الوطنية الرخيصة تقتل أصحابها

الوطنية الرخيصة تقتل أصحابها

26 أكتوبر 2019
+ الخط -
"اتقوا الله في مصر.. لا تشوّهوا صورة بلدكم.. ده اللي إنتو فالحين فيه السخرية والتريقة والبلد في أزمة.. لا تنسوا أن مصر مستهدفة.. استفدنا إيه من الانتقادات، مش الأحسن تقدموا حلول.. اللهم احفظ بلدنا من أهلها.. إنهم يتاجرون بأحزان الناس بدلاً من أن يمدوا لهم يد المساعدة.. عباد اللايكات يسخرون من بلدهم". 

يعني، كانت هذه عيّنة منتقاة ومهذبة من تجليات ذلك النوع من الوطنية الرخيصة الذي يروج على وسائل التواصل الاجتماعي في أوقات الكوارث والأزمات، حيث ينشغل أصحابه فقط بمهاجمة من ينتقدون سياسات النظام، ومن يلجأون إلى السخرية من تردي الأوضاع كمسكِّن ينجيهم من أن يموتوا بحسرتهم. بالطبع، هناك نسخ أقل انضباطاً وأكثر قباحة من هذه الوطنية الرخيصة، لكنني ركزت على اختيار العينة المهذبة، لأن أهلها يستخدمونها وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ويشعرون بها أنهم أفضل حالاً وأرفع قدراً من أولئك المغيبين والمضلّلين الذين ينتقدون حكامهم في لحظة الأزمة، ويسخرون من أوضاع بلادهم بدلاً من أن يبكوا عليها، لكنك لا تجد أحداً من مستخدمي هذه الوطنية الرخيصة يطالب ـ ولو على سبيل الخطأ ـ بمحاسبة المسؤولين عن الكوارث، حتى لو كان من أولئك الذين يكثرون الحديث عن المسؤولية السياسية في أيام محمد مرسي، ويحبون الاستشهاد "عمّال على بطّال" ببغلة العراق، التي لم نعد نسمع لها ذكراً في عهد سيسي مصر. 

لكن ذلك النوع من الوطنية الرخيصة يظل مقبولاً إلى حد ما، مقارنة بالإجرام الذي يرتكبه أولئك الذين يسعون إلى تضليل غيرهم بنشر صور الكوارث التي تحدث في الدول "المتقدمة" وصور معاناة ضحاياها، دون أن يتحدثوا في الوقت نفسه عن حجم التعويضات الذي يحصل عليه مواطنو تلك الدول إن تعرضوا لكارثة طبيعية، ودون حتى أن يثبت وجود إهمال أو تقصير، لأنه حين يثبت تصل التعويضات إلى أرقام فلكية، ويخضع المسؤولون المسبّبون للإهمال أو التقصير للمحاكمة، وهو ما لا يقتصر على الكوارث الطبيعية، بل يمتد إلى حوادث السقوط على الأرض، لأن مسؤولي حيّ ما تأخروا في كسح الثلج عن الطريق، أو حوادث التسمم التي نتجت بسبب إهمال مشرفي الصحة في فرض الرقابة على المطاعم، والأمثلة في ذلك أكثر من أن يتسع لها حجم الهم على القلب. 

المشكلة الحقيقية أن بلادنا لم تعد تكتفي بهذه الطبعات الإجرامية من الوطنية، بل أصبحت تشهد مع وقوع كل كارثة نوعاً أشد شراسة من "الإجرام الوطني"، لا يكتفي بمطالبة الآخرين بالصمت وعدم الانتقاد حفاظاً على بلادهم، بل يطالبهم بأن يرفعوا صوتهم بأن كل كارثة طبيعية تتعرض لها البلاد هي جزء من مؤامرة دولية كبرى ترتبط بحروب الجيل الرابع التي تحدث عنها رئيس الدولة بنفسه بدل المرة مائة مرة، ليعطي شرعية لبهاليله ودراويشه في القنوات الرسمية والصفحات العرفية أن ينسبوا كل مصيبة تحدث للبلاد إلى حروب الجيل الرابع. 

