الباز أفندي!

الباز أفندي!

04 اغسطس 2019
+ الخط -
بذمتكم هل عرف أحدكم يوماً نموذجاً بشرياً أكثر وضاعة من الباز أفندي، كلما جاءت سيرته جلبت معها الاشمئزاز والسخط، وأينما حلّ اسمه حلّ مصحوباً باللعنات على الزمن الرديء الذي نامت فيه القوالب، بل وأنصاص القوالب أيضا لتقوم الأعشار والأسداس والأثمان وما دون ذلك؟

عن الباز أفندي أحدثكم .. وأقرفكم. 

للباز أفندي روح حاقدة لا تحتاج إلى كثير من الجهد لإدراك سرها الباتع، ونفس مريضة تجعله لا يرى في أعين الناس إلا القذى ولا يبحث إلا عن ما يتصوره نقاط ضعفهم ومواطن زلاتهم، متخذاً من الهجوم عليهم وسيلة للشهرة التي لن تأتيه حتى لو قطع رأسه، إذ لن يُنشر خبر العثور على جثته مقطوعة الرأس، لعدم الاستدلال على شخصية صاحبها. 

لدى الباز أفندي طموح في أن يكون واحداً من علية القوم لكي ينسى ماضيه الذي "مش ولابد"، ولذلك فهو يحرص قبل أن يتخذ موقفاً ما، على دراسة الخريطة المحيطة به جيدا ليدرك الاتجاه العام الذي يحبه المأمور، فإذا كان المأمور يحب تشويه المتدينين حقق للمأمور رغبته، وإذا كان المأمور يحب أن يسمع قصائد الشتيمة في المأمورين السابقين عليه لم يحرمه من ذلك، المهم أن يكون المأمور مبسوطاً، والمهم ألا يكتشف أحد أنه يسعى لمغازلة المأمور، فقد علّمه التتلمذ على أيدي الضباع أن خير ما يكفل لك البقاء هو ألا تمتلك موقفاً واضحاً من كل شيء، وأن يظنك الناس معارضاً، فتعارض أشخاصاً في السلطة، لن تدفع ثمناً حقيقياً لو عارضتهم، وتؤيد بحيث لايمسك أحد عليك أنك مؤيد، حيث تهاجم أعداء المأمور بما يتعفف المأمور نفسه عن قوله، وبذلك تمسك العصا من المنتصف وتضمن لنفسك مكاناً ثابتاً على الخريطة، لا تكسب فيه مكاسب ضخمة قد تزول، ولكنك لن تخسر، ثم ستتاح لك فرصة تكويم المكاسب شيئا فشيئا مع الاحتفاظ بغلاف عبوة المناضل التي تخطف أبصار السذج والبلهاء. 

الباز أفندي كاره عظيم، ولذلك فهو يحب أن يحتك دائما بالأقوياء، ويسعى للخصومة معهم ظنا منه أنه بمعاداتهم ومحاربتهم يمكن أن يكون هو الآخر قوياً، دون أن يتوقف للحظة ويتأمل نفسه فيسألها أي المواهب لديك، ولو فعل ذلك حقا لأدرك أنه عارٍ من أي موهبة، اللهم إلا موهبة الخوض في الأعراض وقذف الأحجار على كبار المارة والجري عارياً وراء عربات الرش والتفتيش في الخرائب عن سبب من أسباب الفتنة التي هي أشد من القتل.

لا تحسبوا أن الباز أفندي يكره الأقوياء فقط، فهو يكره الضعفاء أيضاً، لأنهم يذكرونه بضعفه وخوائه وأحلامه المحبطة في أن يكون شيئا ذا أهمية، يمكنكم أن تقولوا أن الكراهية هي موهبة الباز أفندي التي يجد نفسه فيها، لدرجة أنه كما أتصوره عندما لا يجد من يكرهه يقف أمام المرآة عاريا لينظر الى نفسه ويكرهها، وربما كانت هذه المرة الوحيدة التي يكون فيها محقا في كراهية أحد. حتى عندما رأيناه عاشقاً ولهاناً لفتاة جميلة، لم يحصل عليها لأنها فضلت عليه رجلاً حقيقياً، رأيناه كيف انقلب عليها فجأة وأسفر عن كراهيته الدفينة لها، ليثبت لنا أننا أخطأنا عندما ظننا أنه يحب فهو لم يحب الفتاة بل أحب امتلاكها، فأمثال الباز أفندي لايحبون أحداً، لا يحبون شيئاً، ليس فقط لأنهم لا يستطيعون الحب، بل لأن مجرد تعرضهم له يصيبهم بتسلخات مؤلمة ولذلك فهم لا يحبون ولا يحبون الذين يحبون.

