عقدته من اضطراره للعمل كصنايعي شاورمة مساءً وهو المربي الفاضل صباحاً، مع أنه ليس في صنع الشاورمة ما يعيب، خصوصاً إذا كنت تحب الشاورمة، لكن ظروفي كانت قد أصبحت "أَخرا" من الانشغال بتفاصيل هامشية كهذه، ولذلك تجاهلت مؤمن ومشاعره تماماً وانشغلت بمحاولة الوصول إلى كمال باشا، لأطلب منه أن يرد الجميل الذي أسديناه له، ويتوسط لدى الحاجّة أم عادل، لتعطف على ظروفي الدراسية وتستثنيني من قرار الطرد من الشقة، خاصة بعد أن أعلنت أمامها فك الارتباط مع مؤمن، وكنت أظن أن الحاجّة أم عادل بعد أن يهدأ غضبها، ستكون قادرة على قراءة موقفي بالتخلي عن مؤمن، ليس بوصفه نذالة معيبة، بل بوصفه استبشاعاً مني لما جرى في كومبين ابنتها، وتأكيداً على حسن أخلاقي، وعندها سيجدي تدخل كمال باشا لتذكيرها بأن "صوابع إيدك مش زي بعضها" و "لا تزر وازرة وزر أخرى" وما شابه من مأثورات وحكم تحثها على اتخاذ قرار عاقل، يوفّر عليّ بهدلة البحث عن مأوى في توقيت دراسي حرج.

كان من الطبيعي أن ألجأ إلى الأستاذ عبد الحكيم، بوصفه الرجل الواصل الذي قام بحل أزمة كمال باشا وأسرته، وساعد على نقلهم إلى مستقرهم الجديد الذي وفرته لهم الحكومة، ولم يكن من الغريب أن يرحب الرجل بطلبي، ويقول لي إنه بمجرد دخوله إلى مبنى الوزارة في الصباح الباكر، سيقوم بالتوقيع في دفتر الحضور، ثم يذهب إلى زميله الذي قام بتخليص الموضوع، ليأخذ منه رقم تليفون الشقة الجديدة، لكي أتصل بكمال باشا أو بأحد من أسرته، وأقوم بإخباره بما أطلبه منه، بدلاً من أن أخبط مخصوص مشواراً إلى مساكن الزلزال في المقطم، سيكلفني الشيئ الفلاني لأن هيئة النقل العام لم تقم بعد بتخصيص أتوبيس يذهب إلى هناك، وأنه سيكون علي أن أركب إلى السيدة عائشة وآخذ منها ميكروباص إلى المقطم وشغلانة يعني، وبعد كل تلك التفاصيل الدقيقة، شكرت الأستاذ عبد الحكيم على لطفه وحسن تدبيره، لكنني حين عدت إليه في اليوم التالي في موعد عودته من العمل، لم أجده في الشقة، فتذكرت أنه يذهب في أيام العمل إلى شبرا الخيمة ليبيت هناك مع زوجته وطفلته، فطلبت من محمود محرجاً أن يتصل بأبيه ليحضر منه رقم هاتف شقة كمال باشا الجديدة، ولأن محمود كان لا يزال وقتها في مرحلة عدم التطبيع مع أبيه، فقد طلب من أبلة عزيزة أن تحضر له الرقم، وحين أحضرت له الرقم على الفور مصحوباً بأحر التحيات وأرق الأمنيات، صارحني محمود أنه كان متأكداً من أن والده لن يحضر لي الرقم إلا بعد أن ينشّف ريقي، لنعتبر ذلك التغيير بعضاً من بركات أبلة عزيزة التي حلت علينا.

للأسف لم يرد علينا أحد من أسرة كمال باشا، مع أن محاولاتنا للاتصال بالرقم تكررت في مواعيد مختلفة، حتى أنني خاطرت بالاتصال مرة قبل منتصف الليل، برغم كل ما قد ينوبني من تهزيء، لكن أحداً لم يرفع السماعة ليرد علي أو على محمود أو على رانيا، وبالطبع لم يكن أحد منا سيتخيل ولو للحظة أن أحداً لن يرد مهما اتصلنا، لأن الرقم الذي أعطاه لنا الأستاذ عبد الحكيم، كان في الحقيقة رقم شقة صديق له يقيم في المقطم، لكنه كان قد سافر للعمل في الخليج، وأن والدهم المحترم كان يراهن على مرور الوقت، حتى يأتي أول الشهر، فيتوجب علي مغادرة الشقة، وحينها لن أكون محتاجاً للجوء إلى كمال باشا ليتوسط لي في البقاء، وبالتالي سيتخلص من جيرتي التي لخبطت كيان ولديه وزادت في بعدهما عنه.

