خارطة الطريق بين الشهوة والشهيّة (1 - 3)

خارطة الطريق بين الشهوة والشهيّة (1 - 3)

10 يونيو 2019
+ الخط -
"إلى العشاق اللعوبين وإلى ـ لم لا ـ الرجال المذعورين والنساء الحزانى".

هكذا اختارت الروائية التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي أن تهدي كتابها الممتع (أفروديت) الذي رسمت فيه خريطة ممتعة وصاخبة للعلاقة بين الشهوة والشهية، بوصفهما من أهم الأعمدة التي قام عليها بناء التاريخ الإنساني بأشهر وأتفه وقائعه وصراعاته، إن لم يكونا أهم عمودين على الإطلاق، ومع ذلك لم يلقيا الاهتمام الذي يليق بكونهما يشغلان النصيب الأكبر من اهتمامات البشر وصراعاتهم وأحاديثهم اليومية.

أسمت إيزابيل كتابها (أفروديت) نسبة إلى إلهة الحب اليونانية الأسطورية، ووصفته في البدء بأنه مجرد "هذيانات شهوانية"، لكي تكون صريحة مع قارئها الذي تعود منها على حكايات ملحمية محكمة الصياغة، قالت إيزابيل إن فكرة الكتاب جاءتها حين أدركت أنها لا تستطيع فصل ذكريات لقاءاتها الحميمة مع الرجال القليلين في حياتها عن وجود طعم غذاء ما خاص بكل رجل مارست معه الحب، ولذلك قررت أن تكتب كتابها "الذي هو رحلة دون خريطة عبر مناطق الذاكرة الحسية حيث الحدود بين الحب والشهية واهنة إلى حد أنها كانت تضيع مني كليا".

تعترف إيزابيل أنها توقعت أن تخييب آمال كثيرين من قرائها فيها بسبب هذا الكتاب، خاصة وكيلتها الأدبية كارمن بالثلز، والتي كانت بسبب حديث الكثير من الأدباء المتعاملين معها، مثل جابرييل جارسيا ماركيز وغيره، أشهر وكيلة أدبية لدى الملايين من عشاق أدب أمريكا اللاتينية، وكما تروي إيزابيل فقد ظلت كارمن تنتظر من إيزابيل لمدة 15 سنة رواية كبيرة، فإذا بها تجد ما يسقط على مكتبها بعد كل هذا الصبر "رزمة من الهلوسات حول الحسِّية ووصفات مطبخ أمي"، ورغم أن آمال الجميع وعلى رأسهم كارمن لم تخب مع نهاية قراءة الكتاب، إلا أن ايزابيل اعترفت أنه لم يكن من السهل أن تبرر لقرائك نشر كتاب يحتوي مجموعة إضافية من وصفات المطبخ أو التعليمات الشهوانية.

تقول إيزابيل الليندي في كتابها ـ الذي قرأت نسخته التي ترجمها رفعت عطفة وأصدرتها دار ورد ـ إنها لا تعرف أصلاً من هم الذين يشترون الآلاف من كتب إرشادات الطبخ والجنس التي تطبع وتوزع كل عام بالملايين، ولا من هو الذي يطبخ أو يمارس الحب بواسطة كتاب تعليمي، لأن "الناس الذين يكسبون عيشهم بجهدهم ويصلون خفية مثلك ومثلي يرتجلون في القدور وتحت اللحاف أفضل ما يستطيعون مستفيدين مما بين أيديهم دون تفكير كثير ودون مبالغات كبيرة شاكرين ما تبقى لهم من أسنان والحظ الهائل لامتلاكهم من يعانقون"، لذلك عاهدت إيزابيل قارئها أنها لن تلجأ لتنويعات مستحيلة من الوصفات الأفروديتية التي تحتاج إلى نَفَس طويل أو إلى مكونات غير موجودة في أقرب سوبر ماركت، مكتفية بتلك الوصفات التي يمكن أن تخطر في ذهن ومطبخ طبيعيين، ومستبعدة وصفات قاسية ودموية كالتي يشترطها البعض، فهي لا تفهم كيف سيستطيع من يقضى النهار في إعداد طبخة من ألسنة عصافير الكناري أن يتفرغ للألعاب الشهوانية بعد انتهاء الوجبة.

