من يذهب إلى روما!

من يذهب إلى روما!

09 مايو 2019
+ الخط -
عندما أفتوا بتحريم الصور، جمع أبي صور العائلة كلها. ظننت يومها أنه أحرقها على سطح بيتنا في جدة حيث اعتاد الشواء. وعندما كان يرانا وقد رسمنا خطوطاً تقطع رقاب كل رسوم البشر والحيوانات حتى لا نحمل ذنب التشبه بخلقهم على الورق، كان يربت على رؤوسنا برضا وحبور ويردد دعوته بأن يباركنا الله ويبر بنا الإسلام والمسلمين.

وعندما استعرت يوماً شريطاً لوردة من زميلة المدرسة، عنفني بشدة وطالبني بسماع شريط دعوي في حكم الغناء والمعازف. وكنا نرتدي العباءات بحكم العادة، لكنه كان يصر على تذكيرنا بأولوية لبس السواد وبوجوب تغطية الوجه. كان رحمه الله يرتدي الجلباب الخليجي ويطلق لحيته ويحنِّيها كما يفعلون. بل كان يتحدث بلكنة تجمع الحجازي بالمصري الريفي. وكان اندماجه ذاك يروق لأرباب العمل ولمعارفه هناك، أو هكذا ظننت.

وعندما عدنا لبلدتنا في الشرقية، كان له في أسرته وبين أقاربه وضع مميز، الحاج عبد السلام الثري القادم من الخليج، صاحب الدار الفخمة المبنية بالرخام على الطريق العمومي، كان الكل يتسابقون لاستشارته ولمرافقته. وكان يفتخر أمامنا بذلك كثيراً.


ويبدو أنه فطن بدهاء الفلاح لأن ما يوليه له الأقارب والأباعد يرجع لسمته الخليجي ولظنهم بأنه عاد بجل عوائد بيع بترول المنطقة الشرقية! فكان يغذي ظنونهم تلك بما يزيدها ويضخمها. فتارة يحكي عن رفقته لأحد الأمراء في رحلات صيد الصقور. وتارة يشتكي من تذبذب قيمة أسهم الراجحي. وثالثة يدعي تعطل دخول سياراته اللاندروفر والكرايزلر في جمرك سفاجا.

وهكذا ظل يداعب خيالاتهم وأطماعهم، حتى باع لأحدهم قطعة أرض بأكثر من ضعف قيمتها، لأن المشتري كان يُمني نفسه بجر أبي لمشاركته في مشروع تجاري كبير والاستفادة من أرصدته البنكية ذات السبعة أرقام! وحتى ضمن لأختي الكبرى زوجاً من أسرة كبيرة وثرية الأصل، لم نكن نحلم بمصاهرتها أبداً.

وكان يلفتني تساهله في مسائل دينية "أساسية وحرجة جداً" طالما تشدد فيها كالتصوير والغناء.. بل والحجاب نفسه! فقد رفع صورة كبيرة لجدي في صدر المجلس حيث يستقبل الضيوف. وسمح لأختي بخلع حجابها في عرسها. ثم خلعته بعدها نهائياً عندما سافرت إلى هولندا مع زوجها، ولم يمانع أو يمتعض. حتى الموسيقى والغناء اللذان تربينا على كونهما مجلبة للشياطين ومحقاً للبركة، صار مستهلكاً شرهاً لهما. فها هو يجهر بولعه بالست وبعبد الوهاب، ويدير شرائطهما في الدار ليل نهار، بل ويطيب له دعوة أحد أقاربه ذي الصوت الشجي لمسامرته حتى الصباح بما يحفظان من أغانيهما.

فاجأنا يوماً بصندوق فيه صورنا صغاراً ومراهقين. الصور التي ظننته أحرقها كلها. وواتتني يومها شجاعة طارئة لسؤاله عما غيّر ما كان يؤمن به ويصر عليه من فتاوى الشيوخ. فقطب جبينه، وأشاح بوجهه، ودعا أن يقاتل الله كل شيوخ السلاطين، وتساءل باستنكار عما أفاده المسلمون من كل ذلك الغثاء وما زالوا في ذيل الأمم! فابتسمت وداعبته بأنه كان يوافقهم دائماً دائماً، وبأنه غالباً كان يؤمن بأن من يذهب إلى روما فليفعل كأهلها، فضحك كثيراً حتى احتقن وجهه ودمعت عيناه، ثم لكزني في كتفي غامزاً: روما مين؟ احنا في بلبيس! اسمها "اربط الحمار مطرح ما يحب صاحبه"!

دلالات

6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى