مسابقة في البؤس العابر!

مسابقة في البؤس العابر!

12 مارس 2019
+ الخط -
ذات ليلة شتائية تافهة بعيدة، دخلت مع أصدقاء عاطلين عن الأمل، مسابقة عن أكثر التجارب البائسة التي خاضها أحدنا، أعني التجارب البائسة الشخصية وبالتحديد العابرة، لا تجارب البؤس العام، كتجربة الانتماء إلى بلد بائس، فهي تجربة قدرية أدخلتنا فيها يد الله، ولا تجارب البؤس الشخصي الطويلة كالزيجات الغلط والأمراض العضال عافانا الله وإياكم من هذا وذاك.

في تلك الليلة البعيدة، كسبت تلك المسابقة عن جدارة، لأن التجربة البائسة التي شاركت بها في المنافسة، كانت أنني في عام 1999، وفي يوم من أيام البطالة النجسة، ذهبت كالعادة إلى نادي فيديو في المنيرة، كان يديره أو "يقف فيه" صديق متعاطف مع بؤسي، وكان يتيح لي فرصة مشاهدة الأفلام بتخفيض رهيب لو علمه صاحب المحل لقطم رقبته، كنا قد اتفقنا من قبل على أن أذهب إليه في ساعات النهار الميتة من أيام منتصف الأسبوع، التي لا يأتي لتأجير الأفلام فيها أناس محترمون لديهم حياة وأحلام وطموحات، فأختار ما أرغب فيه من أفلام وأسارع بمشاهدتها وإعادتها، قبل أن يأتي زبائن المساء المحترمون، ولأني لم أجد أياً من الأفلام التي كنت أرغب في مشاهدتها متاحاً، اضطررت لاستعارة شريط فيديو يعرض وقائع حفل زفاف رانيا فريد شوقي، التي كانت وقتها في بداياتها الفنية..

كان واضحاً من الإعلانات الموجودة بداخل شريط الفيديو أنه موجه أساساً لأسواق الفيديو في الخليج، بالمناسبة كانت مدته ثلاثة ساعات كاملة، شاهدتها كلها دون أن أقوم بتجرية الشريط ولو للحظة، ليس لأني من هواة تعذيب الذات إلى هذا الحد، بل لأن بطاريات الريموت كونترول أو "حجارته" كما نفضل تسميتها، كانت قد استنفدت قابليتها للعضعضة ولا مؤاخذة، وحوّلت الريموت إلى قطعة جماد لا لزوم لها، ولأن تلك الساعات القاتلة كان من الضروري أن تعبر بأي شيء يمكن له أن "يدوش الطاسة" بأقل خسائر ممكنة، فقد شاهدت شريط الزفاف بأكمله، وهو ما لا أظن أن المرحوم فريد شوقي نفسه قد فعله.

ما أذكره الآن أن ذلك الفرح كان أول زفاف لرانيا من نجل المذيعة السابقة أحلام شلبي، شقيقة المذيعة اللاحقة بوسي شلبي، وما أذكره أن الزواج نفسه للأسف استمر مدة أقصر من مدة تداول زبائن نوادي الفيديو لشريط الفرح، وحين وقع تحت يدي قبل كذا سنة وأنا أتجول في دهاليز (اليوتيوب) -شايفك ياللي داخل بتعمل سيرش عليه حالاً- لم أتحمل الفرجة على فعاليات الزفاف لأكثر من دقائق، بسبب جعير سمير صبري الذي ظل لفترة متخصصاً في إحياء الأفراح وإماتة المعازيم، وتعجبت كيف تمكنت بقوة البطالة القهرية من تحمل غنائه لمدة ساعة ونصف، وربما لذلك قررت أن أعيد تنظيم مسابقة البؤس الشخصي العابر ثانية، لأسأل أصدقائي على فيسبوك عن أكثر تجربة بائسة عابرة وشخصية مروا بها، لعلي أكسب المنافسة من جديد، وإليكم بعض ما سمح الأصدقاء المشاركون بنشره من إنجازاتهم في البؤس الشخصي:


الصديق طلال فيصل افتتح المشاركة بقوله: "شُفت الأجزاء الخمسة من مسلسل القضاء في الإسلام ورا بعض"، وهو ما كان يؤهله للمنافسة بقوة، لولا أني كنت قد سبقته إلى مشاهدة سبع أجزاء من المسلسل الذي كتبت عنه قبل ذلك، مقالاً ساخراً بعنوان (مسلسل القضاء على الإسلام الجزء السادس)، وجلب لي المقال ردود أفعال لا علاقة لها بالسخرية ولا بالبهجة ولا بالإسلام.