....

"نَفَسُه مثل عسل مطيب بالقرنفل الفوّاح.. فمه حلوُ مثل مانجا ناضجة.. تقبيل جلده مثل تذوّق اللوتس.. تكويرة سّرته الخفية مثل ضمة من توابل.. ما تبقى من ملذات وحده اللسان يعرفها، لكن لا يستطيع البوح بها".

بهذه المقطوعة المبهجة لـ"سرنغاريكا، كوماراداداتا" والتي كُتبت في القرن الثاني عشر، تبدأ إيزابيل الليندي كتابها، وهو اختيار موفق في تأكيده على هدف كتابها الأبرز: التنظير والتأصيل لطبيعة العلاقات الحميمة بين الشهوة والشهية. وهو هدف شاركها فيه صديقها الفنان روبرت شكتر برسومات توضيحية اختارها لمصاحبة الكتاب، وشاركتها والدتها بانتشيتا ليون بوصفاتها الخاصة في الطبخ، كما شارك "بشكل سلبي" قرابة خمسين مؤلفاً، رجعت إيزابيل إلى نصوصهم دون استئذانهم متعهدة بعدم ذكر أسمائهم، لأن وضع لائحة بمراجع العمل يزعجها، ولأنها كما قالت ساخرة تعتبر "النسخ عن مؤلف واحد سرقة أدبية والنسخ عن كثيرين بحثاً"، كما ساهم في الكتاب كثير من أصدقاء إيزابيل الذين سارعوا إرضاء لها إلى تجريب الوصفات ورواية تجاربهم، على الرغم من أنهم كانوا على قناعة بأن كتابها في نهاية المطاف لن يرى النور.


تقول إيزابيل الليندي بقدر لا بأس به من التواضع، إنها وشركاؤها في التجربة، عندما اعتقدووا أنهم انتهوا من الكتاب، أدركوا أن هناك أفروديتية أقوى من كل وصفات الطعام التي ذكروها في الكتاب، ألا وهي الحكاية، والتي هي بدون شك أفضل محرض على الشهوة، أو كما قال أحد أصدقائها "الحوار جنس الروح"، حيث تؤكد التجارب أن أكثر المداعبات فعالية هو "القصة المروية بين الألحفة المكوية تواً لممارسة الحب، كما برهنت على ذلك شهر زاد راوية بلاد العرب العجيبة التي سحرت بلسانها الذهبي سلطاناً جائراً على امتداد ألف ليلة وليلة". بالطبع لن يرضي هذا الاستشهاد الإيزابيلي غرورنا العربي حين نتذكر أنه لم يعد لدينا للأسف ما نقمع به سلاطيننا الجائرين ولو حتى شهر زاد وحكاياتها، لأن سلاطيننا الحاليين ليس لديهم خيال يقبل الاستمتاع بالحكايات، ولذلك لم يعد لديهم من متعة سوى قيام مسرور السياف بقطع رقاب المعارضين.

خلال حكايتها عن تجاربها الشخصية التي سبقت قرار تأليفها للكتاب، تروى إيزابيل الليندي حلماً عاشته ذات ليلة شتاء من عام 96 عندما رأت نفسها تقفز في حمام سباحة يملؤه الرز باللبن، حلواها المفضلة والمرتبطة في ذاكرتها بالعزاء الروحي، وفي ذاكرتنا بمحلات الكشري، وبعد ذلك الحلم الدسم الشهي، استيقظت من النوم شديدة السعادة إلى درجة الترنح، لتجد نفسها بعد أسبوع وقد حلمت بأنها تضع أنطونيو بانديراس الذي تصفه بأنه "معشوق نساء الأسبان واللاتين" عارياً على قرص عجة مكسيكية، وترشه بعدها بالصلصة الحارة ثم تلفه وتأكله بنهم، وبدلا من الاستماع إلى نصائح والدتها بالذهاب إلى طبيب نفساني أو طباخ، قررت أن تواجه مشكلتها هذه بالحل الوحيد الذي تعرفه لهوسها: الكتابة طبعاً.

