هامش على عفن اللحظة الراهنة

هامش على عفن اللحظة الراهنة

17 نوفمبر 2019
+ الخط -
ما الذي يجب أن تفعله إن وقعت بين يديك فضيحة لعدوك أو خصمك السياسي؟ هل تشارك في نشرها أم تكتفي بإعلان شماتتك فيه؟ هل تستخدمها ضده انتقاماً من جرائمه التي سبق وأن ارتكبها في حقك وحق غيرك؟ هل تترفع عن ذلك كله وتكتفي بالصمت؟ أم تعلن رفضك لاستخدام حياته الشخصية سلاحاً ضده اتساقاً مع ما تدعو إليه من مبادئ وقيم؟ 

في رأيي المتواضع، الاختبار الحقيقي للمبادئ والقيم يكون في حالة اضطرارك للتعامل بها مع الخصم والعدو، لأن تعاملك بها حين يكون ذلك في مصلحتك أو مصلحة من ينتمي إلى نفس معسكرك السياسي أو الفكري هو أمر بديهي ومتوقع، ولذلك حين تتخلى عن مبادئك وقيمك، وتقوم بالتشفي والشماتة في خصمك أو عدوك أو تساهم في فضحه أو تشويهه بما يمس حياته الشخصية، فإن ذلك يعني أنك لست صاحب مبادئ أو قيم، وكل مشكلتك أنك لم تمتلك القوة التي أهّلت خصمك لضربك، وبالتالي فأنت في الحقيقة تشبهه في انحطاطه، وغاية ما هنالك أن الفرصة لم تُتح بعد لتكون في موقعه. 

بالطبع، النفس البشرية أمّارة بالسوء والشماتة والتشفي، وتعرض الإنسان للظلم لا يجعله بالضرورة أفضل، بل على العكس يخرج الظلم في الغالب أسوأ ما في الناس، وبشكل يفاجئهم أحياناً، حين يجدون أنفسهم قادرين على المشاركة في تشويه خصمهم بأسلوب يرفضونه على أنفسهم وعلى من يحبونه، وحين يقوم أحد بتذكيرهم بخطورة هذا التناقض، يتهمونه بالمثالية والبلاهة وعدم إدراك تعقيدات الحياة الدنيا، لأن الدنيا تعني الدناوة، والإنسان مخلوق من طين لازب، وعلى أدعياء المثالية أن يدركوا طينية بشريتهم ودناوة دنياهم، وما إلى ذلك من كلام يقوله الإنسان ليبرر اشتراكه في ارتكاب خطايا كان يستنكرها من الآخرين. 

بالنسبة لي التمسك بقيم مهمة مثل عدم الخوض في الأعراض وعدم التدخل في الحياة الشخصية وعدم إقحامها في الخلافات السياسية، هو اختيار ليس له علاقة بالمثالية ولا بوصفات كتب التنمية الذاتية ولا بأخلاق الفرسان والمشاة، بل هو اختيار عملي وواقعي، لأنك حين يكون كل ما تمتلكه من أسلحة هو رأيك وأفكارك ومبادئك، فلا تحظى بدعم أجهزة أمنية، ولا بمساندة جهات نافذة، ستبقى قوتك متمثلة في نزاهتك واحترامك لنفسك ومبادئك، وفي سعيك الدائم لأن تعيش في بلد محترم، يحاسب الناس على جرائمها بالقانون، وليس بالتشهير والتشفي، ولا يسمح بالخوض في أعراضهم أو التدخل في حياتهم الشخصية التي تخصهم وحدهم. 

