نوعي المفضل من السيساوية!

نوعي المفضل من السيساوية!

03 ابريل 2019
+ الخط -

جمعتنا ساعة انتظار لطائرة متأخرة في صالة استقبال المطار، كان ودوداً ولطيفاً، حدثني عن إعجابه ببعض أعمالي الفنية، ثم قال إنه كان يتابع بعض مشاركاتي التلفزيونية ويعجب ببعض مما أقوله، مستدركاً أنه يمكن أن يتفق معي في كل شيء "إلا موضوع الثورة ده"، لم أرغب في سؤاله عن السبب، فقد كنا نتحدث في أيام عصيبة تُسفك فيها الدماء في الشوارع دون أن تجد من يبكي عليها، بل ووجدت من يرقص عليها، فاكتفيت بهز رأسي دون تعليق، ليجيبني على سؤال لم أسأله: "أصل ما تزعلش مني، أنا من عيلة كلها أباً عن جداً لواءات جيش وشرطة وقضاة ووكلاء نيابة، يعني الثورة دي المفروض قامت ضد اللي زينا، فأبقى معاها إزاي؟". كان يتوقع أن أتضايق مما قاله، ولذلك استغرب حين ضحكت بصوت عال، بل وقمت بالتربيت على كتفه بإعجاب، وأنا أستعيد عبارته الأخيرة متمزّجاً، قبل أن أقول له بحفاوة استغربها إنني أعتبره "نوعي المفضل من السيساوية"، وأتمنى لو جاب السيساوية كلهم مثله من الآخر، بدلاً من تصديعنا بالرطانة الوطنية التي ليس لها ثلاثين لازمة.

لم يكن محدثي من المطلعين على خفايا وكواليس صنع القرارات السياسية في مصر، ولم يقم بتحليل مضمون كافة خطابات عبد الفتاح السيسي وحواراته، لكن مجرد انتمائه إلى عائلة متنفّذة جعله يدرك بالسليقة كيف تُحكم مصر؟ فيحدد انحيازاته السياسية بناءً على مصالحه الشخصية المباشرة، في حين ظل الكثير من المثقفين والسياسيين والإعلاميين يتعاملون مع عبد الفتاح السيسي على مدى سنوات بوصفه قائداً صاحب رؤية سياسية شاملة، تهدف لإنقاذ مصر من التطرف الديني والفكر الرجعي، بل وكان من بين هؤلاء ـ وأرجوك أن تكتم "الواحدة الاسكندراني" ـ من يتعامل مع السيسي بوصفه صاحب مشروع لاستعادة استقلالية مصر السياسية والخروج من حالة التبعية الأمريكية والتعامل مع إسرائيل والسعودية وتركيا وإيران معاملة الند لا معاملة التابع، دون أن يروا الصورة الواضحة التي رآها "ابن العائلة المتنفّذة"، والتي يظهر فيها السيسي بوصفه قائداً لتحالف قوى الجيش والشرطة والقضاء، قد يقول على الملأ كلاماً طناناً عن المؤامرات الدولية والخطط الجهنمية التي يدبرها أهل الشر والإرادة الوطنية والشعب الذي لم يجد من يحنو عليه، لكن أفعاله وقراراته لا يمكن أن تغفل لحظة واحدة عن خدمة مصالح المنتمين إلى الجيش والشرطة والقضاء، ليبذلوا كل ما بوسعهم من أجل تأمين بقائه على كرسيه دون أزمات ولا مشاكل.


