عزت بتاع الألعاب

عزت بتاع الألعاب

18 يوليو 2019
+ الخط -

الخطوة نصيب، بدليل أنني على مدى خمسة عشر سنة ظللت أمر بمحله فلا أدخله، وها أنا أدخله اليوم دون ميعاد.

لماذا قررت أن أدخل محله اليوم فقط؟ وأنا الذي كنت أجلس طيلة سنوات البطالة على القهوة المواجهة لمحله، محدقاً لساعات في فاترينته غريبة الأطوار، دون أن أفكر ولو لمرة في دخول محله ولو من باب قتل الفراغ؟ ربما لأن العيد كان قد كبس عليّ دون أن أشتري لعبة لابنتي، وربما لأنني «كسّلت» أن أذهب للبحث عن محل آخر في وقت متأخر كهذا من ليلة العيد.

عندما عبرت الشارع متجهاً إليه فاجأني خلوّ "فاترينته" من محتوياتها المتناقضة التي جعلت هوية المحل مشوشة لنا طيلة الوقت، تذكرت كيف ظللت أتعامل معه لسنوات على أنه محل خردوات لا يستحق الالتفات إليه، حتى قام ذات يوم بتعليق ذلك الإعلان العجيب الذي لفت انتباهنا إليه:

« إعلان هام. يوجد قطار يمشي أمام وخلف وستوب ويعطي صوت القطار ويمشي على السجاد والموكيت والأرض بدون قضبان ويعمل بستة حجارة طورش ويحمل طفلًا وزنه 25 كيلوجرامًا من سن سنة إلى سبع سنوات».

وقفت أنظر بحنين إلى الإعلان الذي لا زال برغم مرور السنين صامدا في الفاترينة الخاوية، وأنا أتذكر الأوقات التي قضيتها أنا وأصدقائي العاطلين عن العمل والأمل على كراسي القهوة المجاورة للفاترينة ونحن نقوم بتسميع الإعلان وتحليل مضمونه جادين ذات مرة وهازلين مرات ومرات.

«اتفضل يا باشا» أخرَجَني من أفكاري صوته الخارج من بين الماسكات التي يفترض هو أنها مرعبة، والتي علقها على باب المحل فحجبته تماما فيما يتصور أنه وسيلة مبتكرة للدعاية، لكن إزاحتي لها لأدخل إلى عمق المحل كشف لي أنها وسيلة لتغطية قبح المحل الذي تحول إلى كهف مزدحم بالكراكيب التي بدا وهو يقف خلفها كهارب من الأيام والضرائب.

روح المكان المقبضة دفعتني لأن لا أطيل زمن الاختيار وأن أشير مباشرة إلى بطة صينية صفراء تبيض إذا وضعت فيها ثلاثة حجارة قلم، «هاخد دي ياريس»، بدأ في تركيب الحجارة قائلا بابتسامة دحلابة: «على راحتك بس إيه رأيك تاخد القطر ده»، مشيرا إلى مجموعة من كراتين القطار الذي كان محفوظا في ذاكرتي بشكل أفضل من حفظه له في محله، عاجلت بقمعه: «عندي واحد زيه»، نظر إليَّ بدهشة: «معقولة؟ جبته منين؟ أنا مش فاكر إنك دخلت عندي قبل كده»، قلت ساخرا: «هو إنت بتفتكر كل زباينك؟»، فرد بثقة: «واحد واحد»، قلت له لكي أنهي النقاش في الموضوع: «فعلا أنا أول مرة آجي لك بس هو جالي هدية من كام سنة»، فرد وكأنه يتحدث عن قطار بخاري نادر: « آه إذا كان كده معلهش.. أصل النوع ده استحالة تلاقيه عند حد غيري».

من خلف الأقنعة أطل وجها اثنين من عساكر الأمن المركزي دخلا بموبايل انقطع شحنه ليسألاه عن «شاحن سلف»، قال لهما بود شديد: «روحوا لبتاع الموبايلات اللي جنبي ولو مالقيتوش عنده ارجعوا وهاتصرف لكو»، ثم عاد لتركيب حجارة البطة، لمحني أنظر إلى العارضة المعدنية المعلقة في فضاء المحل والمحمَّلة بأكياس محا الغبار ملامحها، فقال محرجا: «معلهش علقتها كده عشان كنت باغير البلاط، كسلت أوديها المخزن قلت أعلقها كده عشان الصنايعية ما يسرقوهاش.. بعد ما خلصوا كسلت أرجعها الفاترينة.. أصل عندي بنت في ثانوية عامة وواد دخل الجيش.. الموضوع ده رابكني خالص».

دخل رجل مكفهر السحنة ليطلب فَكّة خمسين، فأحاله بجدية إلى بتاع المقلة المجاورة مردفا: «لو ما لقيتش ارجع لي هاتصرف لك»، والرجل رمقه بنظرة استغراب وخرج، بعدها عاد الجنديان ليُطمئناه أنهما استلفا الشاحن ثم سألاه عن سعر قناع مرعب، وعندما قال لهما إنه «بتلاتين جنيه» صُدما بشدة، فقال لهما بهدوء: «طيب اتصرفوا في عشرين جنيه وتعالوا»، ثم مال عليّ وقال شارحا: «أصلهم ما بيشوفوش الحاجات دي في بلادهم وعشان كده بينبهروا بيها».

بدا أن هناك كسراً في أسفل البطة يجعلها تتحرك دون أن تبيض كما يُفترض لها ومنها، طمأنني مداعبا: «ما تخافش هاصلحها لك.. لعلمك البطة دي لذيذة وهتملا لك البيت بيض.. أنا ما باجيبش لعبة إلا لما أنبسط بيها الأول وإلا ما أجيبهاش»، أخذ مِفَكّاً وبدأ يحاول إصلاحها، وهو يحكي عن بنته الحنينة وولده المقرف، وشقته التي قفلها وأخذ شقة أكبر، وكلما دخل أحد ليسأله عن شيء خرج بدون ذلك الشيء ولكن مع وعد يبدو جادا بأن يتصرف له إذا عاد، بعد «ييجي نص ساعة» بدا أنه فشل في التصرف مع البطة، فقال بتسليم: «معلهش لو نسيت حكاية البيض هاعمل لك خصم بس خدها والنبي»، كانت لهجته الودودة عصية على المقاومة، لكنني وجدت الفرصة مواتية لأسأل: «هو ليه كل ما حد ييجي لك تقول له هاتصرف لك، ليه ما تقولوش ما عنديش؟!»، صمت قليلا ثم قال وهو يضحك بمرارة: «معلهش يا بني.. دي عادة ومش عارف أبطلها، متهيأ لي لما عزرائيل هييجي عشان ياخد أجلي، هاقول له روح لبتاع المقلة، ولو ما لقيتوش ارجع لي وهاتصرف لك». ورحنا في ضحك عميق، لم يمنعني من النظر إلى الفاترينة الخالية بشجن لو تركت له العنان لسالت دموعي وأغرقت البطة التي لا تبيض.

...

ـ من حكايات مجموعتي القصصية (الشيخ العيِّل) التي يعاد طبعها قريباً بإذن الله ـ

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.