ما بعد سقوط الكومبين (5)

ما بعد سقوط الكومبين (5)

14 نوفمبر 2019
+ الخط -
يعني، كنا على وشك أن تنظر إلينا الحاجّة أم عادل من فوق لتحت ونحن واقفان على عتبتها، وتقول لنا بأداء أفلام الأبيض والأسود: "القانون لا يحمي المغفلين يا حضرات"..

كان وقوفنا على عتبتها بدلاً من الجلوس في صالونها مبرراً، لأننا جئنا على غفلة وفي ساعة ليل، لكن نبرة الصوت الهازئة التي تحدثت بها إلينا لم تكن مبررة على الإطلاق، فالذي كان فينا يكفينا، بعد أن عرفنا أنها لم تطلب أصلاً من كمال باشا أن يجيئنا في أنصاص الليالي ليعرض علينا ترك الشقة لزوجته وأسرتها والصعود إلى السطوح، بل قالت له إنها لا يمكن أن تطلب منا طلباً كهذا إلا حين يكتمل تجهيز غرفة السطوح، وأن عليه أن يصبر حتى يكتمل بناء سقف الغرفة التي صُعقنا حين فوجئنا أنها لا تعلم أصلاً أن بها الآن سريرين مفروشين وكراسي وترابيزة، لأنها ليست عبيطة لكي تضع عفشاً في غرفة ليس لها سقف ولا شباك، وبالتالي فإن قيام حضرة الضابط بالمبادرة إلى فرش الغرفة في الساعات الأولى من الصباح التي كنت فيها في كليتي وكان مؤمن في مدرسته، يعني قطعاً أن إقامة أسرة زوجته في شقتنا لن تكون لمجرد أسبوع أو أسبوعين، وإلا لما كان قد قام بفرش الغرفة دون علم الحاجّة أم عادل التي أجهزت علينا بقولها إن هناك فارقاً بين الشهامة والعبط، وبما أننا لم نراع ذلك الفارق، فليس علينا أن نطلب من الآخرين "شيل خرانا"، وأن كل ما تستطيع أن تعدنا به الآن هو إيجاد حل مؤقت لمشكلة السقف المفتوح على البَهلي.

بالمناسبة اتضح أن غرفة السطوح تمتلك ماضياً أسود مما تخيلت، فقد تعرضت قبل شهرين لحريق بسبب غفلة ساكنيها عن "وابور جاز" كان لديهم، مما اضطر الحاجّة إلى طردهم من الغرفة، والقيام بهدم سقفها الخشبي المحترق، والبدء في توضيبها من جديد، ولأن موسم تسكين الطلبة كان قد فات بالفعل، فقد قررت أن "تمزمز" في توضيب الغرفة، وتنفق عليه من حاصل إيجارات شقق العمارة مع مطلع كل شهر، وبناءً عليه فليس علينا أن ننتظر استكمال سقف الغرفة قبل مطلع شهر نوفمبر الذي لم يبق عليه الكثير، لكنها رأفة بنا وتقديراً لجدعنتنا الغارقة في الهطل، ستكلف من يقوم صباح الغد باستكمال تركيب شباك الغرفة وتغطية سقفها بغطاء بلاستيكي ثقيل يتم تثبيته بالمسامير، لحل مشكلة تساقط نشارة الخشب على رؤوسنا، ولمساعدتنا على الإحساس بأننا لا نعيش في العراء.