كانت إيزابيل قد قضت 3 سنوات عصيبة بعد موت ابنتها باولا، تحاول إبعاد الحزن بطقوس غير مجدية (أرجو أن تكون قد قرأت كتابها الجميل العذب الذي أسمته على اسم ابنتها وقد أنجز الأستاذ صالح علماني ترجمته في منتصف التسعينات) لكن إيزابيل وبرغم كل محاولاتها للتجاوز، أحست أنها لم تعش منذ موت ابنتها ثلاثة سنوات، بل عاشت ثلاثة قرون فقد فيها العالم ألوانه وانتشر لون رمادي فوق الأشياء بقوة، لكنها حين بدأت بشكل متكرر في رؤية أحلام الطعام الشهواني، عرفت أنها وصلت أخيراً إلى نهاية نفق الألم الطويل، وأنها ستخرج إلى الطرف الآخر في أوج النور برغبة هائلة للعودة للطعام والمرح "وهكذا شيئا فشيئا وأكلة فأكلة وقبلة بقبلة ولد هذا المشروع".

لن تتحير كثيرا في فهم معنى "الأفروديتية" الذي تبني عليه ايزابيل كتابها بأكمله، لو اقتنعت بتعريفها له بأنه "أية خلاصة أو نشاط يثير الرغبة بالحبّ، بعضها يملك ركيزة علمية لكن معظمها يعمل بدافع الخيال"، هذا الخيال هو الذي قاد البشرية منذ آلاف السنين للبحث عن محفزات جديدة للشهوة، وهو الذي قاد إلى اكتشاف فنون الخلاعة المختلفة، وهو الذي أنتج الهوس بالفحولة ورموزها خاصة في المجتمعات الأبوية، وهو هوس لا تفوت كاتبة مثل إيزابيل فرصة السخرية منه قائلة/متحدية: "منذ أن خطرت بذهن الرجال فكرة إسناد تفوقهم على النساء إلى هذا الجهاز من شكلهم التشريحي بالعضو الذكري، بدأوا يعانون من المشاكل فهم يعزون إليه قدرة فائقة بينما هو في الحقيقة ومقارنة بالذراع أو الساق غير ذي شأن. أما بالنسبة للحجم فصراحة لا مبرر لأسماء الأسلحة أو الأدوات التي عادة ما يتلقاها. لأن من الممكن ببساطة وضعه في علبة سردين. مع أنني أشك بأن أحداً يرغب بفعل ذلك، يكفي النظر إلى ما تحت سرّة الرجل، كي نقدّر كم من المساعدة يحتاج للإبقاء على معنوياته عالية، ومن هنا جاءت أهمية الأفروديتيات".

تلفت إيزابيل الليندي انتباه قارئها إلى أنه فيما يتعلق بالغذاء والجنس، لا تتطلب الطبيعة إلا الحدود الدنيا الموجهة للحفاظ على الفرد والنوع، وكل ما عدا ذلك هو "زخارف أو حيَلٌ ابتدعناها للاحتفال بالحياة، فالخيال شيطان ملحاح ولولاه لكان العالم بالأبيض والأسود فقط، ولعشنا في جنة عسكر أصوليين وبيروقراطيين، تتوجَّه فيها الطاقة المصبوبة اليوم على المائدة الطيبة والحب الصالح إلى غايات أخرى مثل قتل بعضنا بنظام أكثر... لكن الطبيعة أمدتنا أو لعنتنا بمخ لا يشبع، يقدر ليس فقط على تخيل الأطعمة الرائعة وتنوعات الحب، بل أيضا الذنوب والعقوبات الملائمة، فمنذ أن وضع أوائل البشر جثة غراب او فأر على الجمر ثم احتفلوا بتلك الوليمة بجماعات سعيدة، صارت العلاقة بين الطعام والجنس موضوعا مستمرا في جميع الثقافات".

