في مديح الوطن التعيس واللمة الحلوة (1/2)

في مديح الوطن التعيس واللمة الحلوة (1/2)

16 يوليو 2019
+ الخط -

ربما، لم يكن ينقص هذا الفيلم إلا أن تضاف إلى نهايته أغنية مثل "أهلك لا تهلك ده انت بالناس تكون"، لأشعر أنه فيلم يتحدث عن مصر وأحوالها، وليس عن كشمير وأهلها. 

اسم الفيلم (وادي الأولياء)، وهو ينتسب على الورق إلى الهند بلد إنتاجه، لكنه ينتسب أكثر إلى منطقة كشمير التي يتحدث الفيلم بلغتها، وتدور أحداثه حول بحيرة (دال) التي تطل عليها مدينة سرنجار أشهر مدن الجزء الهندي من منطقة كشمير وجامو، إحدى مناطق الصراع السياسي في العالم والتي لا تكف عن الانفجار، وهو ما جعلها تجمع بين جمال الطبيعة وقبح الحروب، خصوصاً بعد انفصال باكستان عن الهند وتقسيم المنطقة إلى جزئين أحدهما تابع للهند والآخر لباكستان، لتتحول المنطقة بأكملها إلى ورقة تستخدم في الصراع السياسي بين باكستان والهند، وتندلع بسببها حروب عديدة بعد ارتفاع الدعوات المطالبة باستقلال كشمير عن البلدين معا، وتستحق المنطقة لقب (الفردوس الدامي) الذي أطلقه عليها العارفون بجمالها الخلاب في عدة مناطق من بينها منطقة بحيرة دال التي تدور فيها أحداث الفيلم الذي لا يستخدم البحيرة فقط، كموقع تصوير يمنح الفيلم بعداً جمالياً مدهشاً، فهي تلعب دور بطولة لا يقل أهمية عن الأدوار التي تلعبها شخصياته الرئيسية الثلاثة: الشاب العشريني جولزار الذي يعمل على قارب سياحي صغير، وصديق عمره أفزال، وآصيفا الباحثة الأمريكية من أصل كشميري، والتي تدرس في الولايات المتحدة، وقدمت لزيارة المنطقة من أجل انجاز رسالة علمية عن التلوث في مياه البحيرة.

مع بداية الفيلم نرى تفاصيل حياة جولزار الذي يعيش في منزل صغير متهالك على البحيرة مع عمه العجوز الذي يعاني من متاعب الشيخوخة، والذي يقوم جولزار برعايته بدءاً من إعداد طعام الإفطار له وحتى تدليك قدميه المتعبتين، باهتمام فاتر لكنه لا يخلو تماماً من الود، يقوم العم بتذكير جولزار بضرورة إصلاح السقف الذي تنهمر منه مياه الأمطار، فيعده جولزار بذلك. نلاحظ أن جولزار يخفي شيئا بداخله، وأنه يبدو عليه التوتر حين يقوم بتوديع العم الذي سيذهب إلى مدينة قريبة في رحلة عائلية قصيرة، وبعد مغادرته للمنزل، نرى جولزار يقوم على الفور بتحضير حقيبة سفر صغيرة، ثم يترك في موقع بارز من البيت، مبلغاً مالياً في ظرف عليه اسم العم، ثم يغادر البيت، وبعد قليل نراه يلتقي بصديق عمره أفزال، فنعرف أن الاثنين سيبدآن اليوم بالذات تحقيق حلم قديم بمغادرة المنطقة والسفر إلى مدينة بومباي الهندية الشهيرة، بحثاً عن فرص رزق أفضل وأوسع، بعد أن شحّت فرص الرزق في المنطقة، منذ انخفضت أعداد السائحين القادمين إليها، عقب تكرر اندلاع الاشتباكات بين المطالبين باستقلال كشمير عن الهند، وبين قوات الجيش الهندي.  

على حظهما الأغبر، تندلع مواجهات دامية بين المتظاهرين والجيش بعد وصولهما إلى المدينة، ويتم إعلان حظر التجول في المنطقة، وتتوقف حركة السيارت الخارجة من المنطقة والداخلة إليها، فيجد جولزار وأفزال نفسيهما مجبرين على البقاء في المنطقة، حتى يتم رفع حظر التجول، ونرى كيف يستغل الاثنان وقتهما في اللهو واللعب الطفولي في "زواريق" المنطقة التي يعرفانها جيداً، خصوصا أن حظر التجول لا يمتد إلى داخل البحيرة، بل يسري على البر فقط، ويبدو تجوال الاثنين في أنحاء البحيرة وأطرافها، بمثابة وداع منهما لها، فضلاً عن كونه يرينا متانة الصداقة بين الاثنين، ويلقي ظلالاً على طريقة تعاملهما مع الحياة بطفولية شديدة يبدو أحياناً أنها لا تليق بعمريهما.  