هل كانت أم عادل تجهل حقاً ما قام به الضابط اللعين؟ هل يعقل أنها لم تشعر على الأقل بما شهده السلم الضيق من كركبة أثناء صعود ما اشتراه كمال باشا من أثاث؟ كيف يمكن أن نصدق ذلك وبلكونتها بمثابة مرصد مراقبة تتناوب عليها هي وعيالها ليراقبوا كل شاردة وواردة تجري في الشارع فضلاً عما يجري في بلكونات العمارة ومدخلها؟ طيب، ما الذي يجعلها تكذب علينا أصلاً وتدعي عدم معرفتها بما قام به كمال باشا؟ من كان سيلومها لو قالت إن ما جرى كان بعلمها وأن علينا أن نصبر طالما أننا ارتضينا أن نقف مع الأسرة المسكينة في نكبتها؟ لكن، لماذا نصحتنا إذن بألا ننزل إلى شقتنا التي سلبتها أسرة الضابط لنفش غلنا في حماته؟ خاصة أننا لم نكن سنفعل فعلاً يعاقب عليه القانون، فلسنا من الغباء بحيث نتجاوز حدودنا مع أسرة ضابط جيش، حتى لو كان ضابط احتياط، وكل ما هنالك أننا كنا سنسمع الأم وابنتيها كلمتين في جِنابهم ونطلب منهم ضرورة التنبيه على نسيبهم المنحط أن يوافينا في سطوحنا في الغد، لنتفق كتابة على توقيت محدد لإخلاء الشقة، خاصة أن حركة شرائه للعفش ووضعه الغرفة بهذه السرعة، لا تدعو للثقة في نواياه، طيب، من أين جاءتنا هذه الثقة في أنه يمكن أن يوقع على ورقة كهذه أو أنه سيحضر أصلاً؟ وما الذي يمنعه من الطرمخة والطناش خاصة وهو واثق من انعدام خياراتنا؟ هذا إذا صدقنا بالطبع أنه لا يقوم بالتربيط مع أم عادل التي ربما كان أول ما فعلته بعد انصرافنا مكبوسين، هو الاتصال به ليضحكا سوياً على خيبتنا الثقيلة.

كان يفترض أن أشترك في مناقشة هذه الأسئلة والهواجس مع مؤمن، بعد أن نعود سوياً إلى السطوح جارين أذيال خيبتنا خلفنا، أو حين نجلس ـ كما اقترح مؤمن ـ على قهوة (الأهلي والزمالك) القريبة منا، والتي كانت أفضل مهرب نلجأ إليه لمشاهدة مباريات الدوري أو لعب الدمنة، لكنني رفضت اقتراحه المتودد، وقلت وأنا أجز على أسناني إنني أفضل ألا أرى خلقته لبعض الوقت، لكي أتمكن من السيطرة على غضبي، فلا أقول كلاماً أسخف مما تفوهت به من قبل، كلاماً لن يساعدني حتى على فش غلي، ولن أستفيد منه سوى المزيد من مباعدة الشُقّة بيننا، لذلك عليه أن يذهب حيث ما يشاء ويتركني لحالي، على أن يتعهد بالمرور على الشقة في الصباح الباكر، ليطلب من حماة الضابط الوسخ إبلاغه بضرورة مقابلتنا مساء الغد في غرفة السطوح التي حلفت بالعظيم ثلاثة أنني لن أبيت فيها إلا حين يتم سقفها بذلك الغطاء البلاستيكي المؤقت، ثم تركت مؤمن على بسطة السلم المواجهة لشقتنا، ونزلت السلالم دون أن أجيب على سؤاله عن المكان الذي سأبيت فيه ليلتي، لأنني لم أكن أعرف إجابة على ذلك السؤال.

لم أكن أعرف أنني سأشارك ما لدي من أسئلة وهواجس عن دور الحاجة أم عادل فيما جرى لنا وحقيقة نوايا الضابط كمال، مع جار لم أكن أتوقع كرمه وحفاوته، ولم أكن أعرف أن تلك الليلة ستكون حجر الأساس في بناء صداقة مفاجئة بيننا، كنت أظنها ستطول كثيراً، أتحدث عن محمود الصعيدي الذي يسكن في الشقة المقابلة لشقتنا السليبة، والذي استمع بالصدفة إلى حواري الغاضب مع مؤمن.

كنت قد نزلت بعد انتهاء حوارنا مع أم عادل متوجهاً إلى شقتنا، والغضب يملؤني، متجاهلاً تحذير الحاجّة التي كنت واثقاً في تآمرها علينا، لكن مؤمن أمسك بي قبل أن أطرق على باب الشقة، وحذرني من عواقب ما أنتويه، مع أنني لم أكن أنوي أكثر من إبلاغ حماة الضابط بضرورة أن تخبره بالمجيئ إلينا، لأننا لبلاهتنا لا نعرف كيف نصل إليه، فهو لم يترك لنا عنواناً ولا رقم هاتف، وليس لدينا وسيلة للوصول إليه إلا عبر حماته.

تعهد مؤمن بأن يقوم بذلك في الصباح الباكر، حالفاً بالعظيم ثلاثة أنه مسئول عن إحضار الضابط إلينا للتفاهم معه بأي شكل، وحين تركته ونزلت لا ألوي على شيئ، وجدت محمود يقف في مدخل العمارة، يحمل في يد بعض أكياس البقالة، ويمد يده الأخرى مصافحاً وهو يعتذر لي لأنه اضطر للوقوف في المدخل، لكي لا يقطع حوارنا الغاضب، ثم دعاني بكل ما في الدنيا من ود للصعود معه إلى شقتي لنتعشى سوياً، فاعتذرت له بتأخر الوقت، لكنه قال إنه يبيت الليلة في الشقة وحيداً، لأن أخته عند خالتها، وأبوه عند زوجته، وهي معلومة لم أطلبها، لكنها فسرت لي لماذا لم أر والده إلا مرة أو مرتين منذ سكنت إلى جوارهما، ومع إلحاح محمود على الصعود معه إلى الشقة، بدا لي أن تحمل حرج قضاء أغلب ساعات الليل مع جار لم تتوثق علاقتي به، أهون من شحططة قضائها عبثاً على القهوة في انتظار الصباح، أو الاضطرار إلى كسر اليمين لكي أنام في الطلّ مكسواً بنشارة الخشب.

كانت شقة محمود أصغر مما تخيلت، غرفتان مثل شقتنا ولكن دون بلكونة، وبحجم متناهٍ في الصغر، لدرجة أنها أعادت الاعتبار لشقتنا السليبة، ولطرقتها الصغيرة التي بدت أوسع بكثير من "الزنقور" المواجه لباب الشقة، والذي احتلته كنبة تلعب دور الصالون وغرفة الجلوس والسفرة في نفس الوقت. بعد لحظات عرفت أن من أهم أسباب حفاوة محمود بي، أنني أذكره بحلم عزيز لم يتحقق، هو دخول كلية الإعلام، وأنه حين عرف بذلك من مؤمن الذي بادر كعادته للتعرف عليه، فكّر لأكثر من مرة أن يفتح معي كلاماً حين نلتقي على السلم، لكنه كان يراني ميالاً إلى الانعزال، بعكس مؤمن المقتحم الذي حكى له بدون مناسبة عن تفوقي في الكلية وأنني كنت الأول على دفعتي في السنة الماضية، صححت لمحمود المعلومة وقلت إنني كنت الثاني على الدفعة، وأن مسألة الترتيب ليس لها أهمية إلا في السنة الرابعة، ثم اعتذرت له عن ما سبق من قلة ذوقي، وميلي إلى وضع رأسي في الأرض كلما مررت إلى جوار أحد السكان، لأنني أعرف من تجربتي السابقة أن أغلب العائلات تشعر بالنفور من العزاب الذين يسكنون إلى جوارها، ويفضلون وضع حدود في التعامل معهم، لكن كل تأخيرة فيها خيرة، وسبحان من جمّعنا من غير ميعاد، وما إلى ذلك.


على مائدة العشاء العزّابي اللطيفة شاركت محمود في هواجسي وأسئلتي، وشاركني في حكايته التي جعلتني أخجل من نفسي لأنني أتصور أنني أعيش في مأساة إغريقية، بينما أنا أجلس بصحبة شاب كان ينتظره يا ولداه مستقبل دراسي باهر تنبأ به الجميع، لكن تصاريف القدر نقلته من مصاف المتفوقين إلى مصاف المتكحولين، وبدلاً من أن يلتحق مع مطلع هذا العام الدراسي بكلية الإعلام، اضطر للالتحاق يا دوبك بكلية الحقوق التي أهله مجموعه لدخولها بالعافية، بعد أن فقد والدته في العام الماضي بعد إصابتها بالمرض الخبيث، وبعد أشهر من رحيلها فوجئ هو وأخته التي كانت وقتها في الصف الثالث الإعدادي، بوالده يخبرهما أنه سيتزوج، لأنه لا يستطيع أن يعيش دون امرأة تراعيه وتشوف طلباته، ولذلك سيضطر إلى نقلهما للعيش في شقة صغيرة، لكنه في الوقت نفسه لن يدخل امرأة غريبة على شقة أمهما، بل سيبيعها وسيترك نصيبهما من بيعها وديعة لهما في البنك، ويستخدم نصيبه في تأثيث شقة تمتلكها زوجته في شبرا الخيمة، ليجد محمود نفسه مضطراً للعب دور الأب مع أخته الصغرى، التي تحولت فجأة إلى الأخت الوسطى، بعد أن أخبرهما الأب أنهما رزقا بأخت، مما جعلهما يتساءلان عما إذا كان قد تزوج في الأشهر الأخيرة من حياة أمهما التي كان مرضها صعباً للغاية، فلم تكن قادرة على أن تراعيه وتشوف طلباته.

لم أكن أتخيل أن محمود ذلك الشاب اللطيف البشوش، يحمل كل تلك الهموم على قلبه، فقلت محاولاً تخفيف نكد الحديث إنني حين كنت أراه يسير حاملاً كتب القانون ضخمة الحجم، أشبهه في سري بأحد الأطفال الذين يظهرون في برنامج (البرلمان الصغير)، لأنه كان مثل محمود أيضاً يرتدي نضّارة أكبر من سنه، وأنني توقعت أن يكون نظره قد راح بسبب اضطراره إلى قراءة تلك الكتب الضخمة، وما إن جئت بسيرة الكتب، حتى قال محمود إنه رآني يوم أن انتقلت إلى الشقة، وأنا أقوم بلملمة الكتب التي سقطت من كرتونة تفسخت من ثقل ما بها، فور أن أنزلتها من سقف التاكسي الذي حمل حاجياتي إلى العمارة، وإن عينه كانت ستطلع على الكتب التي كنت أقوم بجمعها من الأرض بحرص ولهفة من يجمع كنزاً ثميناً، وهو شعور يعرفه جيداً لأنه أيضاً من مدمني القراءة، ثم أشار إلى دولاب صغير كان ممتلئاً بالكتب، قال إنه ورث أغلبها من أمه التي كانت قارئة من الطراز الرفيع، وأنه أحب القراءة من محبته لصوتها الجميل وهي تقرأ له ولأخته قصص كامل كيلاني وعبد التواب يوسف ومحمود سالم قبل النوم، ثم نهض محمود مسرعاً ودخل إلى الحمام قبل أن ينفجر في البكاء أمامي، لأظل متسمراً من الحرج والخجل، وأنا أجلس في الطرقة الضيقة مستمعاً إلى صوت نشيجه الذي حاول أن يخفيه بفتح الحنفية على آخرها، لكن ضيق الشقة لم يكن ليخفيه عن مسامعي.

ونحن نشرب دوراً جديداً من الشاي، هرب محمود من أحزانه بإعادتي إلى مناقشة هواجسي وأسئلتي التي بدت شديدة البلاهة مقارنة بمأساته، فشاركته في وصلة نقد ذاتي لأدائي خلال الأزمة، والذي كان مبالغاً فيه لأنني لا زلت أعاني من صدمة تجربة سكني العام الماضي في شقة أم ميمي التي حدثته عنها وعن ولديها وأيامي ولياليّ معهما، فسقط على الكنبة من شدة الضحك لأكثر من مرة، وقال إن علي أن أكون فخوراً بنفسي لأنني تحليت بضبط النفس فاكتفيت بشتيمة مؤمن، ولم أقم بفتح رأسه بطوبة، لأنه بسبب رعونته وزياطه، لم يتح لي فرصة التقاط أنفاسي في شقة طبيعية، فوجدت نفسي في مكان أضرط بكثير من شقة أم ميمي، وهنا كان لا بد أن أستوقفه لأقول إنني أكون كافراً بالنعمة، لو قلت إن هناك مكاناً أضرط من شقة أم ميمي، خاصة أنني لم أحكِ له بعد عن طليقها شعراوي الزِناوي الذي اضطررت للسكن معه بعد وفاتها، وكان يمكن أن أظل أسيراً لديه، لولا أنني أفلتّ من قبضته بأعجوبة.