ومع أن دراسة فضائل الإثارة الكامنة في الغذاء كانت قديمة جداً، إلا أن ما وصلنا من وصفات زمان المثيرة للشهوة والشهية، لم يكن إلا قليلاً من الكثير الذي ابتلعته مجاهل التاريخ، وإلى جوار ما وصلنا من طرق إثارة الرغبة، وصلتنا أيضاً طرق قديمة أخرى لقتل الرغبة، تذكرها إيزابيل حرصاً على إبعاد الساهين من حسني النوايا عنها، على رأسها بالطبع: النَفَس الكريه والانفلونزا والرجل العاري الذي يرتدي جورباً، والمرأة التي تضع لفافات لتجعيد الشعر، والتلفزيون والتعب العام، وحمامات الماء البارد، والخل الذي قد يوقظ المغشى عليهم لكنه يصيب بالعجز الجنسي المؤقت لأنه يبرد الدم، وهنا تنبه إيزابيل قارئها إلى أنها ليست "مغسلة وضامنة جنة"، فالتناقضات في مواضيع ما يثير الرغبة وما يقتلها أكثر من أن تحصى، بدليل أن الخيار الذي يعتبره البعض مثيراً بسبب شكله، يستخدم عند ديانات أخرى في الأديرة لتهدئة التأجيج الذكوري عند الرهبان، وقبل أن تفكر باتخاذ قرار فوري بمقاطعة الخيار بعد ما ذكرته إيزابيل، دعني أذكرك بإشارتها السابقة إلى التناقضات المدهشة في هذا الموضوع، لكي لا تظلم الخيار، ولا تحرم نفسك من فوائده الصحية، ولتتذكر دائماً أن ما يثيرك قد يهدئ غيرك، وما يهدئك قد يثير غيرك، والخيرة فيما اختاره الله.

لكن إيزابيل الليندي في الوقت نفسه، لا تريد لك أن تحتار بين آلاف الوصفات التي قد تقابلها في سعيك للحياة الأفروديتية الأفضل، ولذلك تنبهك إلى أن الشيئ الأفروديتي الوحيد الذي لاشك في تأثيره هو الحب، "فما من شيئ يستطيع أن يوقف العاطفة المتأججة بشخصين عاشقين، في هذه الحالة لا تهم صروف الدهر أو حنق السنين أو بطئ الجسد أو فقر الفرص، فالمحبان يتدبران أمرهما كي يتحابا..."، لكن تبقى المشكلة الأزلية أن الحب مثل الحظ يصل حين لا يستدعيه أحد، يُشوِّشنا ويتبخر مثل الضباب حين نحاول الإمساك به ولذلك، يظل الحب ترفاً يمتلكه عدد محدود من المحظوظين، ولست محتاجاً في هذا الصدد إلى أن أذكرك بأنه "لا يدرك الوجد إلا من يكابده والا لصبابة إلا من يعانيها"، ولذلك تظل الأفروديتية الأقوى في رأي ايزابيل كامنة في "التنويع الذي يجدد الاضطرام الغرامي"، وهي تستشهد بسليمان الحكيم الذي كان له 700 سيدة و300 سرير، وهو أمر غير متاح هذه الأيام للغالبية الساحقة من البشر كما لا يخفى عليك، لذلك تنصحك إيزابيل بتنويع الطريقة إذا لم تكن قادرا على تنويع الرفيق.

تأسف إيزابيل الليندي كثيراً لأنها لم تدرك إلا متأخراً أن أفضل زينة للمرأة "ابتسامة مشعة"، ولذلك ترى أن كل ما يُطهي لمحبوب هو شهواني، لكنه يكون أكثر شهوانية، حينما يشارك في تحضيره المحبوبان "مع التخفف شيئاً فشيئاً من أثقال الملابس، وهي تفترض بذلك وجود سعة في مساحة المطبخ قد لا تتوفر للكثيرين من المبتلين بالمطابخ الضيقة المكتومة برغم كل ما تبذله الشفاطات من مجهود لتهويتها.