لكن في الوقت نفسه ألسنا بحاجة لأن نشهد انتقاماً من خصومنا وأعدائنا، خصوصاً حين يكون لهم باع طويل في إيقاع الأذى بالأبرياء والمظلومين؟ هل يمكن أن يكره الإنسان الانتصارات الصغيرة على أعدائه؟ وما هو الضرر في تلقين الظالمين وأعوانهم درساً يذكرهم بما فعلوه بغيرهم حين خاضوا في أعراضهم وطعنوا في شرفهم ونزاهتهم؟ بالطبع لا أحد يكره أي انتصارات أياً كان حجمها، وبالطبع أنا مع الانتقام من الظلمة وأعوانهم، لكنني بمنتهى الواقعية أميل للانتقام الجماعي الذي يوقعه المجتمع من خلال عقاب هؤلاء على جرائمهم الحقيقية بشكل قانوني وعادل، لأن الانتقام الشخصي والبعيد عن القانون والذي يتبع أساليب منحطة ضرره أكبر من نفعه، ويأتي بردود أفعال سلبية تساعد على ترسيخ الظلم في المجتمع، فلا ينوب من شارك في الانتقام الشخصي والمنحط إلا خسارته لقوة مبادئه وإيمانه بالقانون، خصوصاً أن سلاح التشهير والخوض في الحياة الشخصية، يمكن أن يطول ببساطة أناساً تحبهم وتحترمهم، وساعتها لن يصدقك أحد حين تعترض على شيئ قبلته ووافقت عليه حين مس عدوك، ثم من قال أن التشهير الشخصي بفلان أو علان يمكن أن يمنع شره أو يكسر سمّه، وكيف يمكن أن نسمي التشهير واستخدام الحياة الشخصية انتصاراً، حين نعلم أنه قادم من جعبة جهاز أمني هنا أو هناك؟ وحين ندرك أن أي تسريب شخصي لا يخرج لوجه الحق والخير والعدالة، بل يخرج لتصفية الحسابات بين شركاء الجرائمة، ولذلك ففرحتنا بتلك التسريبات يعني أننا نشاركهم في تحقيق أهدافهم التي لن نكون سعداء بها إذا كنا نهدف إلى تغيير أحوالنا البائسة.

لكن أليس من السذاجة أن ننتظر عقاب الظالمين بالطريقة القانونية العادلة ونحن نعلم صعوبة تحقق ذلك إن لم يكن استحالته في ظل الواقع المزري لمجتمعاتنا؟ سؤال مهم ومشروع لكن محاولة الإجابة عليه تقودنا إلى سؤال أهم وأصعب: هل نحن نؤيد مبادئ وقيماً معينة ونرفض ممارسات وسياسات معينة، لأننا راغبون في رؤية ما نؤيده وهو ينتصر، ورؤية ما نرفضه وهو يندحر؟ هل هذا هو هدفنا المباشر والرئيسي؟ أم أننا ندافع عن تلك المبادئ والقيم بغض النظر عن نتيجة ذلك الدفاع، وهي نتيجة قد لا تتحقق ونحن أحياء، بالنسبة لي هذا هو السؤال الأهم الذي أقيس به الكثير من انحيازاتي، التي تبدو لغيري غير عملية وغير واقعية. 

لذلك بالتحديد لست أرى أي خير يرتجى من فكرة العقاب السريع وغير المنضبط، لأن التعلق بها هو الأساس لتبرير الإرهاب والعنف السياسي والاغتيالات، وكلها ممارسات ثبت أن نتائجها العملية مدمرة، مهما كان نبل من يمارسونها، ولذلك تخلى الكثيرون من المناضلين حول العالم عنها في العقود الأخيرة، ليس من باب المثالية البلهاء ولكن من باب إدراك خطورة ردود أفعال وآثار هذه الممارسات الباحثة عن نصر سريع بأي ثمن، وفي رأيي أن هذا ينطبق بنفس القدر على شرعنة البعض لسلاح ضرب المصداقية باستخدام الحياة الشخصية، وقبولهم به من باب "اللي تغلب به العب به"، وأظن آسفاً أن الواقع سيكشف لهم هشاشة هذا السلاح وقابليته للاستخدام ضدهم وضد ما يمثلونه. 

قد لا أملك تغيير آراء من يرى في ما أقوله مثالية وترفعاً على أي انتصارات مبهجة، لكنني أملك التمسك بتفضيل الانتصار في معركة حقيقية عادلة أعمل من أجلها ما استطعت، حتى لو لم أر نتائجها، وأنحاز لذلك ضد الانتصار اللحظي بشكل منحط سيقودنا إلى المزيد من الخسائر، ليس فقط لأنني لا أريد مثل نيتشه أن أتحول إلى وحش وأنا أحارب الوحوش، بل لأنني أستلهم مقولة زياد رحباني الجميلة وأنا أحاول تغيير بلادي، فأذكر نفسي بأنني إذا فشلت في ذلك التغيير، علي أن أحاول جاهداً إفشال مهمة الواقع السيئ في تغييري إلى الأسوأ، وذلك في حد ذاته نصر ثمين ومهم. 

لذلك ولذلك كله، سأخالف من يعتقدون أن نشر الوساخات مباح حين يُستهدف به الأوساخ، لأنني أرى أن المشاركة في نشر الوساخة ضد الأوساخ، ليس انتصاراً عليهم، ولكنه انتصار للوساخة وتكريس لفكرة أن البقاء للأقوى في الوساخة، وهو بشكل عملي سيجعل حجتك منعدمة التأثير، حين ترفض استخدام الوساخات ضدك في المستقبل، خاصة أنك لن تمتلك شطارة ومهارات الأجهزة الأمنية في توظيف الوساخة. 

والله أعلم. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.