ما بعد سقوط الكومبين (10)

ما بعد سقوط الكومبين (10)

26 ديسمبر 2019
+ الخط -
لم تكن المرة الأولى التي يحدث لي فيها ذلك، ولم تكن الأخيرة أيضاً، يعني، حين تأقلمت على عيشة السطوح، وأصبحت أراها أهون من مصائب أكبر بكثير، يجب أن أكون شاكراً لأنني لست من المُبتلين بها، ظهر محمود الصعيدي فجأة لينتشلني من السطوح، ويعيدني أنا ومؤمن إلى شقتنا السليبة.

فتحت باب غرفتي ذات صباح من صباحات فبراير، لأذهب إلى الكلية فوجدته أمامي، كان يجلس على الكرسي الذي اعتاد عبد الحميد أن يتشمس عليه، فزّ من على الكرسي فور أن رآني واقترب رامياً تحية الصباح بهدوء، وحين رددت بفتور، أطلق ضحكة عصبية وقال إنه لم يعرف إذا كان لدي محاضرة مبكرة أم لا، ولذلك فضل انتظاري على إزعاجي بطرق الباب، مع أنه تخيل أن الخبر الجميل الذي يحمله لي، ربما يجعلني أتسامح مع أي إزعاج.

حين لاحظ محمود استمرار وجهي في التكشير، قرر أن يترك مهمة فك تكشيرتي، لخبر رجوع الشقة إلينا بعد ثلاثة أيام، طبقاً للتعهد الذي أدلى به حضرة الضابط لوالد محمود بالأمس، لكنني أكدت لمحمود صعوبة فك تكشيرتي، حين قلت مسفهاً من حماسه، إن غيابه الطويل دون سلام ولا كلام، ربما أنساه أنني اعتدت من كمال باشا على المماطلة والخداع، ولذلك قررت التصالح مع نصيبي، ولم أعد أتوقع العودة إلى الشقة، بل أنتظر قدوم الصيف لمغادرة عمارة الحاجّة أم عادل، والبحث عن شقة أنظف وأقرب إلى الجامعة. كان يمكن لمحمود أن يقابل الفظاظة التي تحدثت بها بالتجاهل التام، فقد كان لا يزال أكثر تهذيباً من أن يقابل فظاظتي بشخرة غاضبة، لكنه اختار بدلاً من ذلك أن يضحك ضحكة عريضة استفزتني، وقبل أن أعلق عليها، تقدم نحوي وطبطب على كتفي وقال: " يا أخي والله العظيم وحشتني جداً.. طبعاً ليك حق تزعل مني، بس لو عرفت اللي حصل لي هتعذرني".


على ترابيزة في قهوة (الأهلي والزمالك) التي استغرب محمود أنني صرت من زبائنها المميزين، وبصحبة كوبين من الشاي بالحليب وبعض البقسماط بالسمسم والجبنة "الدوبل كريم" التي كان قد اشتراها لي قبل أن يأتي، لأنه يعرف ضعفي تجاهها، وكان قد عرض علي أن نأكلها سوياً في شقته، لكنني حلفت بالله العظيم ثلاثة أنني لن أعتّب شقته، إلا بعد أن أفهم لماذا صار من حقي الآن أن أدخلها دون قلق، ولذلك ضحيت بحضور أول محاضرتين، وجلست أستمع من محمود إلى سر غيابه المفاجئ هو ورانيا، بعد تلك الليلة التي عاملنا أبوه فيها أوسخ معاملة.

ما عرفته أن الموقف تطور أكثر بعد رحيلي المهين، حيث داس أبو محمود فجأة على قطعة حادة من بقايا كوب الشاي الزجاجي الذي رماه محمود على الحائط، كان أبوه قد طلب من رانيا أن تقوم بتنظيف المكان سريعاً، ولكي تتقي شره فعلت ذلك في صمت على غير عادتها، لكنها فعلته من غير تركيز كعادتها، فلم تنتبه إلى القطعة الزجاجية التي توارت في طرف سجادة الصالة، ليدوس عليها الأب بعد خروجه من الحمام، وبعد أن سب ولعن وتلوى من الألم والغيظ، وأوقف نزيف الدم من باطن رجله، وأغرقها بالمطهر، ولفها بقطن وشاش وبلاستر، توجه وهو يعرج نحو حزام بنطلونه الذي كان قد خلعه للتو، واستلّه وهو يسب ويلعن خلفة الندامة التي أنجبها، ثم عاد نحو رانيا وهو يلف طرف الحزام حول يده، ليساعده في إحكام الضرب، لكنه حين وقف أمامها ورآها تقف متجمدة مبهورة الأنفاس، قرر فجأة أن يتمسك بأخلاق القرية، وعدل عن فكرة ضربها، لكنه بدلاً من العودة إلى غرفته، أخذ يعرج ويغمغم، حتى وصل إلى محمود اللابد في ركنه المفضل بغرفته، وأخذ ينهال بالضرب عليه.