 

في نفس الوقت، يتصل بجولزار صاحب مركب عائم من المراكب، التي تم تحويلها إلى فنادق عائمة صغيرة ترسو على ضفاف البحيرة، ويخبر الرجل جولزار الذي كان يعمل معه، بأنه أصبح عالقاً خارج المدينة، وفشلت محاولاته في الدخول إليها، وأن هناك زبونة تقيم في الفندق بالفعل، وكل ما على جولزار فعله أن يذهب إليها ليحضر لها الطعام الذي تحتاج إليه، على أن يقوم بمنحه مكافأة مالية بعد رفع حظر التجول، فيوافق جولزار ويذهب بقاربه مع صديقه إلى الفندق العائم، وهناك يتعرف على آصيفا التي تبدو له شخصية غريبة الأطوار، بدءاً من كونها نباتية لا تأكل اللحوم، وصولاً إلى طريقتها في الحديث معه بشكل يجمع بين التحفظ والغموض، وانتهاءً بإصرارها على عدم مغادرة المكان، برغم إصرار أهلها الذين يتصلون بها بعد سماعهم أخبار ما يجري في المنطقة، ويطلبون منها الذهاب إلى السلطات لمساعدتها على مغادرة المكان.  

في الصباح يرى جولزار كيف تحاول آصيفا التحرك بقارب داخل البحيرة، فتفشل في ذلك، فيعرض عليها الذهاب بقاربه، ويعرفها على صديقه أفزال، ويأخذها الإثنان في جولة داخل البحيرة، ويحاول أفزال الذي يبدو معتداً بذاته مغازلتها، فتصده بجفاء وقد بدا عليها أنها غير مرتاحة له منذ رأته، في حين يبدو جولزار بالنسبة لها شديد التهذيب واللطف، فترتاح له أكثر، وتتعامل معه بمودة، وهو ما يلحظه أفزال لكنه لا يتوقف عنده طويلاً، ويتطور الأمر حين يتسبب أفزال بفعل فذلكته ثقيلة الظل في إسقاط جهاز تستخدمه آصيفا في بحثها، لينزل الجهاز إلى قاع البحيرة، ويقفز جولزار للعوم محاولاً البحث عنه، لكنه يفشل في العثور عليه، فيزداد التوتر بين آصيفا وأفزال، في نفس الوقت الذي يظهر أن آصيفا أكبرت حرص جولزار على النزول للبحث عن الجهاز، واعتبرت ذلك لطفاً بالغاً منه.  

تندلع شرارة من الاهتمام الخاص بآصيفا لدى جولزار بعد تغير معاملتها له، ثم يتطور ذلك الإهتمام إلى إعجاب متنامٍ مع تطور علاقته بها، خصوصا حين تطلب منه أن يصطحبها للسير بانتظام بقاربه في البحيرة، حيث تقوم بالمرور على المواسير الخارجة من منازل الأهالي المقامة في البحيرة وعلى أطرافها، وتأخذ في فحص المياه الخارجة من تلك المواسير إلى البحيرة، وأخذ عينات منها في زجاجات، لقياس نسبة تلوثها ومدى تأثيرها على بيئة البحيرة. 

يبدو اهتمام آصيفا بأحوال البحيرة أمراً غريباً بالنسبة لجولزار، وفي حوار دال بين الإثنين يكشف عن طريقة تفكير كل منهما، تعلق آصيفا بأسى شديد على ما تراه من تلوث يعم البحيرة، فيقول لها بهدوء شديد: "وما الذي سيحدث للبحيرة، إنها لن تذهب إلى أي مكان؟"، فتجيبه بذهول: "البحيرة هكذا ستموت"، ليرد بهدوء تعده بروداً: "كل شيئ لا بد أن يموت"، وحين تستنكر قيام الأهالي ببناء بيوت على البحيرة لتشويه منظرها، يرد عليها بمنطق مختلف صادم لها، وهو أن الأهالي لا يملكون خياراً آخر سوى فعل ذلك لكي يستطيعوا الحياة، وأن حياتهم أهم بكثير من حياة البحيرة نفسها، فلا تعرف كيف ترد عليه.   

 

نرى أفزال وهو يخطط للقيام بالذهاب إلى المدينة في الليل خلال حظر التجول، لتهريب بعض البضائع وبيعها، ويطلب من جولزار مساعدته في ذلك لنقل البضائع في القارب حتى يتم بيعها، وفي حين يبدو أفزال جريئاً طيلة الوقت وغير مبال بما يحدث حوله، يظهر جولزار خائفاً وشديد التردد في كسر حظر التجول، خصوصاً أن الشوارع تشهد مطاردات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة، وجولزار يدرك أنه لو تم القبض عليه لن تعامله الشرطة كمهرب، بل ستعامله كناشط سياسي وعندها سيضيع مستقبله تماماً، لأنه لن يحقق حلمه بالسفر إلى بومباي، ولن يهنأ حتى بفتات الرزق الذي يحصل عليه من الإقامة في المنطقة، ويتعرض الإثنان لمطادرة من قوات الأمن، لكنهما يفلتان في آخر لحظة من القبض عليهما، وهو ما يجعل جولزار يصاب بالرعب ويقول لأفزال أنه لن يتورط معه في أفعال مثل هذه في المستقبل.  