لعلك شاهدت أخيراً البوست الذي كتبته اختصاصية نفسية تقول فيه إن ما جرى من فيضانات في شوارع القاهرة نتيجة للعب بالهندسة المناخية من طريق رش غاز اسمه الكيمتريل في طبقات الغلاف الجوي العالية، ما يحفز المطر على النزول بنحو مبالغ فيه، ويقوم باللعب في المناخ بعمل أعاصير وفيضانات وسيول، لتصل من ذلك الشرح الذي لا علاقة له بتخصصها ولا بعملها إلى لبّ الموضوع قائلة: "المؤامرة على مصر كبيرة أوي ودورنا كمواطنين شرفاء بنحب بلدنا نقف جنبها وجنب حكومتها ورئيسها وما دام هو بيتحارب بالشكل الخبيث ده ومن كل اتجاه يبقى هو فعلاً الرجل المناسب للمرحلة". 

وإذا كنت تعتقد أن هذا الكلام مجرد "تنهيقة وطنية خارج السرب"، فأنصحك بأن تكتب على خانة البحث في الفيس بوك أو التويتر "الكيمتريل ـ حروب الجيل الرابع"، وستجد العجب العجاب الذي ينشره أناس يفترض أنهم حصلوا على درجات تعليمية عالية، وهم في ما يروجونه يستشهدون بفيديوهات لمهاويس نظرية المؤامرة في دول العالم، مفترضين أن كل من يتحدث الإنجليزية أو الفرنسية ويمتلك كاميرا يطرش أمامها أي كلام، يصبح كلامه مرجعاً علمياً يُوصَف بأنه "منشور في الإنترنت"، وهي عبارة أصبح لها وقع مدوٍّ على العقول الآيلة إلى السقوط، ولذلك أصبحت تجد من يقوم بوضع روابط فيديوهات مهاويس نظرية المؤامرة في الغرب، وأغلبهم من أنصار اليمين المتطرف، ويسبقها بكلمة "المصادر"، ليصبح محض وجود تلك الكلمة دليلاً على وجود صدقية للكلام، حتى لو كان ينتمي إلى فئة "خره بالكزبرة" التي تروج بين "كييفة" الصفحات المضروبة على الإنترنت، والذين يعتبرون حرصهم على نشر هذا الكلام وإشاعتها بين الناس، عملاً وطنياً جليلاً لا يقلّ في أهميته عن مشاهدة فيلم الممر والبكاء خلال عرضه. 

لحسن الحظ، لم يعد حجم الاستجابة لمثل هذا الهراء بالدرجة نفسها التي كان عليها قبل سنين، خصوصاً بعد ظهور فيديوهات المقاول محمد علي، وما كشفته عن فضائح القصور الرئاسية والهبر على الناشف في مشروعات الجيش، ولذلك شهدنا لأول مرة بعد كارثة الفيضانات الأخيرة التي أوقعت نحو 19 قتيلاً في عدة محافظات، سيساوية مخلصين للنظام ورئيسه يتحدثون على صفحاتهم وحساباتهم عن ضرورة محاسبة المحليات والمحافظين عن إهمالهم وتقصيرهم، خصوصاً وقد اكتوى هؤلاء بنار ذلك الإهمال والتقصير، فظلوا في حالة رعب من التعرض للصعق بالكهرباء، وتعرض أطفالهم للاحتجاز في باصات المدارس بالساعات في أوضاع مؤسفة. 