لم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرض فيها محمود للضرب من أبيه، مع أنه لم يكن يضربه كثيراً، كما يفعل آباء آخرون في العمارة بأبنائهم، لكنها كانت المرة الأولى التي يضربه فيها أمام رانيا، وقد كان له في ذلك فلسفة ريفية ترى أن ضرب الأخ أمام أخته سيجرؤها عليه في المستقبل، وهو الذي يفترض أن يكون رجل البيت في حالة غياب أبيه، لذلك كان الأستاذ عبد الحكيم يحرص على إغلاق باب الغرفة قبل أن ينهال على محمود بطرف الحزام الجلدي، أو بتوكته إن اشتد غضبه، أو يوجه له صفعات متتالية على خديه، أو شلوتاً أو اثنين على مؤخرته، وكان محمود قد تعود على أن غضب أبيه عابر مهما اشتد، ولذلك كان يجاهد نفسه على تحمله، خصوصاً بعد أن أدرك بالتجربة أن غضب الولد حين تعرضه للضرب من أبيه، قد يضاعف غضب الأب ويؤجج رغبته في البطش، وأن من مصلحة الإبن أن يلعب دور الفريسة المغلوبة على أمرها، فيستكين لقدره حتى تنتهي نوبة الغضب في أسرع وقت ممكن.

لم يحسب الأب حساب رانيا التي لم تستوعب طقس الضرب الذي رأته لأول مرة، بعد أن كانت تسمع منه قبل ذلك طراطيش أصوات، لم تجعله يبدو لها وحشياً كما رأته بعينيها، ولذلك انقضت على ظهر أبيها تحاول إبعاده عن أخيها الذي استسلم لقضائه، فزاد ذلك من غضب الأب الذي رمى بها بعيداً بكل قوته، فاصطدم وجهها بحافة الدولاب، لتسقط مغشياً عليها والدماء تنزف من أنفها، الذي كان قد تعرض في طفولتها المبكرة لتشويه نتج عن كعبلة أفضت إلى سقوط على درجات السلم، ومع أن أثر الكعبلة لم يكن مشوهاً لأنفها إلى درجة كبيرة، لكنه ضاعف من مشاكلها مع وجهها حاد الملامح الذي ورثته عن أبيها، وتحول إلى مادة دائمة لشكواها المغلفة بسخرية مريرة، وكان من أول ما فعلته حين فتح الله عليها، أن قامت بعملية تجميل أصلحت مشكلة أنفها، لكنها زادت وجهها حدة، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد خمسة عشر عاماً من تلك الليلة.

أفاقت رانيا سريعاً من إغماءتها، لتجد أباها جاثياً إلى جوارها وهو يلطم على وجهه ورأسه في هستيريا، ومحمود يمسك بيدها وينظر إليها مرعوباً، وما إن رأى الأب أنها أفاقت، حتى انهال على رأسها ويديها مقبلاً، وحين رآها تنظر إليه بعينين ميتتين، حاول تقبيل قدميها وهو يطلب منها العفو والسماح، وحين حاولت أن تمنعه من ذلك، تحركت الضمادة المثبتة على أنفها، ومع أن ذلك كان أمراً طبيعياً، خاصة أن حالتها لم تكن خطيرة، فأغلب ما نزل من أنفها من دم، كان بفعل رعاف أسال الدم من داخله، وليس بفعل الخدش الطفيف الذي أصاب طرف أنفها، لكن تلك الحركة جعلت محمود يخرج عن صمته، ويصرخ هادراً في الأب: "كفاية بقى.. سيبها بقى"، مسدداً قبضته نحو أبيه في لحظة مواجهة نادرة، قبل أن ينحرف بها نحو الحائط بعزم ما فيه، ثم يصرخ من فرط الألم بعد ارتطامها بالحائط، ليقف الأب مذهولاً للحظات، رأى فيها ابنه وابنته يتبادلان الآلام ومحاولات تخفيفها، وقرر بعدها أن ينسحب إلى غرفته ويغلق الباب عليه، ويتركهما لما هما فيه.


