رئيس بجلد حمار (2 من 2)

رئيس بجلد حمار (2 من 2)

01 نوفمبر 2019
+ الخط -


سرت في مصر يومها الكثير من النكت والتشنيعات، لكنها كانت ولأول مرة مصحوبة بالخوف والقلق على مستقبل البلاد، وكأن ملايين المصريين اكتشفوا فجأة أن حسني مبارك بشر فانٍ يمكن أن يمرض ويموت، ولذلك تحول مزاج الحكي الشعبي من تقديم تفسيرات لصحة مبارك وعافيته المستفزة، إلى تقديم تصورات عما أصبح يفعله لوقف تدهور صحته المستمر، وحين أعلن رسمياً عن سفر مبارك في يوليو من عام 2004 للعلاج في ألمانيا، لم يصدق الكثيرون ما أعلنته الصحف الحكومية عن ذهابه للعلاج من إصابة بالانزلاق الغضروفي، مع أنهم كانوا يصدقون كل ما يقال عن قوته الخارقة في لعب الاسكواش، ولم يترك هؤلاء مرضاً خبيثاً مستعصي العلاج إلا ونسبوه إلى مبارك، متوقعين ألا يعود من ألمانيا التي ذهب ليعالج في مستشفياتها، بعد كل ما صدّع به المصريين عن إنجازاته الطبية المبهرة.

كان أغرب ما راج في تلك الفترة هو الحديث عن قيام حسني مبارك بزرع نخاع شوكي جديد، وقال هواة الإفتاء من المطلعين على بواطن الأمور إن هذا هو سر الحديث عن وجود مشكلة في ظهر الرئيس، وبالطبع لم يكن أحد يكلف نفسه عناء التساؤل عن إمكانية زرع نخاع شوكي أصلاً، ولا من أين سيأتي النخاع الشوكي الذي سيتم زرعه، فالفكرة الأهم الي تم تداولها هو أن الحاكم العجوز الذي بدأت صحته في الخسعان بعد طول تماسك، أصبح يحتاج إلى قطع غيار جديدة لكي يواصل حكم الشعب وشكمه، ولذلك كان هناك شبه إجماع على أن رحلة مبارك للعلاج لن تكون قصيرة، بل ستطول أكثر من اللازم، لأن تركيب النخاع الشوكي سيأخذ بعض الوقت.

لكن حسني مبارك خيب آمال كارهيه، وعاد إلى الجلوس على عرشه وممارسة مهامه بأسرع مما توقع، وكان أول من دفعوا ثمن عودته رئيس الوزراء الدكتور عاطف عبيد الذي فقد منصبه فجأة، وحل محله الدكتور أحمد نظيف وزير الاتصالات، وكانت ملامح مشروع التوريث قد اتضحت وقتها، وأصبحت تخزق عين المتشكك التخين، ومع ذلك فقد حرص مبارك الأب على الإكثار من جولاته وزياراته للمحافظات، لكنها كما لاحظ الكثيرون لم تعد تذاع لفترة طويلة كما كان يحدث في السابق، بل أصبحت تذاع منها مختارات قصيرة تخضع للمونتاج بعناية، وبإشراف مباشر من صفوت الشريف وزير الإعلام، ثم من خليفته أنس الفقي.

وحين راج بين الناس وقتها الحديث عن الاستخدامات الطبية المستحدثة لغاز الأوزون ودوره في تجديد الخلايا وإطالة العمر، انتشرت على الفور حكاية أن مبارك يقضي كل يوم ساعتين في غرفة مجهزة بالأوزون، تم استيرادها خصيصاً من الخارج وتركيبها في قصره، وأن قصره في شرم الشيخ مدينته المفضلة يحوي غرفة مماثلة، وأذكر أنني حين اندلعت قضية أزمة صحة الرئيس التي أثارها الأستاذ إبراهيم عيسى في صحيفة (الدستور) عام 2007، وتعرض بسببها للمحاكمة، كتبت مقالاً في (الدستور) أشرت فيه ساخراً إلى أن طبقة الأوزون اتخرمت من كثرة استهلاك الحاكم للأوزون، وأشرت في نفس المقال غامزاً إلى حكاية أكل حاكم لم أقم بتسميته "لاتنين كيلو جمبري مسلوق على الريق كل يوم".

حين اشتد وطيس الأزمة التي خلفتها مقالات إبراهيم عيسى عن تدهور صحة الرئيس مبارك والتي استند فيها إلى مصادر لم يكشف عنها، كتبت سلسلة مقالات أناقش فيه ما أصبح يعرف بـ"قضية صحة الرئيس"، وكان من بينها مقال كتبت في مطلعه ما يلي: "هذا قانون فيزيائي جديد اكتبوه بإسمي ولاتخشوا في ذلك لومة لائم: "تتناسب درجة صحة البلاد عكسيا مع درجة تحريم الحديث عن صحة حاكمها". فعندما يصبح الحديث عن صحة الحاكم أمرا محظورا ومثيرا لكل هذا القدر من الغضب والإستفزاز والإرهاب لاتصبح صحة الرئيس هي المثيرة للتساؤل بل صحة البلاد نفسها هي التي تستحق ألف سؤال وسؤال. لكي تكتب في أحوال السياسة المصرية في هذه الأيام المباركات تحتاج إلى أن يكون بصحبتك طيلة الوقت مدرس أحياء يقول بالنيابة عنك لمن يهمه الأمر أن الكائن الحي طالما كان حيا فهو يتعب ويصح ويصح أحيانا أن يمرض وهو كما يحيا يمكن أن يموت وهو أحيانا يتمدد بالحرارة وأحيانا ينكمش بالبرودة.