لكن الأستاذ عبد الحكيم لم يتوقع مدى حماس ابنه لبقائي في الشقة، كان محمود يدرك أن الوقت ليس في صالحي، ولذلك اقترح علي أن نذهب فوراً إلى منزل والد كمال باشا القريب منا، لنسأله عن أفضل طريقة للاتصال بابنه، ونرجوه أن يبادر إلى حث ابنه على التدخل السريع لحل أزمتي، وكان من لطف الله وكرمه، أننا حين ذهبنا إلى بيت والد كمال باشا المعروف للكافة بأذيته وعدوانيته، لم نجده في البيت، لكننا وجدنا حماة كمال باشا وزوجته المستقبلية وأختها واقفات في البلكونة، وهن تصوبن إلينا نظرات عدائية تجاهلناها، لأننا ظننا أنه ربما كان المقصود بها أحد آخر يسير خلفنا في الشارع، ولم يخطر على بالنا حتى أن نتساءل عن سر وجود النسوة الثلاث في تلك البلكونة بدلاً من تجمعهن في بلكونة شقتهن الجديدة التي ستكون بالتأكيد أرحب وأكثر طراوة لأنها ستصب من هواء المقطم الأنقى، لكننا حين دخلنا العمارة، وقبل أن نخبّط على باب الشقة، اتضح لنا أن تلك النظرات العدائية لم تكن موجهة نحوي فقط، بل كانت موجهة أيضاً نحو محمود الذي بادرته زوجة كمال باشا بعبارتها الغاضبة الغامضة: "وكمان ليك عين تيجي لحد هنا.. يا بجاحتك يا أخي".

كانت مبادرتها بإعلان العداء على محمود مفيدة في تقصير وقت الدهشة والاستغراب، والدخول في صلب الموضوع بأقل قدر من سوء التفاهم الذي ربما كان مفيداً في الأفلام الكوميدية وليس في لحظات الأزمات، ولذلك سرعان ما أدركنا أن الأستاذ عبد الحكيم لم يقم بأي فعل يساهم فيه في حل أزمة الأسرة، ولم يقم بتخليص شقة من أي نوع في أي حي من أحياء القاهرة وفي أي من مساكنها الحكومية أو الخاصة أو المختلطة، وأن كل ما فعله هو المجيئ إلى بيت والد كمال باشا، ليجلس معه في حضور ابنه، وقال لهما إنه جاء كفاعل خير ليبلغ كمال باشا أن ابنه محمود الذي صار صديقاً لي خلال الفترة الماضية، قرر أن يتدخل لإعادتنا إلى شقتنا بدلاً من البهدلة في السطوح، وأنه لجأ في البداية إلى خاله الذي يعمل في جهاز المخابرات العامة والذي يسكن معنا في نفس العمارة، لكن خاله رفض التدخل، وقال إن لديه تعليمات واضحة من الجهاز بعدم التورط في أي خلافات بين المواطنين، لكي لا يتهم باستغلال النفوذ.

أضاف الأستاذ عبد الحكيم أن ذلك للأسف لم يكن موقف خال ابنه الآخر والذي يحتل منصباً قضائياً رفيعاً في نيابة أمن الدولة العليا، والذي يتعامل مع محمود ورانيا بوصفهما قطعة من قلبه، فهما "من ريحة الغالية"، ولذلك لا يرد لهما طلباً، خصوصاً أنهما لا يطلبان منه الكثير، لأن والدهما والحمد لله لا يجعلهما يحتاجان لأحد، ولذلك رأى سيادة المستشار أن أبسط ما يمكن فعله لتلبية طلب محمود، هو التدخل لحل الموضوع بعد توصية زملائه وأصدقائه المختصين في مديرية أمن الجيزة، وحين نبهه أحد هؤلاء إلى أن الأمر قد يكون فيه حساسية بسبب عمل كمال باشا في القوات المسلحة، قال لهم إنه سيبادر للاتصال بمكتب قائد المنطقة المركزية الذي يرتبط معه بصداقة وثيقة، وسيقوم بحل الموضوع من خلاله، وحين عرف الأستاذ عبد الحكيم بتلك التفاصيل، لطش ابنه محمود قلماً لأنه فعل ذلك بدون أن يمنحه فرصة للتدخل، وطلب منه أن يتصل بخاله فوراً، ويطلب منه تأجيل تدخله أربعاً وعشرين ساعة فقط، ليحاول فيها حل الأمر، وهو ما فعله، حين جاء على ملا وجهه إلى منزل والد كمال باشا، ولم يقم حتى بالسؤال عليه في الشقة قبل أن يأتي، لكي لا يحرجه أمام زوجته المستقبلية، مؤكداً أنه لم يأتِ مهدداً ولا محذراً، بل كفاعل خير لا يرضيه أن يدخل المواطنون الحكومة بإيدها الثقيلة في خلافاتهم، وأن تقديره للجيرة هو الذي يدفعه إلى أن يصارح كمال باشا ووالده بأن خال أولاده من النوع الرزل الذي لا يتأخر في الأذيّة، ويجد فيها فرصة لاستعراض نفوذه وقوته، وأن الحاج أبو كمال له أعداء كثر ربما استغلوا تلك الفرصة لتصفية حسابات سابقة معه، لكنه برغم كل ذلك، سيترك تقدير الأمر لهما، فإن وجدا جدوى من المقاومة والترزيل على الخال الرزل، فلهما مطلق الحق في ذلك، وسيدعو لهما بالتوفيق والسداد، أما إن رأيا أن الأمر يمكن حله في هدوء، لأن "الجنازة حارة والميت كلب" والله الغني عن شقة مثل هذه تجلب وجع القلب وقلة القيمة، فهو يعدهما أنه سيتولى إخراج المسألة بشياكة، لكي لا يبدو قرار الانسحاب السريع من الشقة خضوعاً للتهديد، بل بوصفه نتيجة لحل مفاجئ، أراد الله أن ينزله في اللحظة المناسبة، تماماً كما نزلت عدالة السماء على ستاد باليرمو الدولي قبلها بعامين ونصف.

.....

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.