حين صحا الأستاذ عبد الحكيم في الصباح الباكر، لم يجد محمود ولا رانيا، ولا أكبر حقيبتين جلديتين في البيت، ولا كثيراً من ملابسهما، ولا جميع كتبهما، ومع أنهما لم يتركا له ولو حتى قصاصة ورق تطمئنه عليهما، أو تخبره بمكانهما، إلا أنه لم يقلق كثيراً عليهما، فقد توقع ذهابهما إلى خالتهما، التي تعودت رانيا على أن تذهب إليها كل أسبوع، لكنه لم يعلم أنهما استبعدا هذه المرة الذهاب إليها، لقرب منزلها من شارع المحطة، فقد كانت تسكن جوار الساحة الشعبية في شارع الصناديلي، وقررا أن يذهبا إلى خالتهما الأخرى التي تسكن في حلوان، ليكونا أبعد ما يكون عنه، فقط ليصعبا عليه مهمة المجيئ لاسترضائهما وطلب عودتهما إلى البيت، مثلما فعل قبل ذلك، حين قررا أن يتركا له البيت، بعد أن عرفا بخبر زواجه السريع بعد رحيل أمهما، لكن الأستاذ عبد الحكيم كان قد قرر ألا يذهب هذه المرة إلى أي خالة أياً كان مقر إقامتها، فقد أخذها مسألة كرامة، ليس بسبب رجله التي جرحها إهمال رانيا، ولكن بسبب قبضة محمود التي أُشهرِت في وجهه لأول مرة، ولذلك قرر ألا يسأل فيهما، ويرميهما رمية الكلاب، مراهناً على أن اقتراب أول الشهر سيعيدهما أو سيعيد أحدهما على الأقل إلى البيت طلباً لمصاريف الشهر والدروس والكلية والمواصلات.

ولأن رانيا كانت أذكى من أخيها البرئ، ولن أقول أخبث ـ مؤقتاً ـ فقد قررت أن لا تغير ملابسها في الصباح، بل احتفظت بما كان عليها من أثر الدماء، وارتدت جاكيتاً طويلاً فوقها، ولم تقم بنزع الضمادة عن أنفها، برغم تفاهة ما تخفيه من خدش، وكان منظرها كافياً لإقناع خالتها دون كلام كثير، بضرورة الابتعاد لفترة عن أبيهما اللعين، لعله حين يفضى عليه البيت طويلاً، يعود إليه عقله، ويحفى من أجل أن تعيد إليه "ولاد الغالية" التي لم يكن يستاهل ظفرها، "لولاش النصيب الاسود والبخت المايل".

لم تتوقع الخالية ولا ولاد الغالية أن الأب سيرمي طوبة محمود ورانيا، ولن يسأل فيهما أسبوعاً وراء أسبوع، وهو ما جعل الخالة تستنتج أن قلبه قسا على ولديه، لأنه صار معلقاً بابنته حديثة الولادة، فالغربال الجديد له شدّة، والبعيد عن العين بعيد عن القلب، ولولا أنها كانت سيدة طيبة وخيرة، لما ترددت في أن تدعو عليه في ساعات الفجر والمغارب، أن يحرق الله قلبه القاسي على ابنته، لكنها استبدلت ذلك بالدعاء له بالهداية، والدعاء على زوجته الجديدة بأن يبتليها الله بمرض عضال، يجعلها لا على حامي ولا على بارد، شريطة ألا يعجل لها منه بالراحة، كما عجّل لسلفتها الغلبانة، لعلها تدرك خطورة أن تقوم بتقسية قلب أب على عياله.

ستتذكر الخالة تلك الدعوات الغاضبة فيما بعد بخجل، وستستغفر الله عنها مراراً، وستحكي قصتها كعبرة لكل من تعرفهم، ليتعلموا خطورة الأحكام العمياني التي تجعل الإنسان ينسى أن "صوابعه مش زي بعضها"، وأن الخير يمكن أن يفاجئك مثل الشر تماماً، فزوجة الأب التي ظنها الجميع سبب قسوة الأب على ولديه، كانت في الحقيقة أحن عليهما منه، ولو كانت قد عرفت بما جرى وقت حدوثه لبادرت إلى التدخل، لكنها ظلت لأسابيع جاهلة بما فعله زوجها بمحمود ورانيا، ولأن الأستاذ عبد الحكيم كان يتوقع أن ما فعله لن يعجبها، فقد أخفاه عنها تماماً، وظل كعادته يبيت أربعة أيام من كل أسبوع لديها في شبرا الخيمة، بصحبة طفلته الجديدة المدللة، ثم يعود إلى الجيزة ليبيت بقية أيام الأسبوع بصحبة ولديه.

