الإنترنت كبير لكن مصر أكبر (2/2)

الإنترنت كبير لكن مصر أكبر (2/2)

24 فبراير 2020
+ الخط -
لم أستغرب حين وجدت كثيراً من مؤيدي نظام السيسي وهم يطالبونه بالضرب بيد من حديد على حناجر مطربي المهرجانات، لكن ما أدهشني ـ تخيل، لا زلت أندهش ـ أن أجد بعض من يقولون إنهم من المناصرين للحريات، لكنهم يؤمنون في الوقت نفسه بوهم كبير اسمه قدرة الدولة على حماية الأخلاق والقيم، مع أن أي نظرة لتاريخ الرقابة والمنع تكشف لنا أن الممنوع دائماً مرغوب، وأن الدولة لم تعاد فناً أو أدباً إلا وكان انتصارها عليه هشاً وقصير العمر، ولذلك تقتضي المصلحة حين ترفض فناً أو أدباً ألا تدخل الدولة طرفاً ضده، لأن دخولها ضده أكبر ضمانة لانتشاره ونجاحه.

ولأن المساحة أضيق من ذكر عشرات الأمثلة للتدليل على ذلك، سأكتفي بالإشارة إلى نجاح الدولة المصرية مطلع الخمسينيات في منع أغنيتَي (حمودة فايت يا بنت الجيران) و(رايداك والنبي رايداك) من الإذاعة، بعد أن هوجمتا من عدد من الكتاب المحافظين بتهمة التحريض على الفساد والفجور، لكنهما تحولتا مع مرور الزمن إلى أغنيات تراثية تحمل ختم (الزمن الجميل)، وهو ما حدث من قبل ومن بعد لأغنيات مثل: "أبيع حياتي عشان بوسة ـ شفّتي بتاكلني أنا في عرضك ـ العتبة جزاز والسلم نايلو في نايلو ـ يا شبشب الهنا يا ريتني كنت أنا ـ بس قولوا لأمي طب وأنا مالي ـ لا والنبي يا عبده ـ ارخي الستارة اللي في ريحنا"، وغيرها من أغنيات أحمد عدوية وكتكوت الأمير وحمدي باتشان وشعبان عبد الرحيم وسعد الصغير وعماد بعرور وغيرهم ممن قيل فيهم ألعن مما قاله حلمي بكر في مجدي شطة.

ومع أن الهجوم على تلك الأغنيات وأولئك المغنين، شارك فيه مثقفون من العيار الثقيل "الغيور على هوية الأمة وقيمها"، إلا أن أغلب ما كتبوه في هجاء تلك الأغنيات أصبح مع مرور الزمن مثيراً للسخرية، لكن ولأنه "ما سُمّي الإنسان إلا لنسيه"، فليس عجيباً أن يحرق مثقفون آخرون من عيارات أخرى مزيداً من البنزين في هجاء المهرجانات وغيرها من أغاني هذا الزمان، مشيرين إلى ما يرد فيها من تعبيرات "خارجة ومنافية للآداب"، وهو ما يمكن تفهمه لو أنهم اكتفوا بذلك الهجوم دون استعداء للسلطات على مطربي المهرجانات، والغريب أن ذلك الهجوم يأتي ممن يتحدثون طول الوقت عن عظمة الشعب المصري وأصالته وقدرته على مقاومة الغزو الثقافي سواء كان متطرفاً وهابياً أو أجنبياً دخيلاً، لكنهم يزعمون أن كل ذلك يمكن أن ينهار بسبب كذا أغنية وكم فيلم وكتاب، ومع أن هؤلاء الغاضبين الخائفين على الأمة يؤكدون طيلة الوقت أنها مجرد طفح عابر على جلد الغناء المصري ولن يكتب لها الخلود، لكنهم لا يفسرون سبب انشغالهم بها طول الوقت وهي زائلة وعابرة، خاصة وأن من يغنيها ويسمعها ليسوا منشغلين بفكرة الخلود، قدر انشغالهم في فكرة عبور اليوم بأقل خسائر ممكنة.


لا يتسع المقام للدخول في مناقشة حول تلك التعبيرات والكلمات التي تستخدم كذريعة للمنع، وما إذا كانت تقوم بتغيير واقع من يسمعها إلى الأسوأ، أم أنها نابعة بالفعل من واقع لم يخلقه مؤلفو تلك الكلمات، لا أظنك راغباً في إعادة جدل "البيضة ولا الفرخة" الذي تكرر من أيام مسرحية مدرسة المشاغبين وانت نازل، ما أنا مشغول به أكثر هو محاولة فهم كيف يكون وجود بعض الكلمات الخارجة على الإجماع الأخلاقي المفترض مبرراً لاستهداف نوع فني بأكمله، وكيف يختلف المثقف الذي يستخدم مثل هذا الأسلوب عن المتطرف الذي يقوم باختيار بعض الكلمات التي لا تعجبه في أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم، ليستخدمها ذريعة لتحريم الفن بوصفها تحريضاً على الرذيلة والفحشاء.

