الكوكايين يكتسح قاهرة الزمن الجميل!

الكوكايين يكتسح قاهرة الزمن الجميل!

06 يونيو 2019
+ الخط -
"انتشرت عادة تناول المخدرات في العاصمة إلى حد أن أصبح لها دورٌ وبؤر لتناولها كالمقاهي العامة والنوادي الخاصة، بل فاقت هذه الأماكن مشارب القهوات إذ أصبحت سوقاً علنية تدار على مرأى من الرائح والغادي في قلب العاصمة، حيث يباع هذا السم الأبيض للبعض ويحقن البعض الآخر به جهرة وحيث يتناول التجار أجرهم في أمن وطمأنينة".

هكذا افتتحت مجلة (المصور) في عددها الصادر بتاريخ 4 يناير 1929، موضوعها الرئيسي الذي حمل عنوان (السم الأبيض يباع علناً في الشارع)، والذي وصفته المجلة بأنه "مقال غريب"، لكنها قررت أن تنشره "راجية أن يكون أولياء أمورنا أكثر يقظة في مكافحة المتاجرين بهذه السموم القاتلة التي تفتك بالأمة فتكا ذريعا وتهدد كيان المجتمع المصري". نشرت المجلة المقال بتوقيع محمد عزيز الذي وصفته المجلة بأنه شاهد عيان يصف مشاهداته في بعض بؤر الكوكايين المنتشرة في شوارع القاهرة، وعلى رأسها منطقة "سوق العصر الواقعة في عشش الترجمان بمنطقة السبتية الواقعة في حي بولاق، حيث يوجد ممر بين مخازن مهمات السكك الحديدية يجتمع فيه بالليل والنهار نحو 250 من المصابين بهذا الداء الوبيل، وهذا العدد يختلف باختلاف الزمن، حيث يتوفر هذا العدد عصراً ويقل في الصباح، ويجلسون في هذا الممر صفين من الجثث الحية حفاة عراة كل منهم يستند على الآخر بشكل يفتت حتى متحجري القلوب، ويشترك كل خمسة أو أكثر في جمع ثمن ورقة من هذا السم ويشمونها، وبينهم ثلاثة أو أربعة من التجار يحملون أكياساً من القماش مملوءة بأوراق المخدرات وبيد بعضهم سياط ينهرون بها هؤلاء المنكوبين بسبب وغير سبب وهم لهم أقل من العبيد الأرقاء في القرون الوسطى، فهؤلاء التعسين يخشون التجار ويكنون لهم في قرارة نفوسهم احتراماً وخضوعاً ممزوجين بالخوف والرعب الشديد لأنهم قد فقدوا إرداتهم ومكانة التجار منهم مكانة للنوم من الوسيط".


يصف محمد عزيز في مقاله أيضاً جسراً للسكة الحديدية يقع بالقرب من المنطقة السابقة، يجتمع عنده عدد من المدمنين، من بينهم عدد من النساء في حالة رثة، وتقوم بجواره أكشاك من الخشب "يوجد خلفها بعض العشش للذين يتناولون المخدرات حقناً تحت الجلد، ويقوم بعملية الحقن جماعة من الصعايدة في أيديهم هذه الحقن القذرة والسياط أيضاً، ولقد رأيتهم وهم يلقون بصريعهم إلى الأرض ويناولونه الحقنة فيغيب عن الوجود برهة ثم يتفوه بكلمات جنونية بعدها كأنه قد زال منه ما كان يؤلمه"، ودون أن يوضح محمد عزيز لماذا قرر أن من يقومون بالحقن صعايدة وليسوا فلاحين، ودون أن يوضح معلومات أكثر عنهم وعن طبيعة تواجدهم في تلك الأكشاك، ينتقل لوصف حال المترددين على تلك الأكشاك قائلاً: "إن حال هؤلاء التعسين مما يذيب القلب ويفتت الكبد، فمعظمهم حفاة عراة تركوا عائلاتهم واندمجوا في زمرة مدمني المخدرات وكل منهم يسعى بجميع الطرق للحصول على قرشين أو أكثر ثمن الورقة التي يشترونها، فيرتكبون الجرائم ويأتون ما يندى له الجبين من الخزي والعار، فبعضهم يسرق والبعض الآخر يبيع ما حصل عليه من أهله من أكل أو ملابس وبعضهم يبيع ما تملكه يده من بيت أقاربه ومعارفه إلى آخر ما لا يصح أن يجري به قلم على قرطاس"، ثم يختم بعد ذلك شهادته بالقول: "إن مثل هؤلاء لا تصلحهم بالطبع سجون ولا يؤدبهم حرمان ولا يزجرهم أسر ولا يصح تركهم على حالتهم الراهنة لإلحاق الضرر بأفراد المجتمع، فالواجب يقضي بتطبيب هؤلاء البؤساء بعد جمعهم لأنهم مرضى أولى بالعطف من المرضى العاديين ولأن الضرر أجسم مما يظن إنسان إذ قد تغلغل في الشعب فأصاب اليد العاملة من صناع وزراع ومستنيرين".