أسلمتنا أدوار الشاي وفناجين القهوة من حكاية إلى أخرى، ليتبدل شكل تلك الليلة التي كنت أظنها كابوساً، فإذا بها تحلّ على نفسي برداً وسلاماً، صحيح أنني كنت أعرف أنني سأعود بعد ساعات لمواجهة الواقع المرير، الذي لن يغيره كون الحاجّة أم عادل متآمرة أو صادقة، وأدرك أن علي أن أجد صيغة أفضل للتعايش مع مؤمن، لأن خروج أسرة الضابط كمال من شقتنا السليبة لن يكون سهلاً ولا سريعاً، خاصة بعد أن أخبرني محمود بعد تردد أن والد الباشا يشتهر في المنطقة بأنه رجل لَبَط وزالف اللسان، ولذلك كان من حسن الحظ أنني استجبت لتعقل مؤمن، فلم أقم بالتخبيط ليلاً على الشقة، لأنه كان سيعتبر ذلك عملاً عدائياً بحق حماته، مهما كان لطف الرسالة التي سأبلغها لها، ولذلك رأى محمود أهمية أن يكون كلامنا مع كمال باشا في الغد كلاماً منضبطاً للغاية، هذا إن استجاب للرسالة وحضر إلينا بالفعل، وألا يبدو في كلامنا أننا عازمون على دخول مواجهة ما معه، بل أن نورطه بصنعة لطافة في دور الوسيط النزيه، ونطلب منه ضمان إسراع أم عادل في استكمال تجهيز غرفة السطوح، وأن يضغط عليها لاستبدال سقفها البلاستيكي بآخر خشبي، تحسباً من هطول الأمطار وهجمة البرد، وأن توجيه الكلام في هذه السكة سيكون له وقع إيجابي على كمال باشا، الذي يشكر كل من يعرفه في أخلاقه التي لم يرثها لحسن حظنا عن أبيه، ولذلك فإن كلاماً من هذا النوع سيدفعه لأن يكون صريحاً معنا حين نسأله عن الموعد الذي ينوي أن ينقل فيه أسرة زوجته ويعيد إلينا شقتنا.

بدا لي من كلام محمود الموزون، أن النضّارة لم تكن هي التي جعلته أكبر من سنه، بل هي الأيام والعيشة مع أب غريب الأطوار وأخت صعبة المراس، لكنه في الوقت نفسه ورث على ما يبدو بعض مهارات المحامي الشاطر عن أسرة أمه، التي فاجأني أن بعض أفرادها يحتلون مناصب قضائية رفيعة، وأن والدته كان يمكن أن لا تكون استثناءً بين أفراد عائلتها "غيرش الحب أعمى والزمن غدار"، وأن خاله الذي يعمل في المخابرات والذي يسكن معنا في نفس العمارة، لم يكن أرفع أفراد العائلة شأناً، فمناصب أخواله الآخرين أهم وأرفع من الوظيفة الإدارية التي يعمل بها خاله في جهاز المخابرات.

ومع ذلك فإن محمود لم يكن يحب أن يلجأ إلى الاستعانة بأخواله، لأنهم اتخذوا موقفاً سلبياً من أمه، حين أحبت أباه زميلها في الكلية، وأصرت على الزواج به، رغم أنه ليس من مستوى العائلة، ومع أن أمه لم تر من والده إلا كل خير، إلا أن أهلها اتخذوا من زيجته السريعة التي أعقبت وفاتها، دليلاً على بعد نظرهم وصحة رأيهم فيه، وأخذوا يوغرون صدر محمود وأخته على أبيهم، ويطلبون منهما ترك البيت له والمجيئ للإقامة في أي بيت يختارونه، لكن حرصهم على فتح ملفات الماضي والتنبيط على اختيار أمه الخاطئ، دفع محمود للمواجهة معهم، وربما لذلك لم يستأ أكثر من اللازم حين اضطرته الظروف لدخول كلية الحقوق، حيث اعتبر أن ذلك يشكل تحدياً يخوضه ضد أخواله، ليثبت لهم أنه قادر على التفوق ودخول سلك القضاء دون حاجة إليهم، مفضلاً ذلك الاختيار على إعادة السنة الدراسية، ليحاول تحقيق حلمه بدخول كلية الإعلام التي ابتهج بعض الشيئ حين قلت له إنها لم تكن أملة كما يظن.

لم يتسع الليل على طوله لما في جعبتينا من حكايات، مع أنني اتخذت قراراً بإطالة السهر والتضحية بأول محاضرتين في اليوم الدراسي، فقد كان من المهم أن أصعد إلى مؤمن من صباحية ربنا لأجلس معه على مائدة إفطار قررت أن أجلبها كعربون مودة، لنفتح معها صفحة جديدة نتفق فيها على طريقة جديدة للتعامل بيننا، والتعامل مع كمال باشا وأسرته اللعينة، التي ليس أمامنا بناء على نصائح "المِتر محمود" إلا مسايستها للخروج من شقتنا بأقل خسائر وفي أسرع وقت ممكن.

.....

نكمل في الأسبوع القادم بإذن الله...
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.