كنت ولا أزال أتابع ما يكتبه بعض أصدقائي الذين جرفتهم حماسة الرغبة في الخلاص من الإخوان، وهي رغبة لم يساعد على تغذيتها أحد بمنتهى الغباء والإخلاص مثلما ساعد الإخوان أنفسهم، لا أتحدث هنا عن أولئك الانتهازيين الأوغاد الذين تطوعوا لكي يصبحوا أصابع أو حتى أظافر في أذرع النظام الإعلامية، يعومون على عومه ويخربشون من يدوس له على طرف، إلى أن قرر النظام تقليمهم والاستغناء عن خدماتهم، بل أتحدث عن مواطنين "صالحين" ظنوا أن مصلحة الوطن تتحقق في غض الطرف مؤقتاً عن انتهاك حقوق الإنسان، لكي يتمكن قائد المسيرة من تحقيق إنجازاته التي كان واثقاً من قدرته على الوفاء بها في وقت قياسي، وحين أدركوا متأخراً أن من يستخدم "حالة الاستثناء" للوصول إلى الحكم، لا يمكنه أن يتخلى عنها، إلا حين تتخلى عنه روحه، وأن الشعب حين يفرط في حقه في المحاسبة أياً كانت الدوافع، لن يكون من السهل عليه أن يستعيد ذلك الحق، وسيضطر لانتزاعه مجدداً بأثمان أغلى من التي سبق دفعها، ولأن هؤلاء الأصدقاء للأسف لا زالوا يعيشون في مرحلة الإنكار، تجدهم يلجأون في ما تبقى من مساحات "محندقة" للتعبير عن الرأي، لتذكير السيسي بوعوده التي سبق أن قطعها على نفسه، ولمحاولة تبصيره بخطورة القرارات العشوائية التي يتخذها في هذا المجال او ذلك، وأصارحكم أنني لا ألومهم حين يفعلون ذلك، لأن قبول الحقيقة التي رآها "ابن العائلة المتنفّذة" لن يكون أمراً سهلاً على الإطلاق من الناحية النفسية والعصبية، فكيف سيكون الحال إذن بمواجهتها على أرض الواقع، خاصة حين تصل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى نقطة الانفجار الرهيب، التي يساعد نظام السيسي كل يوم في تعقيدها ومضاعفة أخطارها.

ذكّرني حواري مع "ابن العائلة المتنفّذة" بمسرحية (مدرسة الطغاة) للكاتب الألماني إيريش كيستنر والتي ترجمها سمير جريس وصدرت عن المركز القومي للترجمة قبل سنوات، والتي يدور في ثناياها حوار بين اثنين من المتآمرين على قلب نظام الحكم حول الأوضاع التي تمر بها البلاد، وما إذا كانت يمكن أن تساعد على تحقيق حلم الإطاحة بالنظام، فيقول أكثرهما تفاؤلاً للآخر: "الكراهية تغلي في صدور الناس. الغلّاية على وشك الانفجار... حتى الوحشية تحتاج إلى نظام، من يقمع الرأي العام عليه ألا ينسى أبداً أن وعي المظلومين أكبر من وعي الظالمين. كلما ازداد الظالم وحشية ازداد جهلاً، فإذا أجبر الآخرين على الوصول إلى نقطة الصفر السابقة للحرية، فإنه يصل في الوقت نفسه إلى نقطة الصفر في علمه برأيهم"، وحين يطلب منه زميله توضيحاً أكثر لما قاله من كلام معقد، يقرر أن يصيغ له كلامه السابق بصورة أكثر بساطة، فيصف النظام الذي يوغل في الوحشية بأنه "يتخبط في الظلام وبالتحديد داخل حقل ألغام زرعه بنفسه"، وحين يبدو زميله متخوفاً من محاولة فشل التغيير الذي يتمنيانه، يقول له زميله المتفائل: "كلما ازداد تركيز السلطة سَهُل الإطاحة بها، كل ما عليك هو كسر القمة. القمة فقط".

في ضوء هذه الفكرة اللامعة، يمكن قراءة خطورة ما ظل يفعله عبد الفتاح السيسي منذ توليه الحكم، لأنه في الوقت الذي يقوم فيه بتركيز سلطة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية في يده وأيدي مجموعة ضئيلة من المقربين إليه، يحاول تفادي مسألة "كسر القمة" بنشر النفوذ السلطوي بشكل واسع ومؤسسي، من خلال زيادة امتيازات رجال الجيش والشرطة والقضاء بشكل متكرر، لم يعد يأبه حتى بتخفيف حدته، ولا بإيجاد مبررات له يتم تسويقها لدى الرأي العام الذي طحنته الأوضاع الاقتصادية السيئة، خاصة بعد أن قلت قدرة النظام على استثمار التضحيات التي يقدمها ضباط وجنود الجيش والشرطة الذين يسقطون ضحايا للعمليات الإرهابية، وبعد أن فقد شعار (الحرب على الإرهاب) بريقه السابق لدى قطاعات شعبية واسعة، فشل النظام في التواصل معها إعلامياً أو سياسياً، ولذلك أصبح يفضل الاستثمار في وسائل قمعها إن تحركت ضده، أكثر من تفضيله للاستثمار في وسائل استمالتها لكي لا تتحرك ضده، وهو ما يمكن قراءته بشكل جليّ في حالة فقدان الصبر التي انتابت السيسي أكثر من مرة في أحاديثه المرتجلة، وارتفاع وتيرة استدعائه لمخاوف خراب البلد وسقوط الدولة، بشكل كان قد تخلى عنه في سنواته الرئاسية الدافئة التي امتلأت بالحديث عن الوعود والإنجازات، وهو ما يثير استغراب الذين يجدون أداءه العصبي غير مبرر في ظل إغلاقه الكامل للمجال العام وسيطرته على أغلب منافذ التعبير التي ستكتمل بعد صدور قانون الإنترنت الموجه بشكل واضح، لاستكمال مساعي الأجهزة الأمنية للسيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كامل، بوصفها المساحة الوحيدة التي لا زالت خارج السيطرة الأمنية الكاملة.