بعد قضاء جولزار لوقت طويل مع آصيفا، يشعر أفزال بالغضب لأنه بدأ يفقد صديقه الحميم، فيبدأ في تحذير صديقه من التعلق بآصيفا، مذكراً إياه بأنها من مستوى غير مستواه، وأنها لا يمكن أبداً أن تعجب به، وغاية ما في الأمر أنها تستفيد منه وتشفق عليه، يتجاهل جولزار كلام صديقه، ويبدو منتشياً بعلاقته الجديدة مع آصيفا، يدعوها إلى بيته للغداء بصحبة أفزال لكي لا تشعر بالحرج، وحين تشاهد بعض الكتب التي يمتلكها، وتسأل عنه، يقول لها أن لديه محاولات في كتابة الشعر، وحين تتحمس وتطلب منه أن يسمعها بعض أشعاره، يقوم بقراءة بعض الأشعار لها، وبرغم سذاجة تلك الأشعار إلا أنها تتأثر بها، وتشجعه عليها، وهو ما يثير سخرية أفزال منه بشكل يضايق آصيفا. 

يبدو جولزار محرجاً من اضطرار آصيفا لاستخدام الحمام التقليدي الذي يقوم بصرف الفضلات في البحيرة، ومن منظر السقف المتداعي، ويسعد حين يجدها تتعامل مع المكان بمودة شديدة وتعلن أنها مفتونة بالمنظر الخلاب الذي يطل عليه المنزل، ثم تقترح عليه طريقة سهلة لإنشاء مرحاض صحي ولا يقوم بتلويث البحيرة، وترسم له طريقة عمله لكي يفكر في إنشائه في المستقبل، وتشرح له أنها حين تتحدث عن المشاكل البيئية التي يتسبب فيها سكان المنطقة، لا تعني ضرورة أن يقوموا بترك المنطقة كما يتصور البعض، بل كل ما ترغب فيه أن يقوموا بإدراك أن مستقبلهم مرتبط بمستقبل البحيرة. 

يقوم جولزار باصطحابها إلى مناطق مجهولة تحيط بالبحيرة، وحين يفاجأ بآصيفا تحذره من أفزال قائلة له أنها تشعر بأنه شرير، وأن طول بقاءه معه يمكن أن يؤثر سلباً عليه، يتجاهل كلامها ولا يأخذه على محمل الجد، في احدى جولات الإثنين في البحيرة لجمع العينات، تسقط بعض المياه الملوثة القادمة من احدى المواسير على وجه آصيفا، وبرغم قيامها بتطهير نفسها بمطهرات أحضرتها معها، إلا أنها تصاب بعدها بتسمم يؤدي لرفع درجة حرارتها بشدة، فيقوم جولزار بالذهاب إلى المدينة، ويتبدل حذره الذي رأيناه في المستقبل إلى شجاعة شديدة، حيث يقوم بكسر حظر التجول خلال تجوله في شوارع المدينة، حتى يصل إلى منزل صيدلي ليحضر لها دواءا سريع التأثير، ويعود به إليها مُفلِتاً من الاعتقال أكثر من مرة، ثم يظل إلى جوارها حتى تُشفى، فيزداد إعجابها به، ليكون ذلك الموقف تكريسا لعلاقة المودة التي تطورت بين الإثنين خلال الأيام الماضية.

بالطبع لا يعجب ذلك أفزال على الإطلاق، ففي احدى لقاءات جولزار وأفزال مع أصدقاء لهما، يقرر أفزال الذي يشعر بالغيرة الشديدة من علاقة آصيفا وجولزار، أن يقوم بالسخرية من جولزار وعلاقته بالفتاة الزائرة للمنطقة أمام أصدقائهما، ويتخيل متهكماً طبيعة الصدمة التي سيتعرض لها صديقه حين تنتهي حاجة الباحثة إليه، فتقوم بالتخلص منه بعد ذلك لكي يعاني من صدمة عاطفية مريرة، يحاول جولزار تجاهل كلام صديقه، لكنه يفقد أعصابه عندما يقوم بالسخرية من آصيفا بشكل جارح، فيشتبك الاثنان بدنياً، ومع أن ذلك حدث في لقطات سابقة على سبيل المزاح، نراه هذه المرة يحدث بشكل جاد ومؤسف، ويبدو لنا أنهما قد خسرا صداقتهما الحميمة للأبد.  

نكمل غداً بإذن الله. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.