الغارقون في قوارب النجاة (2/2)

الغارقون في قوارب النجاة (2/2)

18 فبراير 2020
+ الخط -
في الثامنة من صباح اليوم التالي لغرق العبّارة، وبعد ساعات من الإبحار العبثي في عرض البحر، وجد حامل اللاسلكي أخيراً من يرد عليه، لتعلو أصوات ركاب القارب المطاطي بالتكبير والفرح، فطلب منهم الملاح الصمت لكي يسمع من رد عليه، وأخذ يكرر عبارات الاستغاثة من جديد، لكنه لم يتلق سوى عبارة واحدة تقول: "أسمعك وسيأتي إنقاذ"، وحين أخذ يلح على المتحدث أن يتواصل معه لتحديد المكان لم يتلق أي رد، حتى نفدت بطارية اللاسلكي، لكن تلك العبارة المقتضبة أعطت الجميع دفعة قوية من الأمل، وشجعتهم على الاستمرار في نزح المياه، لكن مفعول تلك الدفعة من الأمل لم يطل، فبعد ساعتين تعرض القارب لخرق جديد وزادت المياه التي تدخله، وبدأ سكون اليأس يعم بين الركاب، خاصة بعد أن أصبحت الساعة الثانية عشر ظهراً دون أن يأتي الإنقاذ المزعوم، ليكتشف محمد أن وجهاً جديداً ظهر في القارب، اتضح أن صاحبه شاب سعودي ظل يعوم إلى جوار القارب طول الليل متمسكاً بحبل يتدلى من القارب، ويبدو أن من كان يمانع في صعوده إلى القارب شعر أن مواصلة الرفض ليس لها جدوى، لأن القارب سيغرق بالجميع، فسمح للشاب بالركوب.

في الواحدة ظهراً، سمع الركاب صوت طائرة هيلكوبتر، فأخذ بعضهم يلوح بطريقة هستيرية وهو يصرخ للطائرة التي حلقت على مقربة منهم، وتسببت الحركة المفاجئة في زيادة المياه داخل القارب، وتوقف نشاط بعض من كانوا ينزحون المياه من القارب ترقباً لأي حبل يمتد إليهم من الطائرة، لكن الطائرة التي ظهرت فجأة اختفت فجأة، فعلّل البعض اختفاءها بأنها جاءت للاستطلاع وستعود سريعاً بالإنقاذ، لكن الساعة وصلت الثالثة والنصف عصراً دون أن يأتي أي إنقاذ، لتزداد حالة القارب مأساوية ويزداد احتمال تعرضه للغرق، ويصاب شاب من الركاب بحالة هستيرية حيث أخذ يصيح: "لا أحد يطفي مكيف الاستراحة"، وظل يردد عبارته الغامضة تلك والبعض يحاول تهدئته دون جدوى، لكن محمد شعر ببعض التفاؤل حين رأى طيراً يحلق في السماء، فتصور أنهم صاروا بالقرب من ساحل ما.

مع مرور الوقت ووصول خروق القارب إلى أربعة خروق، اقترح الملاح حامل اللاسلكي أن يخرج البعض من القارب إلى البحر، تخفيفاً لحمولته ولكي يسهل ربط الخروق التي في القارب، بدلاً من أن يغرق بالجميع، وكان من بين من خرجوا من القارب بعد تصاعد تهديدات الملاح، شاب سعودي كان محمد قد تعرف عليه حين ركب بالأمس، وكان قد تعاطف مع محمد وسانده في مواجهة أحد الركاب الذين تضايقوا منه حين أصيب بحالة إغماء، لكن الركاب الذين نزلوا من القارب لم يتحملوا الارتفاع الشديد للموج، فعادوا بسرعة إلى القارب، ظل الشاب السعودي ـ الذي لم يتذكر محمد سوى اسمه الأخير "الشهري" ـ يحاول العودة إلى القارب مقاوماً الموج، وحين تمكن من العودة إليه بعد عناء، أخذ يشير باصبعه إلى محمد كأنه يطلب مساعدته، فرجا محمد الراكب الذي يجلس قربه أن ينزح الماء بدلاً عنه، لكي يمسك بيد الشهري الذي كان في غاية الإعياء، ويحاول إخراج الماء من جوفه، في الوقت الذي كان موج البحر العاتي يواصل عصفه بالقارب، وبعد قليل أحس محمد ببرودة وثقل جسد الشهري، فظن أنه أغمى عليه، لكنه اكتشف أنه فارق الحياة، فقام بربط جثته في القارب بواسطة حبل سترته التي كان يفترض أن تكون سترة نجاة، ومع رحيل الشهري الذي وافق اقتراب غياب الشمس سيطر اليأس على القارب الذي فشلت محاولة السيطرة على خروقه، واستسلم الجميع لقدرهم دون أن ينشغلوا بمحاولة إنقاذ القارب.


