فخ الاستسلام للمرارة (3/3)

فخ الاستسلام للمرارة (3/3)

14 يناير 2020
+ الخط -
بعد الأستاذ عبد الحميد توفيق زكي وخلال السنوات التي عملت فيها في الصحافة والفن والإعلام، قابلت كثيراً من الفنانين والكتاب الذين تكررت معهم حكاية أن يتنكر تلاميذهم لأفضالهم، وبعض هؤلاء كان يفضل استخدام تعبير "اللي عملته" أو "صنيعة يدي" على وصف "تلميذي"، ومع أن تفاصيل النكران كانت مختلفة من حالة لأخرى، فقد كان يجمعها عنصر مشترك وحيد، هو أن نجاح الهاجرين لأساتذتهم أو مكتشفيهم أو شركاء بداياتهم تضاعف كثيراً بعد الهجر، واستخدام تعبير "الهجر" هنا دقيق تماماً، لأنك حين تستمع إلى تفاصيل تلك العلاقة، ستراها علاقة عاطفية خالصة، مهما شابتها شوائب المصالح والمنافع، ولذلك يشعر المهجور بمشاعر الغدر والخيانة، ولا يعطي فرصة لتحليل أسباب الهجر الموضوعية، ولذلك يستسهل المهجورون اتهام الذوق العام ـ الذي نجح في ظله هاجروهم ـ بالانحراف والفساد، وفي الغالب الأعمّ سيختار كل منهم هدفاً واضحاً لكي يصب عليه كراهيته وعدائيته، وكان ملفتاً أن يحظى ذلك الهدف بعدائهم أكثر بكثير من تلاميذهم الهاجرين لهم، لأن عاطفة الأبوة المخلوطة بحب التملك تتعامل مع التلميذ هنا بوصفه المخدوع أو المضلّل الذي لا يتحمل المسئولية بقدر ما يتحملها من قاموا بخداعه وتضليله، ولذلك يميل أغلبهم إلى تعليق ما جرى له من تعثر أو إخفاق على أسباب خارج نفسه، يقف وراء بعضها أعداؤه، أو الجمهور الذي تردى ذوقه، أو الزمان الوغد.

بالطبع، لم تكن تلك حالة مقتصرة على من قابلتهم والتقيت بهم واستمعت إلى شكواهم من الكتاب والفنانين الذين لم يحالفهم الحظ بالنجاح، فهي حالة قديمة قدم الفن والأدب والحياة، تحدث عنها الكثير من الفلاسفة خلال تأملهم في فكرة الصدفة والحظ وتأثيرهما على حياة الإنسان بشكل يرفع أقواماً ويضع آخرين، حتى أن سقراط وهو من هو في الحكمة والعقلانية، تمنى أن يكون له جني يقود خطاه دائماً نحو القرارات الصائبة والسائدة، لكي لا تزل خطاه ويضطر لاتخاذ قرارات خاطئة يدفع ثمنها غالياً، وهي أمنية توقف عندها الفيلسوف الألماني شوبنهاور في تأملاته حول "فن العيش الحكيم"، ومع تسليمه بفكرة الحظ والعبقرية وتأثيرها على الإنسان، إلا أنه بنخبويته وكراهيته للعامة الذين يفضل أن يصفهم بالغوغاء، حاول التماس العذر لكل من فشلوا في الوصول بإبداعهم وأفكارهم إلى الناس، لافتاً النظر إلى أن الأيام أنصفت الكثيرين منهم، وأثبتت أن معاصريهم كانوا على خطأ، حين لم يدركوا أهميتهم، وهو معنى لخصته بإحكام العبارة التراثية الشهيرة "المعاصرة حجاب".

ستجد تجسيداً درامياً بديعاً لهذه الحالة في فيلم "أماديوس Amadeus" للمخرج العظيم ميلوش فورمان، والذي يحكي لمحات من حياة الموسيقار الشاب المعجزة وولفجانج أماديوس موزارت، على لسان معاصره وخصمه العجوز أنتونيو سالييري، الذي ظل يحاول التغلب على مشاعر الغيرة التي تملأه تجاه إبداع موزارت ونجاحه، والتي دفعته إلى الاجتهاد الشديد في صناعة موسيقى تنافس موزارت وتحظى بإعجاب الجمهور مثله، لكنه كان يفشل في ذلك برغم كل ما كان يبذله من مجهود يصل إلى درجة "الحزق"، بينما كان موزارت الغارق في اللهو والعبث والملذات، ينجح في الوصول إلى الناس بأقل مجهود ممكن، وهو ما جعل سالييري عاجزاً عن التصالح مع محدودية موهبته، فبدأ في محاربة موزارت والعمل على التخلص منه، وكأنه يحارب في شخصه العناية الإلهية التي اختصت موزارت بالموهبة دوناً عنه.