في مسألة الطبخ الذي يشترك فيه الرجال مع النساء، تتوقف إيزابيل عند اندهاش النساء دائماً من الرجال الذين يفهمون بالطعام، وتستغرب إيزابيل التي تجهل الطبخ أن لا يندهش الرجال من مجيدات الطبخ محاولة تأمل ذلك قائلة: ".. الرجل الذي يطبخ مثير والمرأة لا، ربما لأنها تذكر بالنموذج المنزلي أكثر من اللازم، التباين والمفاجأة شهوانيان، فتاة ترتدي لباس عصابة وتمتطي دراجة نارية يمكن أن تكون مثيرة، بينما رجل في الحالة ذاتها ليس أكثر من فحل مثير للسخرية ... إن الذواقين القادرين على اتنقاء صحون اليوم بالفرنسية يفرضون احترامهم على النساء، هذا الاحترام الذي من الممكن أن يتحول بسعادة إلى شهية عشقِ نهمِ. لا نستطيع مقاومة أولئك الذين يحسنون الطهي... الذين يصنعون العصير، اللون، النعومة، النكهة ونسيج الشريحة اللطيفة بالنبرة ذاتها التي نعتقد فيما بعد أنهم سيستخدمونها للإشارة إلى سحرنا ذاته... وغالبا لا يكون هذا صحيحا، ففي الحياة الواقعية عادة ماتهمهم ساقا ضفدع أكثر من سيقاننا"، ثم تختم إيزابيل هذا التأمل الممتع بقولها "على العكس من الرجال الذين يفكرون بالهدف فقط، فإننا نحن النساء نفكر بالطريقة والطقوس... فما من امرأة يهمها ما يقوله الرجال، بل ما يهمسون به".

في مقدمة فصل خصصته للعطور وسحرها الجنسي، تستشهد إيزابيل الليندي ببعض العبارات من كتاب (الروض العاطر) للعلامة المغربي الشيخ النفزاوي، أحد أشهر من كتبوا في التراث العربي عن ما يربط الشهوة بالشهية، يقول فيها: "واعلم يرحمك الله أيها الوزير أن المرأة كالثمرة لا تطلق عبقها ما لم تفرك باليد، خذ مثلا الحبق، ما لم تدلكه بأصابعك فإنه لا يطلق عبقه، وهل تعلم أن العنبر مثلا يقبض عبقه ما لم يحمىّ ويدلك؟، والمرأة كذلك.."، لتطرح إيزابيل بعد ذلك المقتطف سؤالاً يقول: "أين يبدأ الذوق وأين ينتهي الشمّ؟ إنهما لا ينفصلان. إغواء القهوة لا يصدر عن الطعم الذي يخلِّف حرقة بخار في الذكرى، بل في ذلك الفوحان الكثيف والغامض لغابة قصية ... الشم من وجهة نظر التطور أقدم حواسنا، فهو دقيق وسريع وجبار وينطبع في الذاكرة بإصرار وعناد، ومن هنا كان نجاح العطر". تستشهد إيزابيل هنا برواية باتريك زوسكيند الفذة (العطر) ـ التي أنجز ترجمتها إلى العربية الأستاذ نبيل حفار وصدرت عن دار المدى العراقية ـ مؤكدة أن ما اكتشفه العلم عن أن الرغبة الجنسية تبدأ بالأنف، لم يكن مفاجأة لأن كل امرأة ورجل يعرفان ذلك منذ آلاف السنين.