قبل لحظات من اكتمال غروب الشمس، سمع محمد صوت أحد الركاب يصيح بفرح هستيري "سفينة سفينة سفينة"، ليلتفت إلى حيث كان يشير الراكب فيرى سفينة ضخمة تبحر بعيداً عنهم، لتعود الفرحة لاجتياح ركاب القارب الذين بدأوا في احتضان بعضهم واطلاق الصيحات في اتجاه السفينة التي تجاوزتهم وذهبت، وأدرك الركاب مع تدهور حالة القارب أن ذلك كان آخر أمل كاذب يعيشونه، وأن غرق القارب في جنح الظلام أصبح مسألة وقت، لكنهم فوجئوا بعد قليل بأنوار سفينتين متعاكستين في الاتجاه تضيئ ظلام البحر، وتأكد لهم أن إحدى السفينتين تتجه نحوهما، ليفاجأ الجميع وسط صيحات الفرح الهستيرية بأحد الركاب يصرخ قائلاً: "أنا اتسرقت يا جماعة"، وكأنه تصور أن من سيقوم بإنقاذ ركاب القارب سيقوم بتفتيشهم للبحث عن محفظته المسروقة، وبالطبع لم يلتفت إليه أحد، بل ظلت الأبصار والقلوب معلقة بالسفينة التي ما إن دنت من القارب حتى أطل من أعلاها رؤوس كثيرة وأيدي تلوح لركابها، وحين أصبحت إلى جوار القارب رمى من على سطحها نحوهم حبلاً لكي يتم ربط القارب بالسفينة، ولم تكن تلك مهمة سهلة مع علو الأمواج، فرمى من على السفينة حبلاً آخر إلى القارب وطلبوا من الجميع أن يمسكوا به ويتسلقوا عليه إلى سطح السفينة التي لم تكن سفينة إنقاذ، بل كانت باخرة شحن تجارية.

تدافع الركاب على الإمساك بالحبل، وأخذ بعضهم يركب فوق أكتاف بعض للإمساك بحبل النجاة، واستطاع حوالي 12 راكباً الإمساك بالحبل والصعود إلى السفينة، في حين كانت تعلو أصوات الملاحين من أعلى سفينة الإنقاذ تشجعهم وتحذرهم من التدافع العنيف، لينجح محمد في المحاولة الرابعة في الإمساك بالحبل ويقوم بلفه على يده، وتم رفعه إلى السفينة التي كانت مرتفعة عن القارب حوالي عشرين متراً، ولم يعلم بعد صعوده إلى السفينة وهو يغالب آلام يده التي تضررت من شد الحبل، هل تم إنقاذ باقي ركاب القارب أم لا؟ ولماذا لم يتم إنزال أحد قوارب النجاة الموجودة في السفينة إلى البحر ليركب فيها جميع الركاب بدلاً من أن يقوموا بالتدافع على الحبل بذلك الشكل المريع؟ لكن محمد لم ينس فور صعوده إلى سطح السفينة أن يخبر أول من قابله من الملاحين بأن هناك جثة مربوطة في القارب يجب انتشالها لتسليمها إلى أهل الغريق، وحين حاول السير على سطح السفينة وجد نفسه عاجزاً عن السير فرقد على ظهره وهو يحاول التقاط أنفاسه.

