فورة الإنتاج الدرامي السوري

فورة الإنتاج الدرامي السوري

08 ابريل 2024
+ الخط -

سمر رمضاني (5)

في بدايةِ اتصاله، مساءَ البارحة، قال أبو سعيد:

- أنت قلت لي، يا أبو مرداس، أثناء حديثنا السابق، إنّ الإنتاج الدرامي السوري تطوّر كثيراً في التسعينات، حتى وصلنا إلى "الفورة" الإنتاجية. ما هو المقصود بهذه التسمية؟

- حدثتك، في البداية، عن السنواتِ الأولى من عمر التلفزيون الحكومي، الذي كان ينتجُ لنفسه جرياً على مبدأ "الاكتفاء الذاتي"، أي أنّه كان ينتج ليعرضَ إنتاجه الدرامي على الجمهور السوري حصراً، وهذه عملية غير تجارية، بل خدمية. ثمّ تطوّر الأمر، ببطءٍ شديد، حتى وصلنا إلى أوائل التسعينات، عندما تأسّست شركات إنتاجية، ذات رساميل صغيرة، بمعنى أنّ الواحد من المنتجين، كان ينتج فيلمًا تلفزيونياً مدّته 90 دقيقة، برأسماله الصغير كلّه، ثم يسعى لتسويقه، وعندما يسترد رأسماله، مع (شوية) أرباح، ينتج فيلمًا آخر، أو ثلاثية تلفزيونية، يبيعها وينتج خماسية، وينتظر حتى يعود رأسماله، وهكذا.. 

وكانت الأخبار، حينذاك، تأتي فتقول إنّ هذه العملية فيها أرباح جيّدة، أو ممتازة، وأحياناً خيالية، وهذا ما أسال لعاب مستثمرين لا علاقة لهم أصلاً بفن، أو تمثيل، أو دراما، حتى إنّ أحدهم، كما قيل وقتئذ، أغلق شركته التي كانت تنتج بوابير الغاز، واتجه إلى الإنتاج التلفزيوني! ورساميل هؤلاء المستثمرين الداخلين على خط الإنتاج، كانت أكبر من رساميل سابقيهم، فصرنا نرى منتجاً يُقْدِمُ على إنتاجِ عددٍ لا بأس به من الساعات الدرامية، وليس فيلما وثلاثية فقط... وكانت المغامرات تنجح غالباً، إلى أن وصلت أخبار هذه الأرباح الطيّبة إلى بعضِ أبناء المسؤولين الذين يمتلكون مالاً وسلطات، فنزلوا إلى الميدان بقوّة، ومن هنا بدأت الفورة الإنتاجية.

- لحظة أخي أبو مرداس، قلتَ إنّ أبناء المسؤولين يمتلكون مالاً (وسلطات). المال فهمناها، ولكن بماذا تفيد السلطات؟

- سؤالك مهم جداً. وسوف أجيبك عليه، ولكن بعد قليل. دعني أشير أولاً إلى أنّ الفترة التي نتحدث عنها، أعني النصف الثاني من التسعينات، شهدت حلول "الإنتاج الضخم"، مكان "الإنتاج الفقير" بالتزامن مع بدء عصر الفضائيات (الساتلايت).

عندما وصلت أخبار أرباح الدراما إلى بعضِ أبناء المسؤولين الذين يمتلكون مالاً وسلطات، نزلوا إلى الميدان بقوة، ومن هنا بدأت الفورة الإنتاجية

- هذه أيضاً تحتاج لتوضيح.

- تكرم عيناك. سأوضحها. يا سيدي؛ في بدايةِ الفورة الإنتاجية، اتسمت الرساميل بالبخل والجبن، بمعنى أنّ هَمَّ المنتج كان، أثناء تنفيذ أيّ عمل درامي، ينصبُّ على الإقلالِ من أماكنِ التصوير (اللوكيشن)، لأنّها مكلفة، وإنقاص عدد الممثلين الرئيسيين، ما أمكن، لأنّ كلّ ممثل زائد عن اللزوم يعني أن يتكبّد المنتج مبلغاً إضافياً، وأنا أذكر أنّ أحد المنتجين اقترح عليّ، أثناء مناقشة تمثيلية من تأليفي، حذفَ شخصية رجل، اسمه أبو الحجي، يظهر في ثلاثة مشاهد فقط، وأن أتلافى عملية حذفه بالقول، على لسان ممثل آخر: والله أنا شفت أبو الحجي، وعرضت عليه الموضوع، ووافق.. أو: أنا مريت على أبو الحجي، وطلبت منه يجي معنا، فقال لي: اسبقني لاحقك.. وحينما قلت له إنّ هذا غير ممكن، قال لي: طيّب، نترك شخصية "أبو الحجي" موجودة جسداً، وننقل حواراته إلى شخص آخر، بمعنى أن يكون أبو الحجي كومبارساً صامتاً، ندفع له أجراً أقلّ من أجرِ الممثل الذي يتحدّث.