لا يبدو السيسي أو المقربون منه مهتمين بمخاطر فك الارتباط بين المؤسسة العسكرية والأمنية والقضائية وبين باقي فئات الشعب، بذلك الشكل الفج الذي أدركه "ابن العائلة المتنفذة"، والذي يعمق حالة العداء الشعبي لها، بشكل غير مسبوق، خصوصاً أن النظام رفع درجة تعاونه الأمني والسياسي مع إسرائيل بشكل سافر وسافل، ولم يعد يمكنه أن يتوسع في استخدام فكرة "حماية الأرض والعرض" كمبرر لقراراته، بعد بيع جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وطريقة النظام في التعامل مع الحكم القضائي الرافض لما جرى، ولذلك لم يكن من الغريب أن تزيد نبرة السخط في دوائر شعبية أوسع من ذي قبل، كلما أسفرت عملية إرهابية عن عدد من القتلى والجرحى من ضباط وجنود الجيش والشرطة، ولا أن تتصاعد حدة الانتقادات الموجهة لأحكام القضاء بشكل لم يكن معهوداً من قبل في حدته ولا سخريته، ولا أن ترتفع نبرة الانتقادات الساخرة من امتيازات وأوضاع المؤسسة العسكرية لدى الأجيال الشابة، بشكل لم تعهده الأجيال السابقة، بما فيها جيلي الذي تربى لسنوات على احترام تضحيات مقاتلي أكتوبر، حتى وإن كان بينه من يرفض الطريقة التي تم بها التعامل مع نتائج العبور السياسية والعسكرية.

وبقدر ما يمكن أن يتم اعتبار هذا تطوراً في وعي الأجيال الشابة، في مناطق مهمة ظلت عصية على التطور لدى أجيال كثيرة، فإن الحكم على ما سيحدثه هذا التطور من آثار اجتماعية يظل مبكراً، خاصة أن التجارب السورية والليبية واليمنية والعراقية التي لا يكف السيسي عن استدعائها، علمتنا أن التطور لا يسير دائماً في اتجاه خطّي صاعد أو متقدم، بل تحدث عنه ارتدادات عكسية دموية، لأن من يستهدفهم التطور لا يستسلمون للفرجة عليه، بل يهبون للدفاع عن مصالحهم بقوة، وحين تتعقد الأمور، وتتطلب المواجهة أثماناً أكثر فداحة، لن تدور بين الراغبين في التغيير والراغبين في بقاء مصالحهم، حوارات ودية ضاحكة، كالتي دارت بيني وبين ابن العائلة المتنفذة، ولن يكون مجدياً وقتها ولا بعدها أن ينشغل المتصارعون بتحديد من تسبب في انفجار الأوضاع: الذين قاموا بتحويل مؤسسات الدولة إلى عصابات من الأرزقية التي تحارب من أجل مصالحها، أم الذين أصروا على حقهم في الحياة في دولة بجد، وليس في "شبه دولة"، لأن إصرار أصحاب النفوذ على تجريم العقلانية ومحاصرتها بل وقتلها، يحرم الجميع من مميزات اللجوء إليها في لحظات الانفجار، التي لن تكون في اعتقادي لحظات شبيهة بأي لحظات انفجار أخرى وقعت في المنطقة، بل سيظل لها دائماً لمستها المصرية الهزلية والمريرة، تلك اللمسة الخالدة التي جعلت مصر بلداً "لا يُشفى ولا يموت".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.