لا أدري إذا كان الأستاذ عبد الحميد قد شاهد ذلك الفيلم قبل أن ألتقي به، برغم أنه عُرِض على ما أتذكر في إحدى حلقات برنامج (نادي السينما) الذي كانت مصر كلها تشاهده تقريباً، لكنني متأكد أنه حتى لو شاهده، لن يجد نفسه في شخص سالييري، ولن يذكره الفيلم بمشاعره الغاضبة تجاه غريمه محمد عبد الوهاب الذي يعتقد أنه لم ينجح بسبب أصالة إبداعه الموسيقي، بل بسبب ذكائه الاجتماعي وشطارته في التسويق وعلاقاته بالساسة والصحفيين، وربما لو كنت وقت لقائي بالأستاذ عبد الحميد، قد شاهدت ذلك الفيلم، لتشجعت ربما على فتح حوار أطول معه عن تصوره لفكرة "الموهبة"، التي يتم استخدامها كثيراً كحل لتفسير ما يحظى به البعض من نجاح خارق لا يتكرر لأمثالهم من الذين يبذلون مجهوداً أكبر، ويمتلكون تصورات للفن والإبداع تبدو أكثر رصانة وفخامة.

بعد ست سنوات من لقائي الوحيد بالأستاذ عبد الحميد توفيق زكي، قمت بالاشتراك في إعداد حلقة خاصة من برنامج (سهراية) على قناة راديو وتلفزيون العرب ART عن عبد الحليم حافظ، وقام الصديقان هشام يحيى والسيد الربوة بزيارته في بيته الذي لم يغادره طيلة حياته، وسجلا معه حواراً تلفزيونياً، تحدث فيه بغضب أقل عن تلميذه القديم عبد الحليم، لكنه كان لا يزال يحتفظ بعتبه عليه لأنه لم يكن وفياً لمن وقفوا إلى جواره في البداية بقدر المأمول منه، وأذكر أنه كرر يومها الحديث عن رسالة أرسلها إليه عبد الحليم حافظ، كان قد منح صوراً منها من قبل للعديد من الصحفيين، وتحدث عنها في برنامج قام بعمله سمير صبري عن عبد الحليم، وكان فخوراً بأن عبد الحليم أشاد في تلك الرسالة بموسيقاه، وقال له في نهاية الرسالة بالنص: "سيأتي اليوم الذي يرتفع فيه الشعب إلى مستوى هذه الموسيقى"، وكان قبلها قد تحدث عن رسالة أخرى طلب فيها عبد الحليم منه أن يقوم بمساعدته على توظيف زميل له في ملجأ الأيتام الذي درس فيه عبد الحليم في الزقازيق، وكان قد درس مع عبد الحليم العزف على آلة موسيقية إلى جوار دراسة تصليح الدراجات الهوائية، وهي معلومة حرص الأستاذ عبد الحميد على التشديد عليها خلال حواره مع سمير صبري.

حين رأيت الأستاذ عبد الحميد وهو يتحدث بكل فخر عن رسالة عبد الحليم المشيدة بمستوى موسيقاه التي لم يرتفع إليها الشعب بعد، تذكرته وهو يحكي عن ذلك بحماس شديد، حين التقيته في صالة بيته المليئة من أدناها إلى أعلاها بالكتب والمجلات والصحف التي كانت تشكل جزءاً من أرشيف ضخم جمعه الرجل خلال تأريخه للموسيقى العربية، ولا أدري أين ذهب الآن، وأذكر أنني خطر على بالي وقتها أن عبد الحليم الذي يُجمع من عرفوه على أنه لم يكن يخلو من اللؤم الذي لا غنى عنه في الوسط الفني المليء بالوحوش الضارية، ربما كان يسخر من أستاذه بشكل لم يدركه الرجل الطيب، لكنني وجدت أن إثارة ذلك الخاطر ولو في شكل تساؤل ستطيح أي أمل في الحصول على صورته مع عبد الحليم، وحين أفكر في ذلك الآن، أجد أنني ربما تماديت بفعل حماسة الشباب في تحليل ذلك السطر المجامل، وأن عبد الحليم وهو الدارس للفن، ربما كان يقدر تلك الموسيقى التعبيرية التي أبدعها عبد الحميد، لكنه يراها أمراً لن يحبه المستمع العربي الذي تربت ذائقته على التطريب، بدليل أنه لم يغن أغنية أو اثنتين لعبد الحميد، بل غنى له أكثر من عشرين أغنية، كان بالتأكيد وهو يغني كل أغنية منها، يتمنى أن تنجح في وضعه على خارطة الغناء، التي كانت تشغي وقتها بأصوات جبارة في قدرتها على التطريب والإمتاع، لكنه حين فشل في ذلك مرة تلو مرة، قرر ألا يلوم نفسه وأستاذه، بل اعتبر أن الوقت لم يحن بعد لكي تنجح مثل تلك الموسيقى، متمنياً أن تنجح في المستقبل، فتنجح معها أغانيه التي أصبحت منسية في دواليب الإذاعة.