الصديقة بسمة الحسيني شاركت قائلة: "قعدت في اجتماع مع عمرو موسى لمدة ساعتين ونص"، فقلت لها إنها لو كانت قد قالت أن الاجتماع كان مع عصمت عبد المجيد أو أحمد أبو الغيط لكسبت فورا، لأن الفرجة على عمرو موسى مسلية جداً في رأيي.

الصديق أحمد ندا نافس بقوة على الجائزة بتجربة تلمذته أثناء إقامته في السعودية على يد الشيخ ابن عثيمين، وكذلك الصديقة دينا سمك التي شاركت في مسابقة البؤس بتجربة فرجتها اليومية على أماني الخياط لمدة أسبوع.

الصديق محمد الدخاخني شارك بتجربتين الأولى أنه التزم منذ سنة أولى ابتدائي وحتى سنة ثالثة ثانوي بتقليد منح مدرساته هدية في عيد الأم، والثانية تجربة قراءته لديوان شعر من كتابة ورسومات الممثلة رغدة صديقة السفاحين، وطبعا التجربة الثانية أهلته للمنافسة بقوة.

الصديق محمد الحاج شارك في مسابقة البؤس بتجربة قراءته لمجموعة (الأرض الأرض القرية القرية وانتحار رائد الفضاء" للأديب معمر القذافي. الصديق محمد ربيع شارك بتجربة مشاهدته لفيلم (الكافير) بطولة طارق علام، ليتنافس على نفس الفئة مع الصديق نائل الطوخي الذي دخل نفس الفيلم بغرض تعلم بعض الكلمات العبرية. الصديق سامح سمير شارك بتجربة مشاهدته لفيلم (راندفو) بل واعترف أنه انبسط في الفيلم أيضا، وهي تجربة قد لا تكون بائسة لهواة نوع سمية الخشاب. الصديق عبده البرماوي شارك بتجربة حضور أمسية شعرية للشاعر محمد التهامي وهو شاعر من قدماء المصريين لا تعرفه الأجيال الحالية بنت المحظوظة.

صديقة لن أذكر اسمها شاركت بتجربة العمل في برنامج لمعتز الدمرداش ثلاث مرات أسبوعياً لمدة ثمانية شهور، وهي تجربة لا شك أنها شديدة القسوة، لكن ارتباطها بأغراض أكل العيش ينزع عنها صفة البؤس.

الصديقة منصورة عز الدين شاركت بتجربة أدبية مريرة قائلة: "وأنا في أولى إعدادي بكيت تأثراً في طابور الصباح لما مدرس اللغة العربية قرأ قصيدة لفاروق جويدة يهجو فيها سلمان رشدي عشان كتب رواية آيات شيطانية".


الصديق مصطفى موسى شارك بتجربة مواظبته على حضور دروس الشيخ فوزي السعيد في مسجد التوحيد بغمرة.
الصديق محمد الشماع شارك بتجربة حضور أمسية شعرية لفاطمة ناعوت.

الصديقة آلاء سنان شاركت بتجربة مشاهدتها على الحلقة الأخيرة من مسلسل (ذئاب الجبل) ثلاث مرات متتالية وهي تبكي من فرط التأثر والعشق لأحمد عبد العزيز، "مع إنه يتحب والله كممثل".

الصديق حسام بهجت شارك بتجربة قراءته لأحط أنواع مقالات الرأي لأحط ما أنجبت أرض مصر من كتاب، لن أفسد عليك القراءة بذكر أسمائهم، فلست من هواة تعذيب الذات مثل حسام.

الصديقة سلمى صلاح شاركت بتجربة مشاهدة مسلسل (الحقيقة والسراب) عشر مرات.
الصديق أحمد عبد الفتاح شارك بتجربة شديدة البؤس وهي أنه ظل عضواً في جماعة الإخوان حتى سنة 2010.
الصديق محمد يحيى شارك بتجربة مشاهدته لفيلم (طعمية بالشطة) في السينما.
الصديقة سارة شوقي شاركت بتجربة مشاهدتها وهي طفلة لمسلسل (القط الأسود).

الصديق هشام فهمي شارك بهذه التجربة: "كنت شغال في سايبر نت في 2003 والإنترنت قعدت مقطوعة كذا يوم، والأجهزة ما عليهاش أي ألعاب ولا أي حاجة غير فيلم باد بويز فكنت باشوفه كل يوم".

الصديق محمد حنفي الكاشف شارك بتجربة إدمانه الدمنة كل يوم لمدة سبع سنوات متتالية، وقد احترمت تجربته ولم أهاجمه على الملأ لأنه يعتبر لعب الدمنة كل يوم بؤساً، فقط لأنني لم أنجح في الوصول إلى رقم سبع سنوات متتالية، فقد ظللت ألعب الدمنة كل يوم لمدة ثلاث سنوات فقط.