"يعني انت عاجبك الكلام اللي بيقولوه في المهرجانات؟"، سيبادرك هذا السؤال كلما تحدثت عن خطورة القبول بدخول الدولة وأجهزتها طرفاً في الصراع مع أي نوع من الفنون أياً كان رأينا فيه، وبغض النظر عن كون هذا السؤال يمتّ بصلة قرابة وثيقة إلى سؤال "أترضاه لأختك؟ أترضاه لأمك؟"، الذي يعتبر أن الدفاع عن حرية كاتب أو فنان أو سياسي يعني بالضرورة تبنياً لكل آرائه ومواقفه، وهو ما يكشف أن مفهوم الحرية لدى كثير ممن يدعون إيمانهم بها في بلادنا، يعني حرية أن تقول الراي الذي يعجبهم، وتغني الأغنية التي يطربون لها، وتصنع الفيلم الذي يُمزّجهم، مع أن أبسط تصور منطقي للحرية يعني عكس ذلك تماماً، والاختبار الحقيقي لإيماننا بالحرية يكون حين نساند من لا نتفق معه في رأيه، ولا نحب فنه ولا كتابته، لكن وكما قال الشاعر: "هتروح وتقول لمين".

في الوقت نفسه لا يعني الدفاع عن حق مطربي المهرجانات في الغناء كما يريدون، أن يصبح انتقادهم أو مهاجمة أغانيهم أمراً يصب في خانة معاداة حرية الفن والإبداع، فالهجوم على أي أعمال فنية وتنظيم حملات لمقاطعتها، ولعن سنسفيل من صنعها ومن يقبل عليها، أمر مشروع ومطلوب لتطور الفنون، وكل ما أرفضه هو لعب دور الوصاية على الجمهور، وتحويل الهجوم المشروع، إلى حملات استعداء كريهة للدولة لتشجيعها على إسكات الأصوات التي ليست على المزاج، وتحريض الأجهزة الرسمية على خلع برقع الحياء في تعاملها مع الإنترنت، وهو ما يعني عودة منحطة لتشجيع جرائم القمع التي لم تنقطع منذ لحظة التفويض في يوليو 2013، والتي حولت الفنانين والكتاب المؤيدين للنظام إلى شماشرجية مذعورين، يخدمون سيداً عكر المزاج، لا أحد يعرف ما الذي يريده، ولا متى سيغضب عليهم، ولا كيف يرضونه.

مما يضحكني في هجوم بعض هؤلاء الكتاب والفنانين على مطربي المهرجانات، حديثهم الغاضب عن فكرة المواصفات القياسية للمطربين والمطربات، وضرورة ألا يكون لديهم صحيفة سوابق إجرامية، وأهمية أن يتمتعوا بخامات صوتية معينة، ويحظوا بقبول شكلي معين، وبالطبع لا مشكلة عندي في أن يحدد من شاء مواصفات مطربيه، ويسخر ممن لا يطابقون تلك المواصفات، لكن مشكلتي مع من يدعون إلى تحويل تلك المواصفات إلى كود رسمي تطبقه السلطة بالقوة، ولأنني أدرك أن أي مجهود أبذله لن ينجح في إقناع هؤلاء بتغيير رأيهم، فكل ما أستطيع فعله ـ مراعاة للعيش والملح ـ أن أنصحهم بعدم الإفراط في الحديث عن أهمية وجود مواصفات لكل من ينتسب إلى مهنة، أو ضرورة وجود اختبارات معتمدة للتأكد من الكفاءة اللازمة لممارسة المهنة، لأن هذا الكلام جارح، ويمكن إذا تم التوسع في ترديده أن يتم فهمه كتلقيح مباشر على طبيب الفلاسفة وفيلسوف المخابرات وبطل انعدام الجدوى عبد الفتاح السيسي.

بالطبع يصعب أن تتوقع إعمال المنطق في حرب عاطفية كهذه، يشبع البعض فيها حاجته إلى إثبات الوجود وإعلان قدرته على الرفض والتغيير، وهي حاجة إنسانية لا يستغني عنها حتى أشد المؤيدين للأنظمة البوليسية، ويمارس البعض فيها هوايته في محاربة كل ما يقلق راحته ويخالف كوده الأخلاقي والفني، ويجد البعض الآخر فيها فرصة للبكاء على لبنه المسكوب، والحنين إلى ماضيه الجميل، دون أن يواجه الأسباب الحقيقية التي أدت إلى حدوث ما يتصوره انحرافاً وانهياراً، لأن ذلك سيقوده إلى مواجهة نفسه بحقيقة اختياراته ومواقفه. في وسط كل هذا سيحاول السادة الضباط طبعاً استغلال ما يجري لدعم مكانة النظام وتمتين سيطرته على كل ساحات التعبير بدعوى الحفاظ على القيم والأخلاق، ولن يتورعوا عن ارتكاب المزيد من القرارات الغبية لتلجيم الإنترنت إذا لزم الأمر، لكن مستقبل الحرب على المهرجانات وغيرها من أشكال التعبير الفني الجديدة والمختلفة، سيلقى نفس مستقبل الحروب على أغاني الراب والهيب هوب والكتابة الجريئة وغيرها من معارك تشكيل الذوق والهوية والمزاج والأخلاق التي تم شنها بمنتهى الضراوة من قبل في أقوى دول العالم ولم تلق إلا الفشل الذريع، فحظاً سعيداً للجميع.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.