في أحيان أخرى، كنت أقول لنفسي إنني وقعت فيما أحذر منه كثيرين غيري من الاستغراق في تقديم تفسيرات عميقة لتصرفات بسيطة أو عشوائية أحياناً، وأن عبد الحليم ربما كان يقول كلاماً مجاملاً لأستاذه، لأنه يشعر بالذنب تجاهه، وربما لم يكن يشعر بالذنب أصلاً، بل كان يقول "أي كلام يا عبد السلام"، لأن عبد الحليم مهما أحب أستاذه، لن يحبه أكثر من نفسه الموعودة بالعذاب، والتي لم تجد راحتها إلا في إمتاع الناس بالغناء واستمتاع صاحبتها بمحبتهم له وإيمانهم به، وأنه كان يمكن أن يقول في نفس تلك الرسالة لأستاذه، إن عليه أن يتذكر أن الزمن وغد والحياة بنت كلب قاسية "ما تديش اللي عايز"، لكنه ربما فكر أن قول ذلك لن يكون مجدياً لأن أستاذه كان لا بد أن يكتشف ذلك بنفسه يوماً ما.


انتقل الأستاذ عبد الحميد توفيق زكي إلى جوار الله في نهاية عام 1998، بعد أشهر من تسجيلنا معه في ذلك البرنامج، لست متأكداً ما إذا كان فريق الإنتاج قد بعث إليه بنسخة من البرنامج لكي يشاهدها ويحتفظ بها، كما كان يحتفظ بكل حواراته الصحفية والإذاعية والتلفزيونية، جنباً إلى جنب مع ألحانه التي كان يشكو بحزن شديد من عدم إذاعتها في الإذاعة بالقدر اللائق، لست متأكداً أيضاً هل تم حل تلك المشكلة في السنوات الأخيرة، بعد أن ظهرت إذاعة الأغاني ومثيلاتها من الإذاعات المتخصصة في الأغاني والتي تفرد مساحة للأغاني "القديمة" والمجهولة، أم أن مساحات الإذاعة يتم حجزها بالكامل للأغاني التي يحب الناس سماعها بالفعل، دون أن يجربوا الاستماع إلى أغنيات مجهولة لم يسمعوها من قبل، فلربما حين تجد تلك الأغاني فرصتها في الإذاعة الآن، نعرف هل كان الأستاذ عبد الحميد محقاً في يقينه بأن ما قاله عبد الحليم لم يكن مجرد مجاملة، بل كان نبوءة ستتحقق يوماً ما، وهو ما قاله بالنص لي في أوائل التسعينات وكرره في حواره مع سمير صبري في منتصف التسعينات، وأن الشعب سيدرك يوماً ما خطأه في تفضيل موسيقى عبد الوهاب على موسيقى عبد الحميد، وهو ما لم يحدث حتى الآن، تماماً مثلما لم تتخل القاهرة عن موقَف سيارات أحمد حلمي، ولا عن صخبه وتلوثه الذي كان الأستاذ عبد الحميد يحتمي منهما بإحكام إغلاق شبابيك شقته، متحسراً على حرمانه من شم الهواء النظيف، ومن إنعام النظر في الميدان الذي كان يوماً ما يسر الناظرين.

يومها، خرجت من حواري مع الأستاذ عبد الحميد وأنا مشحون بمشاعر مختلطة من الحيرة والشفقة، والأسف أيضاً لأنني لم أحصل على الصورة التي جمعت الأستاذ عبد الحميد مع تلميذه عبد الحليم، ربما لأنه شعر بالغضب من أسئلتي المزعجة فقرر أنني لست أهلاً للحصول على الصورة، ولذلك قررت تخفيف حدة تلك المشاعر بالتوجه إلى كشري "على كيفك" المواجه لمحطة باب الحديد، والذي كان من محلات الكشري القليلة في القاهرة التي تقدم طبق الكشري بالكبدة المشهور في الإسكندرية، وبعد أن أسكتّ أصوات معدتي، تفرغت لمناقشة أصوات عقلي التي أخذت تسألني عن صحة ما أفعله حين أضيع وقتي في مشاريع الكتابة من الباطن، بدلاً من أن أتفرغ لتعلم ما أحبه، لعلي أحقق يوماً ما أحلم به.

وبعد أن تنقلت في تلك الليلة الطويلة بين أكثر من مقهى، وصلت في نهايتها إلى قرار الاعتذار لصديقي العزيز عن الاستمرار في "مصلحته" المزعجة والمضيعة للوقت، مقرراً أن أخوض مغامرة البحث عن فرصة للتدريب الصحفي في أماكن أحبها، حتى لو لم أحصل منها على أي مقابل مادي، وهو قرار أدين به لتلك الجلسة مع الأستاذ عبد الحميد، التي أتذكر وقائعها كلما وجدت نفسي مسكوناً بمشاعر الغضب والمرارة من خذلان ما، فآخذ في تذكير نفسي بما عزمت عليه في تلك الليلة، وهو أن أعمل جاهداً على ألا يأتي اليوم الذي أجد فيه بعض عزائي في الحياة، في الاستسلام لمرارة الشكوى من غدر الزمان، لكل صحفي عابث يمر بشقتي باحثاً عن مادة لحوار مثير، أو حكاية يزعم أنها ذات مغزى.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.