كانت (المصور) قد خصصت افتتاحيتها في نفس العدد للحديث عن الدور الذي تلعبه الامتيازات الأجنبية في مضاعفة انتشار وباء الكوكايين قائلة بنبرة حادة لم تكن المجلة توجهها في ذلك الوقت إلى الشرطة فيما يخص القضايا السياسية أبداً: "وإذا كان لنا أن نلوم رجال الأمن عندنا لهذا التهاون في مراقبة المتجرين بالمواد المخدرة التي أصبحت خطراً يهدد كيان المجتمع المصرين فإننا يجب ألا ننسى أن نشاط البوليس ويقظته ـ إذا كان هناك نشاط ويقظة ـ لا يجديان نفعاً ما دام هناك شيء يقال له امتيازات أجنبية لأنه كثيراً ما يحتمي المجرمون الحقيقيون برعايا الدول ذات الامتيازات كي ينجوا من العقاب. فإذا قبض البوليس على أولئك الرعايا أحالهم إلى قناصلهم فتنزل بهم عقوبات خفيفة وفقاً لقوانين بلادهم"، مشيرة إلى اختلاف القوانين التي تتعامل مع تجار المخدرات من بلد إلى آخر، حيث يوقع القانون اليوناني عقوبة الحبس لسنة واحدة على بعض المتاجرين بالمخدرات، في حين يعاقبهم القانون الهولندي بثلاثة اشهر فقط في نفس الظروف.

ذكرت (المصور) قراءها بما كان قد سبق لعبد الخالق ثروت باشا أن اقترحه حين كان وزيراً للخارجية في وزارة عدلي يكن باشا، حين رأى ضرورة تعديل الامتيازات الأجنبية "بحيث تكفل محاكمة جميع المتهمين بالمواد المخدرة أمام محكمة واحدة وفقاً لمواد قانون واحد، كي تنزل فيهم كلهم عقوبة واحدة متساوية عملاً بقواعد الإنصاف"، مؤكدة على أهمية القيام بعزل أكثر من 2500 مسجون بسبب إحراز وتعاطي المواد المخدرة عن باقي المساجين، "ووضعهم في إصلاحية خاصة تنشأ بحيث تكون أقرب في نظامها إلى المستشفيات منها إلى السجون"، مشيرة إلى أن مصلحة السجون رفعت تقريراً إلى ولاة الأمور يطالب بسرعة إنشاء هذه الإصلاحية التي "تقوم بإصلاح حال مسجوني المواد المخدرة وتشغيلهم وترويضهم بطريقة تتفق مع حالتها الصحية"، ولا أحد حتى الآن يدري أين اختفى ذلك التقرير، ولماذا لم يتجاوب معه أحد من أهل ذلك الزمن الذي لا زلنا نصر أنه جميل، مع أنه يحمل بداخله بذوراً لكل ما نعانيه الآن من أمراض وأزمات، ربما أدى علاجها الخاطئ إلى استفحالها بشكل يجعل أحفادنا يحنون إلى زمننا، ويرونه أجمل من زمانهم، ودوخيني يا لمونة.

....