تعود الباز أفندي على أن يكون صوتاً لسيده، أياً كان هذا السيد، ولذلك فهو يعتقد أن كل الناس هم بالضرورة أصوات لسادة ما، وهولايتخيل أن هناك أحداً في العالم يعبر عن رأيه الخاص، أو يقول ما يعتقده صواباً، دون أن تكون له فيه مصلحة أو منفعة، والحقيقة أنك يمكن أن تعذره في ذلك، فالذي يتعود على الرمرمة لايمكن أن يستطعم الأكل البيتي، والذي يعتاد على أكل الجيف من البديهي أن يخاصم طعم اللحم الحلال المذبوح. 

ليس في الباز أفندي من اسمه شيء. الباز في اللغة العربية اسم من أسماء الصقر، وهو طائر جارح له ما له من مكانة رفيعة يحظى بها في الوجدان العربي كرمز للرفعة والعلو والسمو، وكلها معان لا يمكن أن يشتبه في وجود أحد منها لدى الباز أفندي، الذي هو أقرب للوطو منه للعلو، هو أقرب لأخلاق الحشرات الزاحفة منه إلى أخلاق الطيور الجارحة، هل تحسبونني متجنياً عليه؟ هل فيكم من يظن أنني أشتمه؟ هل فيكم من توقف عن القراءة الآن ليسائلني في نفسه كيف أكتب بمثل هذا التحامل على شخص لا ذنب له أنهم سموه الباز بينما هو إلى الغراب أقرب؟

أرجوكم لا تظلموني وتذكروا جيداً كل المعارك التي خاضها، هل رأيتم معركة واحدة شريفة فيها، أما رأيتموه وهو يخوض في الأعراض ويسعى إلى خراب البيوت العمرانة ويفتش في الضمائر ويقوم بالوقيعة بين الناس ويدبج التقارير الأمنية للبيه المأمور ويمارس كل مالا علاقة له بالشرف طيلة اليوم، ثم  يصرخ في نهاية اليوم: "أحلى من الشرف مافيش". 

إذا كنتم لا تتفقون معي في توصيفي لشخصية الباز أفندي، ماعليكم إلا أن ترجعوا إلى الفيلم الرائع (ابن حميدو) وتشاهدوه وتطابقوا بين كل كلمة قلتها، وبين شخصية (الباز أفندي)، ذلك الشرير الوضيع الذي جَمَع في نفس واحدة بين كراهية أحمد رمزي وإسماعيل ياسين وهند رستم وعبد الفتاح القصري بل وزينات صدقي أيضاً، وعندما تعيدون قراءة مقالي في ضوء مشاهدتكم للفيلم ستترحمون أولاً على روح العظيم توفيق الدقن الذي جسد بشكل رفيع تلك الشخصية الوضيعة، فجعلنا بقدر ما نزدريها بقدر ما نسخر منها، ثم ستترحمون ثانياً وثالثاً وعاشراً على روح الكاتب العظيم عباس كامل الذي رسم هذه الشخصية الوضيعة باقتدار لا مثيل له دون أن يعلم أن الباز أفندي سيتجاوز كونه شخصية في فيلم، ليصبح ماركة مسجلة لكل الشخصيات التي يكره الناس خسّتها وتدنّيها.

قاتل الله الباز أفندي.  

...

ـ نشرت هذه السطور في يونيو عام 2004 في صحيفة "العربي" القاهرية ولا تزال وأظنها ستظل صالحة للنشر ـ 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.