ترى إيزابيل أن الجسد البشري يتضوّع في حالة الإثارة رائحة بحرية شبيهة برائحة البحريات والسمك، وربما كانت تلك "ريحة الحبايب" التي تتحدث عنها الكثير من أغانينا دائماً دون أن تحدد طبيعتها، ربما لكي لا تغضب من ليس لهم "تُقل على السمك". تنقل إيزابيل عن كتاب (تاريخ الحواس الطبيعي) لديان إكرمان أن شمّ الواحد للآخر من الأهمية بمكان، بحيث أن كلمة "قبّل" في بعض أنحاء العالم تعني "شم"، وهو ما يجعل إيزابيل تعتقد أن الحاسة التي تستقبل روائح المحبوب هي التفسير الحقيقي لما تسميه السذاجة الشعبية بـ"الكيميا" التي تؤلف القلوب أو تنفرها من بعضها، ولذلك تقول إيزابيل الليندي عن تأثير الشم وأفعاله بالنفوس وأهوائها: "..وكما أن رائحة الجسد مثيرة، كذلك هي رائحة الطعام الطازج حسن التحضير وأطايب المطبخ الجيد لا تسيل لعابنا وحسب، بل تجعلنا ننبض نبضا إن لم يكن رغبة شهوانية فهو يشبهها كثيرا... أحيانا حين أستحضر رائحة صحن لذيذ يثيرني الحنين والمتعة إلى حدّ البكاء..".

ولكن ماذا عن العين، ماذا عن سحر النظرات وعلاقتها بالاشتهاء والشهية؟ تذكرنا إيزابيل أن الجاذبية تبدأ بين البشر وبعضهم بالنظر، وكذلك يبدأ شغفهم بالطعام عبر العيون، ومن هنا يجهد الناس أنفسهم في تزيين الموائد والأطباق، مع أن هناك أطعمة هي من الجمال بمكان، بحيث لا تتطلب أي ذكاء لتقدم بمبالغة في التزيين، وأخرى تحتاج لمساعدة وفن لتمويه مظهرها، مثل قطعة كبدة أو حِزمة أمعاء، معلنة موقفها من تزيين ما نشتهيه كما يلي: "..أفضّل الطعام في حالته الطبيعية وكذلك الرجال. لا أثق بالتزين غير الضروري، بالرجال الذين يضعون سلاسل من ذهب ولهم شوارب ملعوقة وأظافر مُلمّعة، كما لا أحب الفرّوج المطفأ بمرق كتيم أو نوريات أزهار تسبح في الحساء، لكن من المستظرف التجديد... وأنصح العشاق المستعدين لإضاعة الوقت في التفاصيل، أن يتزودوا بشموع بهيئة التفاح أو القلب أو كيوبيد بمفرش طاولة من الساتان الفاخر وأطقم مائدة موحية".

حين نفكر بأكلة شهوانية نستبعد على الفور اللباقة في تناول الطعام، هكذا تتصور إيزابيل وهي تتحدث عن علاقة اللمس بالأفروديتية ساخرة من نصائح أمها الأربعة لها على مدار سنوات: " اجلسي وساقاك مضمومتان، سيرى باستقامة، لا تبدي رأياً، لا تأكلي مثل الناس". لكن الغالبية العظمى من الناس حول العالم ولأسباب عملية تأكل بأصابعها، وهو ما لن ترضى عنه أم إيزابيل أبداً، كما أن أفكار أطقم الطعام والآداب الصارمة على المائدة المعروفة بالاتيكيت كلها أمور جديدة نسبيا، وبالرغم من قواعد الإتيكيت هذه، وبشهادة روائية مثلها تعيش في قلب مجتمع الاتيكيت، فإن معالجة الطعام باليد تضيف حاسة اللمس إلى المتعة الأساسية المتمثلة بإرضاء الشهية، فتناول الطعام باليد يسمح بالإحساس بروح الأغذية قبل استهلاكها، لذلك تقول إيزابيل: "أحبّ صناعة البسكويت، الإحساس بنعومة الطحين بين أصابعي، تحسس تركيبة السكر الخشنة، وانزلاق الزبدة والبيض، جمع العجين ومطّه وتقطيعه"، باختصار ترى إيزابيل أن التشديد المفروض على المائدة يمكن أن يكون له تأثير لوائح الخطايا التي تحث على التمرد، وبالطبع لن يكون محبو مصمصة الكوارع وزلمكات الفراخ وعشاق نحت قشر البطيخ ولب المانجة من أمثالنا بحاجة لكل هذا التبرير والتنظير لأهمية افتراس الطعام باليد.

نكمل غداً بإذن الله...
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.