بعد أن تيقن محمد آل مشوط من نجاته وتمكن من السيطرة على انفعالاته، أخذ يسأل كل من حوله على الباخرة عن ابن عمه ورفيق رحلته سعود، متمنياً أن يكون قد تم إنقاذه على أيدي طاقم الباخرة، لكنه لم يجد من يعرف شيئاً عنه، في حين رأى ثلاثة أطفال سعوديين تم انتشالهم من قلب البحر، أكبرهم في سن الرابعة عشرة وأصغرهم في العاشرة، وعرف أنهم كانوا بصحبة والدهم الذي غرق أمام أعينهم وهم يركبون أحد القوارب المطاطية، ويرى بعدها أسرة مكونة من خمسة اشخاص رجل وزوجته وأولادهما الثلاثة ولاء 16 سنة وسيف 14 سنة وآلاء 7 سنوات، وبرغم أن أفراد الأسرة تفرقوا في البحر، إلا أن كلاً منهم تم إنقاذه في مكان مختلف، وكان آخرهم الأم التي لم يحالفها الحظ في العثور على قارب مطاطي مثل أبنائها، فظلت في عرض البحر خمسة عشرة ساعة تقريباً هي ورجل كان ممسكاً بابنه الصغير، وحين أدرك أبو الطفل أنه لن ينجو، طلب منها أن تحاول إنقاذ ابنه، فظلت تحاول رفعه فوق سطح الماء، لكنه مات بين يديها فتركته للبحر، وظلت تدعو الله أن يكتب النجاة لأولادها الذين راودها الأمل أن تراهم ثانية، وهو ما تحقق بأعجوبة.

لم ييأس محمد فور وصوله إلى ميناء الغردقة من محاولة البحث عن ابن عمه، ليسأل عنه كل من قابلهم من الضباط والمسئولين المصريين ومسئولي السفارة السعودية، ومع أنه لم يجد اسمه في قوائم الناجين، إلا أنه ظل متشبثاً بالأمل الذي لم يكن متأكداً من مصدره، حتى جاءه اتصال من أحد أقاربه يقول له إن سعود نجا بالفعل وأنه موجود في مستشفى سفاجا، مع أن مسئولي السفارة نفوا له ذلك، فدخل في مشادة معهم حتى أقنع السفير السعودي باصطحابه معه إلى سفاجا، ليجد ابن عمه هناك في أحد غرف طوارئ المستشفى، ويعرف منه أنه بعد سقوطه في البحر ظل متشبثاً مع خمسة آخرين ببرميل طافٍ على سطح الماء، وبعد قليل فوجئوا بقارب إنقاذ مطاطي لا يوجد به أحد فركبوا فيه، وانتشلوا معهم آخرين من الذين ظلوا يصارعون الأمواج، إلى أن مرت بهم سفينة بضائع في السابعة من مساء الجمعة، فأخذتهم إلى ميناء العقبة الأردني، ليفاجئوا أن طاقم السفينة التي أنقذتهم لم يكن أحدهم يعلم شيئاً عن العبّارة الغارقة، وأن الصدفة وحدها هي التي وضعتها في طريقهم، مع أنه كان ينبغي أن يتم إبلاغ جميع البواخر العابرة بالحادث لتسارع الأقرب منها إلى موقع الحادث، وتنقذ من تستطيع إنقاذه، وما زاد الأمر غرابة أن السفينة حين وصلت إلى العقبة، طلب منها مسئولو الميناء أن تعود إلى ميناء سفاجا لتسليم الناجين هناك، وهو ما جعل اكتشاف نجاتهم يظهر متأخراً، ولولا أن سعود نجح في الاتصال بأقاربه من هاتف أحد ملاحي السفينة لما كان سعود قد عرف بنجاته وأصر على الذهاب للبحث عنه في سفاجا.


في ختام شهادته الخطيرة التي يغلب على بعض مقاطعها النبرة الوعظية الإنشائية المتأثرة بهول التجربة التي عاشها، يطرح الصحفي السعودي محمد آل مشّوط أسئلة بديهية عن أسباب تأخر إرسال الإنقاذ إلى عبّارة السلام منذ اشتعل فيها الحريق، حتى أن أول سفينة إنقاذ وصلت إلى المكان بعد مرور 22 ساعة من اشتعال الحريق، وسبب رفض القبطان العودة إلى ميناء ضبا بعد اشتعال الحريق وإصراره على المضي تجاه سفاجا، وأسباب مجيئ أول إنذار بغرق السفينة من موانئ أجنبية صباح الجمعة قبل أن يسبق ذلك أي بلاغ من شركة السلام للملاحة التي تقوم بتشغيل العبّارة ولا من ميناء سفاجا الذي تشغله نفس الشركة، وأسباب غياب قواعد الأمن والسلامة والاستعداد للحرائق والتفتيش على السفينة واختفاء القبطان بعد حادثة الغرق وهروب مالك الشركة ممدوح إسماعيل خارج مصر.