على عكس مدرس الأحياء لن تحتاج إلى مدرس تاريخ طيلة الوقت، يكفي أن يكتب لك ورقة بعدد الذين حكموا مصر منذ فجر التاريخ، وكيف حكموا ووعدوا بالعدل ثم ظلموا ثم رحلوا ثم جاء غيرهم ليحكم ويعد بالعدل ويظلم ويرحل. لن تحتاج بعدها إلى مزيد من المدرسين بل ستحتاج إلى كيس ورقي لمساعدتك في حالات الغثيان التي ستنتابك حتما وأنت ترى من يحاول أن يصور للناس أن بلدا عمرها سبعة آلاف عام يمكن أن يكون مصيرها مرهونا برجل قارب على الثمانين بغض النظر عن عدد الكباري التي افتتحها طيلة حياته".

لكن أزمة صحة الرئيس انتهت فجأة كما بدأت فجأة، حين قام مبارك في مارس 2008 بإصدار عفو رئاسي عن إبراهيم عيسى الذي حصل على حكم بالحبس لمدة شهرين، في حين لم تكف كل الأقلام والأصوات الموالية للنظام عن التأكيد على أن حسني مبارك في أحسن صحة يمكن تخيلها، وهو ما لم يصدقه عموم المصريون الذين رأوا أن تسريع إيقاع مشروع التوريث لم يكن سيتم إلا بعد أن أحس مبارك بقرب النهاية، وأن الأوزون والجمبري المسلوق والخلايا الجذعية والنخاعات الشوكية لم تتمكن من إصلاح ما أفسده الدهر، وأن ما انتظر الجميع طويلاً أن يحدث بعد ثورة شعبية أو انقلاب عسكري، سيحدث على يد عزرائيل، وفي ظروف كهذه عادت إلى الرواج نكتة سياسية كانت قد ارتبطت من قبل بعهد عبد الناصر، عن ذلك الرجل الذي يذهب كل صباح إلى بائع الصحف ليلقي نظرة خاطفة على مانشيتات الصحف ثم ينصرف، وحين سأله بائع الصحف لماذا لا يشتري أبداً أي صحيفة بل يكتفي بإلقاء نظرة خاطفة على المانشتات، قال له الرجل إنه ليس مهتماً إلا بأخبار الوفيات، فقال له البائع: لكن صفحة الوفيات موجودة في داخل الصحيفة، فرد عليه الرجل: "بس اللي أنا مستني خبره بيموت في الصفحة الأولى".

لكن خبر مبارك تأخر أطول مما توقع الجميع، ولم يتح للكثيرين أن يروا صورته مسبوقة بتعبير "خبر عاجل" الذي كان موضة في تلك الفترة التي انتعشت فيها الفضائيات الإخبارية بشرائط أخبارها العاجلة أسفل الشاشة، ومع أن مبارك ذهب إلى أكثر من رحلة للعلاج في ألمانيا، من بينها رحلة قيل إنه عولج فيها من سرطان المرارة، وقالت الأخبار الرسمية أنها كانت رحلة علاج عادية لمتابعة حالة ظهره، إلا أنه كان يعود في كل مرة ليمارس مهامه الرئاسية بشكل عادي، لتتراجع الأقاويل والتشنيعات المرتبطة بتدهور صحته وقرب نهايته، وتحل محلها التشنيعات والأقاويل المفسرة لأسباب صحته الدائمة، ومقاومته لكل الأزمات الصحية التي خرج منها كالشعرة من العجين.

وبعد سبع سنوات من سقوطه المفاجئ والسريع في مجلس الشعب، وقف مبارك في نفس المكان متحدياً لمعارضيه بعبارته الشهيرة "خليهم يتسلّوا"، وأذكر أنني في تلك الفترة استمعت إلى أغرب تفسير لصمود مبارك الصحي المذهل، وكان تفسيراً سمعته من فنان نقله عن فنان، الفنان الأول هو هاني رمزي الذي كنت أعمل معه عام 2009 في فيلم كوميدي بعنوان (الرجل الغامض بسلامته) من إخراج مدير التصوير الشهير محسن أحمد، وفي إحدى جلسات قراءة السيناريو فوجئت بهاني رمزي يخرج من جيبه لصقة طبية من تلك التي توضع على الرقبة والظهر لعلاج الآلام، لكنها لم تكن من الماركات المألوفة لدينا، وكان مكتوباً على غلافها الورقي بلغة لم أحدد ما إذا كانت الصينية أو اليابانية، إلى أن قال لنا هاني إنها لصقة مستوردة من الصين، وأن الكلام المكتوب عليها يعني "اللصقة السحرية" أو عبارة مشابهة لذلك، طبقاً لما أخبره الفنان الكبير السيد راضي، الذي جاءت له تلك اللصقة من الصين عبر رجل أعمال من أصدقائه يحضرها له بانتظام.