الصديق وليد طاهر كتب عن واحدة من التجارب البائسة التي عاشها ما يلي: "مرة في الكلية سنة 1990 رحت مع تلاته أصحابي دير سانت كاترين، كان المفروض نبات في كامب سياحي تعيس عبارة عن أكواخ حجرية ونصحى بدري نطلع الجبل ونزور الدير، جالي صداع جامد وما طلعتش معاهم الجبل، نمت وصحيت على تسعة بالليل لوحدي في الكامب الحجري الكئيب، فجأة سمعت صوت أغنية لأنوشكا بتقول: كفك على كفي هتقضي وتكفي، خرجت أشوف صوت الأغنية جاي منين، لقيت مطبخ بلمبة نيون وواحد بس قاعد في المطبخ معاه كاسيت وصوت أنوشكا طالع منه، قلت له مستغرب: انت بتسمع أنوشكا؟، فرد علي بهدوء: أعمل إيه ماهو ما فيش هنا إلا الأغاني الأجنبي دي"، وقبل أن تحكم لجنة التحكيم في تجربة وليد وما إذا كانت عبثية أم بائسة، شارك بتجربة أخرى كادت تحسم المنافسة وتجلب له لقب صاحب التجربة الأشد بؤسا، والتي كتب عنها قائلا: "مرة قعدت أتفرج على عقرب الساعات ساعة كاملة من غير ما أدور وشي عشان أشوف النقلة بتحصل إمتى".

لكن حسم المنافسة تأخر بعد تعليق من الصديق كريم مدحت عنارة رأى فيه أنه لم يكن في التجارب البائسة التي شارك بها الأصدقاء، تجربة أكثر بؤساً من تجربتي، لأن تجاربهم قد تستوجب التعاطف الإنساني، على عكس تجربتي التي لا يصح التعاطف معها بالمرة، وبالتالي كنت على وشك أن أكسب المسابقة من جديد، إلى أن طارت مني الفرصة، بعد أن شارك الصديق شريف نجيب بتجربة مدهشة كتب عنها هذه السطور: "في أوائل التسعينات، نشأت صداقة بين عائلة أمي والمطرب الصاعد آنذاك علاء سلام. لعلك تذكره من فيلم "يا تحب يا تقب" بأغنية "اليوم ده حلو مايتعوضش". كانت أمي صديقة لزوجته، وكنا نحضر حفلات علاء سلام مع أقارب أمي وخالاتي، وأذكر أنني صعدت على مسرح النادي الأهلي وألبسته إكليلاً من الزهور في إحدى الحفلات، وغنى علاء بعدها بعام في افتتاح مطعم أبي. ويبدو أن العلاقة قد توطدت لدرجة أن أحد أفراد عائلتنا، ربما طنط إحسان، قد اقترحت أن نعمل له "عمل سحري" يساهم في اختصار خطوات نجاحه. لم نذهب لدجال، وإنما استقربنا، وربما استرخصنا، وذهبنا لعطار مسيحي كان قدام بيتنا في شارع محمد فريد في عابدين، كان اسمه "الصول" وكنت باشتري منه بودرة عفريت أفشخ بيها العيال في المدرسة. فاكر يومها الصول وهو بيكتب حروف شبه الياباني بقلم أحمر تخين على ورق أبيض، وكانت النصيحة: تحطوا الورقة دي جوة رغيف، وتلفوه بقماشة بيضا، وتدفنوه تحت شجرة. في منزل علاء سلام بحثنا عن قماشة بيضاء ولم نجد، فاقترح علاء أن نستخدم "كلوتّ من كلوتاته"، بحكم أن الكلوت هو في نهاية الأمر قماشة بيضاء.كُنت أنا المسؤول عن الحدث الجلل. ركنت سيارتنا الـ 128 الحمراء على كورنيش المعادي، ونزلت من السيارة ورحت ناحية الشجر المصفوف على الكورنيش، اخترت أقرب شجرة وبدأت أنبش في الرمل، ودفنت بيديّ كلوت علاء سلام، الذي يحتوي الرغيف، الذي يحتوي وريقات الصول العطار.أما عن تأثير العمَل السحري على علاء سلام، فأظن أنه واضح الآن. لكن ما يشغل بالي حقاً، هو ماذا حدث للكلوتّ؟ هل تحلل؟ هل نبشه كلب؟ هل اقتلع الحيّ تلك الشجرة؟ كلها أسئلة ربما أعرف إجابتها في حياة أخرى".

شريف نجيب يكسب طبعاً.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.