لم يتمكن محمد آل مشوط من العثور على إجابات لتلك الأسئلة، مع أن تقرير تقصي الحقائق الذي صدر عن اللجنة البرلمانية التي تشكلت برئاسة النائب حمدي الطحان تضمنت إجابات قاطعة لها وحمّلت مسئولية ما جرى لكبار المسئولين في مصر الذين تأخروا في إصدار قرارات تسرع إنقاذ الركاب، لكن الصحفي السعودي ختم كتابه بنشر إحدى وثائق ويكليكس قال إنها تحمل رقم 6 كايرو 22958 بتاريخ 28 فبراير 2006 وأنها نشرت على موقع ويكليكس بتاريخ 16 يونيو 2011، وتحمل تفريغاً للقاء تم في 20 فبراير 2006 بين الرئيس حسني مبارك وهيوارد بيومان عضو الكونجرس الأمريكي والمبعوث الشخصي من الرئيس الأمريكي وقت غرق العبارة جورج دبليو بوش، بحضور السفير الأمريكي بالقاهرة فرانسيس ريتشاردوني، وأن الرئيس المصري أصر على عدم مسئولية مصر عن حادثة العبّارة برغم أن هيوارد بيرمان أخبره بامتلاك المخابرات المركزية الأمريكية ووزارة الدفاع البريطانية لتسجيلات صوتية تتضمن إشارات استغاثة صدرت من العبّارة قبل غرقها، وأن هناك أدلة على وجود تقصير رسمي أدى إلى زيادة عدد الضحايا الغارقين، وأن هناك مكالمات تم تسجيلها يتحدث فيها مالك الشركة المالكة للعبارة مع عدد من كبار المسئولين من بينهم زكريا عزمي وصفوت الشريف وجمال مبارك، لكن مبارك لم يعجبه سير الحديث فتم الانتقال إلى نقاط أخرى في النقاش تتضمن حديثا عن العلاقات المصرية الأمريكية، ومع أن محمد آل مشوط لم ينشر صورة من تقرير ويكليكس الذي أشار إليه، إلا أن الشهادات التي نشرها الكاتب الكبير عبد العظيم حماد في كتابه (الثورة التائهة) الصادر عن دار المحروسة تؤكد أن القوات المسلحة المصرية تلقت إشارات رسمية بغرق العبّارة في وقت مبكر، لكنها تراخت في إبلاغ رئاسة الجمهورية لعدم إزعاج الرئيس حسني مبارك الذي كان نائماً وقتها، وهو ما سبق أن أشرت إليه في مقال سابق نشره موقع مدى مصر.

مثلما لم يهتم أحد بتقرير تقصي الحقائق الذي تم دفنه في الأدراج منذ صدر، لم يهتم أحد بمئات التحقيقات الصحفية والتلفزيونية التي تضمنت شهادات الناجين من غرق العبّارة، ليطوي النسيان شهاداتهم، ويتمكن ممدوح إسماعيل مالك العبّارة وولده من الإفلات من العقاب بفضل علاقاتهما القوية بكبار مسئولي الدولة، والتي لم تؤمن لهما فقط الهروب خارج مصر، بل ومكنتهما من الإفلات من أي محاسبة قانونية ولو صورية، ليبقى مصير الناجين وأهالي الضحايا الذين راهنوا على أي نوع من العدالة والإنصاف شبيهاً بمصير أولئك الغارقين الذين ظنوا أن بقاءهم في القوارب الخشبية دون حركة سيكفل لهم النجاة، ومصير أولئك الذين يظنون أن حنينهم إلى أيام حسني مبارك سينجيهم من الهلاك على يد عبد الفتاح السيسي.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.