- حلو جداً.

- الأحلى من هذا، يا أبو سعيد، خضوعُ المنتجين في تلك الفترة لمشيئةِ المحطة السعودية الأرضية. وقبل أن تطلب مني توضيح ذلك، أقول إنّ تلك المحطة كانت تدفع ثمناً مرتفعاً لقاء الأعمال الدرامية التي تشتريها، ولكنْ، كانت لديها شروط قاسية، ومهينة. 

هَمَّ المنتج أثناء تنفيذ أيّ عمل درامي، ينصبُّ على الإقلالِ من أماكنِ التصوير (اللوكيشن)، لأنّها مكلفة، وإنقاص عدد الممثلين الرئيسيين

- مثل ماذا؟

- شروطها كثيرة، وكان المنتجون، وقتئذ، قد سجلوها على ورقة، ليتقيّدوا بها أثناء تنفيذ أعمالهم، وهي عدم شرب الكحول ضمن أحداث المسلسل، وكذلك التدخين، وعدم تسجيل اسم ممثل غير مسلم في "التيترات"، ومنع الممثلين من تبادل القبل على الخدين أو الرأس، حتى ولو كان أحد الشبان يقبّل والدته في عيد الأم، لأنّ التي يقبّلها هي، في الواقع، ممثلة غريبة، وليست أمه الحقيقية! ولا يجوز إغلاق الباب على الممثلين في مشهد يضم أخاً وأخته، لأنّ هذه الصبية ليست شقيقة هذا الشاب الحقيقية، ولا يجوز أن يحلف الممثل يميناً عفواً الخاطر، كأن يسأله صديقه: وين كنت؟ فيجيب بعبارة: (والله) رحت ع السوق واشتريت شوية أغراض!

- ضمن هذه الظروف لا بد أن تكون الدراما سطحية.

- بل وسطحية، ومعقمة، وليس لها قيمة. وعلى كلّ حال لم يكن المسلسل المنجز يخلو من لقطات مخالفة لإرادة تلك المحطة، وهنا كانت تحصل أشياء عجيبة أخرى.

- قصدك أنّ المحطة ترفض العمل كلّه بسبب تلك اللقطات المخالفة للشروط؟

- لا. أبداً. المحطة الأرضية السعودية كانت تعيد مونتاج المسلسل قبل شرائه، فينقص طوله، وتدفع للمنتج ثمن المادة المتبقية. يعني طول مسلسلك ثلاثون ساعة، مثلاً، يعطونك ثمن 22 ساعة و14 دقيقة، وهي المتبقية بعد القصقصة.

- بالفعل، هذا شيء طريف.

- الطرافة ليست هنا. بل في موضوع الراكور.

- لم أفهم.

- سأشرح لك، وللإخوة القرّاء، معنى الراكور. الممثل عبدو، مثلاً، يخرج من داره، صباحاً وهو يرتدي طقماً رسمياً مع كرافة. الطقم والكرافة راكور، يعني يجب أن يظهر في أيّ مكان آخر وهو يرتدي الطقم والكرافة نفسهما، ولكن، عبدو يقوم ببعض التصرفات، في مشاهد أخرى، مخالفة لشروط المحطة المذكورة، فتحذفها الرقابة، ويأتي مشهد يظهر فيه الممثل نفسه، في اليوم التالي وهو عائد إلى بيته بقميص وبنطال! وهنا سوف يستغرب المشاهد ويتساءل: أين بدّل السيد عبدو ثيابه؟

- يا سلام سلم. 

- الآن يمكنني أن أحدثك عن دخول أبناء المسؤولين على خطِ الإنتاج، وكيف كانوا يستخدمون سلطتهم لأجل التصوير.

- يا ليت.

- قلت لك إننا دخلنا في مرحلة الإنتاج السخي، والضخم، بمعنى أنّ أبناء المسؤولين معهم مال كثير، ولا يهتمون للتوفير، ومع ظهورِ فضائيات جبارة، تدفع أموالاً سخية للمنتج، ما عادوا يهتمون للمحطة السعودية وشروطها التعجيزية. وما قصدته بعبارة "الإنتاج الضخم" هو أنّ تلك الشركات الثرية، أقدمت على إنتاج أعمال تاريخية فيها معارك ومجاميع بشرية، وأنت تعلم أنّ كل شخص، كومبارس، يجب أن تدفع له الشركة أجور ظهوره في كلّ مشهد، وهنا، صارت هذه الشركات تعتمد على بعض القطعات العسكرية، فيأتون بالجنود، يلبسونهم الثياب المناسبة، ويصورونهم. إذا سألتني: كيف يأتون بالجنود؟ أقول: يأتون بهم من خلال علاقة المسؤولين أصحاب الشركة مع بعض الضباط، وقادة الوحدات العسكرية.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...