جمال عبد الناصر في تفتناز

جمال عبد الناصر في تفتناز

11 يوليو 2019
+ الخط -
استمر الأصدقاءُ يتحدثون عن (الفرجة) على مدى سلسلة من سهرات "الإمتاع والمؤانسة".. علل الأستاذ كمال هذه الاستمرارية بقوله إن أكثر ما يُمتع الإنسان، ويُشبع فضوله، ويَروي غليلَه رؤية الأحداث تجري أمامه على الأرض، والفرجة الواقعية أحلى وأظرف من الفرجة على السينما والتلفزيون والمسرح بكثير.

قال أبو إبراهيم: من زمانْ، قبلما يبدا عَصْرْ التلفزيون، كانوا الناس يخترعوا مناسبات للفرجة. في بلدتنا الزغيرة كانوا الشباب يلتقوا على "بيدر الرام" ويركبوا أحصنة غير أصيلة بيسموها (الكدش) ويلعبوا بالـ سَبَقْ، يا إما يجتمعوا قدام مقهى الحاج صطوف ويلعبوا بالمكاسرة اللي بيسموها قَلْبة الإيد.. وفي أغلب الأحيان يشتركوا المتفرجين بالألعاب، وفي السبق بتلاقي كل فريق عمْ يشجّع واحد من خيالة الكدش، وفي قلبة الإيد بتلاقيهُن منقسمين لفريقين، كل فريق بتظهر الانفعالات على وجهه سلباً وإيجاباً بحسب تَفَوُّقْ اللاعبْ أو انكسارُه، وبيترافقْ الانفعال مع صياح وتعييش وفي بعض الحالات سباب.

قال أبو جهاد: من زمان، يعني من شي ستين سنة، طلع أبوي الله يرحمه، ورجال كتير من بلدتنا إلى قرية تفتناز منشان يتفرجوا على جمال عبد الناصر.


أبدى أبو بدر الحلبي قمة الاندهاش، وقال: إش هالحكي؟ جمال عبد الناصر عملتوه فرجة؟

قلت: بالضبط. كان جمال عبد الناصر في تلك الأيام فرجة! لَمَّا زارْ الإقليمْ الشمالي (سورية)، عمل جولة بصحبة الشخصيات السياسية السورية، على كل المحافظات السورية، وكان وين ما وصلْ يطلعوا الأهالي من كل فج غميق لحتى يشوفوه ويسلموا عليه.. ومتلما قال الأستاذ كمال في السهرة الماضية، الناس هني اللي بيصنعوا المشهد، وهني اللي بيعملوا الفرجة. في مرة من المرات كان والدي عندُه ضيوف، وكنت أنا أدخل الغرفة اللي قاعدين فيها حتى ألبي طلباتْ الضيوف، متل المساعدة في حمل صحون الطعام، وإحضار الفواكه والحلويات والموالح، وإخراج الصحون الفارغة وبقايا قشور الفواكه والموالح.. والشي اللي كان يشدني للبقاء أطول فترة ممكنة بيناتهم هوي الأحاديث اللي كانوا يحكوها، والمزاح والتنكيت والضحك اللي كانوا يتبادلوه بين بعضُنْ ببراعة.

قال العم أبو محمد: أنا بعرف والدك الله يرحمه، كان من الناس الرايقين المرحين اللي بيسعوا دائماً لهيك قعدات ظريفة.

قلت: نعم. وفي هديكه الجلسة كانوا عم يحكوا على زيارة جمال عبد الناصر لحلب، وكيف طلعوا ناس كتير من مدينة إدلب والبلدات والقرى القريبة منها باتجاه قرية تفتناز اللي مَرّ فيها الموكب.

قال أبو محمد: تفتناز كان فيها عقدة الطرق القديمة، وإذا كنت بدك تروح على الشام أو حلب أو اللادقية أو طرطوس إجباري بدك تمر منها.. ومتلما بتعرفوا صار مركز عقدة الطرق الجديدة فيما بعد مدينة "سراقب"، وما عاد حدا يمر بتفتناز إلا بالصدفة.

قلت: المهم إنُّه في واحد من أصحاب والدي كان عم يقول: أنا روحتي ع تفتناز كانت "متل روحة برغش عَ حارم" (مثل شعبي).. الله وكيلكم، وقفنا بالشمس واستنينا أكتر من ساعة وكل شوي يقولوا هلق بيوصل الرئيس جمال، بعدين مليت ورجعت ع البلدة.. والأحلى من هيك إنه في البلدة تْجَمَّعُوا حوالَيّ الناس وصاروا يسألوني: شفته للرئيس؟ حكيت معه؟ صافحته؟ وأنا أهز براسي وما أقول: أي، ولا أقول: لأ.

قال أبو الجود: هاي الأسئلة شغلتها بسيطة.. بهزة راسْ لفوق أو لتحت بيوصَلْ الجوابْ، لاكن المشكلة إذا سألوه (حكيت معه؟) وقال أي.

قلت: كان في واحد من أصحاب والدي طريقتُه بالحكي كتير بتضحّكْ. حكى لهم إنه هوي بقي صابرْ وعم يتحمل الشمس والتعرق لوقتما أجا جمال عبد الناصر بالفعل، ونزل من السيارة، وصاروا الناس يتزاحموا لحتى يقربوا منه ويسلموا عليه. وقال إنه بالأخير وصل لعنده، ومد إيدُه حتى يصافحه، وأجتُه دفشة من الناس انقذف على بعد عشرين متر. وبعدها المرافقة طالعوه للرئيس من بين الناس، وركبوا السيارة وتابعوا باتجاه حلب.

وقال: عبد الناصر راح ونحن رجعنا ع البلدة، وأنا رحت ع القهوة وبلشت أتباهى على أصحابي. ومن جملة الكدب تبعي قلت لهم إني وقفت معه، وسلمت عليه ودار بيناتنا حديث. ابن بلدنا "أبو عباس الجَلَقَة" عَلَّقْ عليّ وصار يسألني وأنا أرد عليه: وسلمتْ عليه؟ نعم. وصافحته هيك متل العادة؟ نعم صافحته متل العادة. وأشو قلت له؟ قلت له: شلونك يا أبو خالد؟ وهوي أشو جاوبك؟ قال لي: تمام يا فندم الله يخليك. وأشو قلت له كمان؟.. من كتر ما ألح علي اخترعت كدبة وكدبت عليه. قلت له: بصراحة يا أبو عباس بقية الحديث اللي دار بيني وبينه ما فيني أحكي لك إياه. فاستغرب وقال لي: ليش بقى؟ قلت له: لأنه حكينا في السياسة. وبالعادة لما أنا وأبو خالد منحكي بالسياسة بيبقى الحكي سر بيناتنا!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...