كان هاني رمزي قد عمل من قبل مع السيد راضي في فيلم (ظاظا رئيس جمهورية)، ولفت انتباهه أن السيد راضي يتحرك بقوة ونشاط لا يتناسبان مع سنه الذي كان قد أشرف على الثمانين وقت تصوير الفيلم، وحين سأل السيد راضي عن سر ذلك النشاط وهو يمسك الخشب، حدثه عن حرصه على الاهتمام بصحته من زمان، ثم قال له ضاحكاً إن ما يساعده على حل أي مشاكل في العظام وبخاصة الركبتين، لصقة مدهشة يتم تصنيعها في الصين، وأنها برغم صينية منشأها إلا أنها تمت لنا نحن المصريين بصلة، لأنها تؤخذ من جلود الحمير المصرية البلدي، التي نعاملها أسوأ معاملة، ويأكل بعضنا لحومها بغير علمهم ـ أو بعلمهم أحياناً ـ لدى الكبابجية منعدمي الضمير، لكننا في الوقت نفسه لا نلتفت إلى أهمية جلود تلك الحمير المذبوحة، والتي يتم تصديرها إلى الصين مباشرة، وأن هذه التجارة التي بدأت منذ سنوات، كانت تحاط بالتكتم من قبل الصينيين لكي لا ينتبه المصريون إلى أهمية المادة الجيلاتينية الموجودة في جلود الحمير، والتي تستخدم في الطب التقليدي الصيني منذ قديم الأزل كعلاج لأعراض الشيخوخة، ومنشط جنسي باتع السر.

كنت قد بدأت فور سماعي لما قاله هاني في التعليق عليه بإفيهات قال لي هاني إنه سبقني إلى بعضها في حديثه مع السيد راضي، الذي أحب حينها أن يؤكد له على أهمية ما يتحدث عنه، فقال له إن أكثر مستخدم لهذه اللصقة الصينية المليئة بالمادة الجيلاتينية المأخوذة من جلود حميرنا المغدورة، هو السيد الرئيس حسني مبارك شخصياً، وأن السيد راضي يعرف الشخص الذي يقوم بتوريد هذه اللصقة وما شابهها من مستحضرات صينية إلى قصر الرئاسة، وأن هاني لو قام باستخدامها سينسى تماماً كل ما له علاقة بآلام الركبتين والظهر، وسيستمر في نشاطه وحيويته حين يصل إلى سن السيد راضي وحسني مبارك، لكن هاني تعامل مع ما قاله السيد راضي بنفس الاستخفاف الذي تعاملت به معه، ولذلك ظلت اللصقة التي أخذتها منه على سبيل التذكار مرمية في درج مكتبي، حتى وقعت ذات يوم عقب الثورة وأنا أقلب في زواريق الإنترنت على تقرير طويل عريض نشره موقع عظيم الشأن عن مادة الإيجاو التي تطارد الصين من أجلها جميع حمير أفريقيا، لا حمير مصر فقط، وأنها تخطط لشراء جميع حمير العالم من أجل الحصول على هذه المادة واستخدامها في ما تصنعه من أدوية لمكافحة الشيخوخة وإطالة العمر والبتاع.

ومن ساعتها، وأنا أتذكر لصقة جلود الحمير، كلما سمعت خبراً عن مرور حسني مبارك بأزمة صحية جعلته يشارف الموت، قبل أن يتضح أنه خبر مضروب ربما فبركته أسرته للمساعدة على إفلاته من المحاكمة أو التحقيقات، وحين رأيت حسني مبارك في ذكرى حرب أكتوبر الماضية، وقد ظهر بكامل لياقته الصحية ولكن دون صبغة للشعر، وتحول إلى "فلوجر" يستخدم اليوتيوب للتواصل مع الذين جعلهم فشل عبد الفتاح السيسي يحنون إلى أيامه، تذكرت المشير الجمسي وقرأت له الفاتحة، ثم قلت لنفسي في لحظة تنوير متأخرة إن الأكثر منطقية أن لا يكون لقدرة مبارك على تحدي الزمن، علاقة بأكل الجمبري المسلوق على الريق، بل بالحمار وجلده السميك، ولعله من الإعجاز العلمي أن يكون الحمار دون غيره من الحيوانات سبباً في تمكين مبارك من حكم مصر ثلاثين عاماً، وأن يتلوه في حكم مصر رئيس من نفس فصيلته السياسية، وكأن حمورية العقل تظل شرطاً لحكم مصر، بما أن الحمار هو أيضاً مثلها مذكور في القرآن.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.