حين كانت زوجته تتصل به كل ليلة وتسأله عنهما، وتطلب منه أن يعطيهما السماعة كالعادة، لتسلم عليهما وتطمئن على أحوالهما، وهو ما كانت تحرص عليه، حتى وإن ردا عليها من طرف لسانيهما، لكنه كان يعتذر لها عن ذلك ويتحجج لها كل مرة بحجة، مرة بأن محمود سهران مع أصحابه، ومرة بأن رانيا لديها درس ستتأخر فيه، ومرة بأنهما يبيتان عند خالتهما، وحين تكررت أعذاره، زادت شكوك زوجته فيه، خاصة مع ما كانت تعلمه من زوغان عينيه على الحريم، فقررت أن تخبط مشواراً مفاجئاً من شبرا الخيمة إلى الجيزة، لتطمئن على إخلاصه أولاً، ولتفهم ثانياً لماذا عاد ولداه لمجافاتها، بعد أن كانا قد استقرا على علاقة ودودة، صحيح أنها كانت غير دافئة، لكنها كانت كافية لتسير الحياة دون مشاكل وأزمات.

رتبت زوجة الأب لزيارتها المباغتة بعناية، وظلت مع زوجها على الهاتف، حتى قال لها إنه سيدخل لكي ينام، وأنه لن ينتظر عودة محمود من الخارج، ولا خروج رانيا من الحمام لكي تحدثها، وما إن أغلقت السماعة، حتى أخذت بعضها وأودعت طفلتهما لدى أختها، ونزلت إلى التاكسي، الذي كان ينتظر فيه اثنان من أخوتها الغلاظ الشداد، المستعدين لطربقة شقة الصهر على رأسه، إن لمسا أي أثر للخيانة فيها، ولأنها اختارت أن يكون موعد المداهمة في ليلة الجمعة، التي تلعن شوارع القاهرة والجيزة فيها اليوم الذي رُصِفت فيه من فرط الزحام والدوشة، فقد وصل الجمع المداهم إلى شقة الجيزة قرب منتصف الليل، بدلاً من العاشرة مساءً كما كان يفترض، لكنها قالت لهما إن ذلك سيصعب من مهمة أي أكاذيب يمكن أن يطلقها "آخرة صبرها" لو ضبطته متلبساً بالخيانة، أما إذا اتضح أنها أساءت به الظن، ووجدته في الشقة مع ولديه، ستكون تلك فرصة سانحة لعقد جلسة مواجهة بين الجميع، خاصة أنه لا يسمح لولديه بالتأخير خارج البيت بعد الحادية عشرة مساء، وحين فتحت باب الشقة ودخلت وجدتها مطفأة الأنوار، وهادئة إلا من صوت شخيره المنتظم، الذي انقطع حين وجدها واقفة فوق رأسه، في حين تحرج أخواها من الدخول معها، وفضلا انتظاره في الصالة، لتكون رؤيته لهما مفاجأة إضافية، لم تدع له أي فرصة للكذب أو اللوع، فاعترف لزوار منتصف الليل بكل شيء.

بدت السعادة جلية على وجه محمود، وهو يروي لي كيف قلبت أبلة عزيزة الدنيا، بعد ما سمعته من زوجها، كانت أول مرة أسمعه يستبدل فيها لقب "مراة أبويا" بلقب "أبلة عزيزة" الذي لم يمض وقت طويل حتى تحول إلى "ماما عزيزة"، صحيح أن محمود لم يكن يذكرها بالسوء من قبل مثلما كانت تفعل رانيا التي كانت تسخر من كونها بدينة وسمراء. في الليلة التي جمعتنا سوياً قبل أن يجري ما جرى، قالت لي إن أباها على ما يبدو خاف أن يتزوج امرأة بيضاء ورشيقة مثل أمها، فيخطفها منه الموت مجدداً، ولذلك قرر أن يذهب إلى أبعد اختيار ممكن عن عزرائيل، لكن محمود نهرها بقوة حين سمعها تقول ذلك، بل وأحرجها حين ذكّرها بأنها ليست "فرجينيا جميلة الجميلات" لكي تسخر من غيرها، وأنها ليست مطالبة بأن تحب زوجة أبيها، لكنها مطالبة بأن تحترمها، وأن تحترم نفسها قبل ذلك، فلا تقول كلاماً منحطاً كالذي قالته.