شمس بدران في محكمة الأحوال الشخصية!
في 25 أكتوبر عام 1986 نشرت صفحة أخبار اليوم في صفحة الحوادث الخبر التالي: قضت محكمة عابدين للأحوال الشخصية بفرض نفقة شهرية مؤقتة للسيدة منى مصطفى رشدي ضد زوجها وزير الحربية الأسبق شمس بدران وأحالت المحكمة الدعوى للتحقيق لإثبات أوجه النشاط التجاري لشمس بدران وحالته الاجتماعية وقد سارع محامي شمس بدران في اليوم التالي لصدور الحكم بعرض النفقة على يد محضر، وقال إن زوجة شمس بدران كانت تتقاضى معاشه كوزير سابق وقدره 230 جنيه في الشهر. كانت السيدة منى رشدي قد قامت في يونيو 1986 بطلب الطلاق من شمس بدران في المحكمة، معللة طلبها بأنه هرب إلى خارج البلاد، وغاب عنها لمدة تزيد عن عشر سنوات، ولم يحاول الاتصال بها طوال فترة غيابه، كما أنها لا تعرف له مقر إقامة معيناً.

لم تنشر الصحف المصرية بعد صدور حكم النفقة الشهرية أي تفاصيل عن مصير العلاقة بين منى مصطفى رشدي وزوجها الهارب شمس بدران وزير حربية هزيمة يونيو، والذي تمت الإطاحة به بعد الهزيمة مباشرة، وتم القبض عليه ومحاكمته مع عدد من رجال المشير عبد الحكيم عامر، لكنه كان الوحيد من بينهم الذي خرج سريعاً من السجن، وسمح له بالسفر خارج مصر في ظروف غامضة، ولا يزال يعيش في لندن حتى الآن، ولا زلنا ننتظر اليوم الذي تخرج فيه أسراره إلى النور، بعد أن فشلت أول محاولة لإخراجها عقب ثورة يناير، حين قامت جهات سيادية بمنع نشر حوار مطول كان قد أجراه معه الناشر محمد الصباغ، وكنت من الذين ينتظرونه بفارغ الصبر، ليس لأني مهتم بأي تفاصيل أو معلومات يمكن أن يحكيها شمس بدران عن دوره في هزيمة يونيو، وعن علاقته الملتبسة بكل من عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، فقد كنت للحقيقة مهتماً أكثر بمصير التسجيلات النادرة التي يمتلكها شمس بدران لمحمد عبد الوهاب، والتي يقال أنها تحتوي على أغنيات لم تر النور بعد، وأتمنى أن يتيح شمس بدران سماعها لنا قريباً، لتكون تلك حسنته الوحيدة التي لن تغفر شيئاً من ذنوبه في حق مصر.

شمس بدران في قفص الاتهام في أغسطس 1968 

.....


فقرة إعلانية
لم تنشغل إعلانات الصحف والمجلات المصرية فقط بمشكلة السمنة، كما رأينا في عدد سابق من هذه الزاوية، بل انشغلت أيضاً بمشكلة النحافة والضعف البدني، كما نرى في الإعلانات التالية التي نبدأها بهذا الإعلان الذي يحاول حل مشكلة النحافة منذ الصغر، والذي تم نشره عام 1925:



أما الضعفاء من كبار السن فقد كان من نصيبهم هذا الإعلان الذي تم نشره في العام نفسه:



وفي عام 1951 جاء هذا الإعلان المخصص لمرضى الضعف وفقر الدم و"الانحطاط" الذي يبدو أن الكثيرين كانوا يتصورون إمكانية علاجه:



بعدها بأكثر من عشرين عاما وبالتحديد في عام 1973، جاء هذا الإعلان ليخاطب المصابات بالتعب والإرهاق والنحول، مستخدما هذه الإمكانيات الجرافيكية التي كانت مبهرة بالتأكيد وقتها:



.....

وختاماً مع الكاريكاتير:
بمناسبة التعب والإرهاق ونقص الطاقة، نشرت مجلة (المصور) في عددها الصادر بتاريخ 26 نوفمبر 1973 هذا الكاريكاتير للفنان الكبير بهجت عثمان:



وعلى صفحته الجميلة في (الفيس بوك) وجدت هذا الكاريكاتير الذي لم أتبين تاريخ نشره:



كل سنة وأنتم طيبون إن أمكن.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.