كان موقف محمود ذلك من أسباب انبهاري بأخلاقه، وشعوري أنه أكبر بكثير من سنه، لكن موقفه الرافض للإساءة إلى زوجة أبيه، لم يمنعه من مصارحتي بأنه لم يستطع أن يغفر لأبيه قراره بالزواج عقب فترة وجيزة من موت أمه، وأن غضبه منه زاد بعد أن تمادى في رعونته، فلم يكتف بالزواج، بل قام بالإنجاب، برغم تجاوزه الخمسين من عمره، وأنه حمد الله لأن زوجة أبيه لم تنجب ولداً، لكي يضطر إلى دخول الجيش بسببه، وهو موقف لم يفت على أبيه، الذي كان يكركع من الضحك، كلما هدد محمود بأنه إذا لم يسمع الكلام ويمشي على الصراط المستقيم الذي رسمه له، فسينجب بالعند فيه ولداً، ليخرج من الجامعة إلى الجيش، لعل الجيش يربيه، بعد أن فشل هو في تربيته.

كانت أبلة عزيزة قد تفهمت موقف محمود ورانيا السلبي منها، فحرصت على أن تترك مسافة بينها وبينهما، ولم تكن تلح على أبيهما في طلب إحضارهما معه إلى شبرا الخيمة، ولو من حين لآخر، ليريا أختهما ويلعبا معها، ولم تكرر تجربة غير سعيدة قضتها معهما في شقة الجيزة، حين سافر أبوهما إلى البلد، فظنت أن بقاءها هي وابنتها معهما، سيكون فرصة للتقريب بينهم بشكل طبيعي، لكنهما لطعاها في الصالة هي وطفلتهما، ودخلا إلى غرفتهما بحجة المذاكرة، فلم تكرر تلك التجربة بعد ذلك، وراهنت على أن تحقق لها الأيام ما تتمنى تحقيقه.

ربما لذلك رأت أبلة عزيزة في فعلة الأب فرصة سانحة للوقوف إلى جوار محمود ورانيا، والتأكيد لهما على أنها ستكون منحازة إليهما إن ظلمهما الأب، ولذلك لم تكتف بالإصرار على العودة إلى شبرا الخيمة مباشرة مع أخويها، بل وطلبت منه ألا ترى وجهه هناك، إلا حين يصالح عياله أولاً، وأقسمت أنها لن تسمح له بسماع صوتها، إلا حين تسمع أولاً صوت محمود ورانيا من تليفون شقتهما، وهما يقسمان لها أن أباهما لم يكتف بالاعتذار لهما عما فعله، بل وقام بتدليعهما آخر دلع، لينسيا إساءته إليهما، معتبرة أنها بذلك لا تقوم فقط بالانحياز إلى يتيمين لم يرتكبا جرماً يستحق كل ذلك الغضب المتخلف، بل تنحاز معهما إلى أختهما الصغيرة، التي سينتقم الله منها إن رضت لهما بالظلم، وربما أوقع ظلماً مماثلاً على ابنتها في قادم الأيام.

ومع أن الأب لم يستسلم لطلبات أبلة عزيزة، بل وقاومها كما هو المتوقع من دماغه، لكنه أمام شوقه إلى آخر العنقود، اضطر أن يرضخ لطلباتها، التي زاد عناده إليها طلباً جديداً، هو أن يعتذر لي أنا العبد الفقير المرمي في السطوح، لأن أبلة عزيزة رأت أن إساءته لي، هي في الحقيقة إساءة له ولابنه وابنته، ولذلك فإن اعتذاره لي سيعني تأكيداً منه لمحمود ورانيا بأنه مستعد للتغيير، وفتح صفحة جديدة معهما، وحين هاج الأب وماج ورغى وأزبد ثم نزل على ما فيش، ولكن بعد حين، أضافت أبلة عزيزة إلى شروطها شرطاً جديداً، هو أن يستغل الأب علاقاته بزملائه في وزارة الإسكان ومحافظة القاهرة، لحل مشكلة شقة أسرة الضابط في أسرع وقت، لنعود بعدها أنا ومؤمن إلى شقتنا السليبة، ويفتح الجميع صفحة جديدة، وهو ما لم أكن أعلم عن تفاصيله شيئاً، قبل أن أرى وجه محمود في ذلك الصباح اللطيف من صباحات فبراير.

.....

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله..
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.