بالطبع، يعلم هؤلاء جيداً أن ليس هناك أي دور أو تأثير من أي نوع للمحليات في مصر، ويعلمون أن المحافظين ليسوا سوى خيالات مآتة اختيرت من لواءات الجيش والشرطة، وحصلت على مواقعها وامتيازاتها كمكافأة إثبات ولاء لفخامة الرئيس، ويعلمون أيضاً أن مسؤولي المحليات والمحافظين ليسوا الذين طلعوا على الملأ ليعدوا الشعب بـ "شبكة طرق تمسك البلد كده"، وليسوا هم الذين يتدخلون في الصغيرة قبل الكبيرة ويفتون في كل شيء ويستعجلون تنفيذ المشروعات دون دراسات جدوى، ويؤدون دور الرئيس والمقاول والمهندس والمحاسب والمراقب والمواطن، مثلما يفعل السيسي منذ سنوات، ومع ذلك فإن حرص هؤلاء على الاكتفاء بانتقاد المحافظين ومسؤولي المحليات يظل أرحم وأقل إجراماً من التبرير والتعريص. 

من يدري، ربما كانت هذه بداية لأن يتوقف هؤلاء ولو بينهم وبين أنفسهم عن الكذب والخداع، ويدركوا خطورة الاستبداد والتسليم على العمياني لأي فرد مهما كانت كراماته، لأن أضرار حكمه للبلاد دون رقيب أو حسيب، لن يقع ضررها فقط على "بتوع الثورة" الذين يسعدون بأخبار حبسهم وقطع أرزاقهم والتشهير بهم، ولن تحلّ مصائبها فقط على أعضاء جماعة الإخوان الذين يستحلون التنكيل بهم وكأنهم ليسوا بشراً لهم حقوق مهما كان خلافك السياسي والفكري معهم.

من يدري، لعل هذه التجربة الأليمة، تثبت للعاقل منهم الذي يخاف على مصالحه وأمانه وحياة أولاده، أن الأضرار والمصائب المترتبة عن الإدارة المستبدة الفاشلة يمكن أن تداهمك في قلب فقاعتك، التي تصورت أن الجيش والشرطة والقضاء سيحمونها لك من كل سوء، وأن دائرة الاستبداد ستدور على الجميع، وأن الكوارث الطبيعية يمكن تقبلها كقدر لا فكاك منه، لكن وطأتها ستزيد بسبب الكوارث التي اختارها الإنسان لنفسه، حين تصور أن مشاكله كلها يمكن أن يحلها فرد أحد ليس من حق أحد أن يحاسبه أو يراقبه أو يسأله: أين ذهبت بفلوس البلد؟ ولماذا تصرفها على قصور رئاسية ومشاريع من غير دراسات جدوى وأبهة كذابة وعاصمة جديدة تريد أن تتحصن فيها أنت ومماليكك وتترك البلد لكي يغرق في آثار ساعتين مطر؟ 

بالطبع، مجرد قدرة أي مواطن على طرح هذه الأسئلة لن يحل مشاكل البلد المزمنة في غمضة عين، لأن أي مشكلة يعانيها المصريون من المطر إلى المرض إلى الزحام إلى الفقر هي حصيلة لتراكمات عشرات السنين، لكن أي طريق لحل هذه المشاكل لن يبدأ إلا بقدرة المواطن على طرح الأسئلة بصوت عالٍ ومن خلال صحافة حرة وبرلمان ومجالس محلية تمثله بحق وحقيق، وإعلام مستقل لا يوجهه الضباط الأوساخ ورجال الأعمال الأوسخ، وإذا كانت الظروف الصعبة الآن تجعل من الصعب على المواطن أن يطرح أسئلته بصوت عالٍ على السلطة، لأنه غير آمن على حياته وحريته، بغضّ النظر عن أنه صنع هذا بنفسه وفي نفسه، فإن أضعف الإيمان والشرف والاحترام للنفس ومحبة الوطن توجب عليه ألّا يستسهل اللجوء إلى الوطنية الرخيصة كسلاح يوجهه نحو المعارضين الذين يكرههم، لأنه سيؤذي بهذا السلاح نفسه وأولاده، بالطريقة نفسها التي قتلت بها تلك الدبة صاحبها، وهي تظن أنها تحميه، لكن تلك الدبة في النهاية لن تعيش عذاب من يساهمون في قتل أولادهم بسلاح الوطنية الرخيصة، عافانا الله وإياكم وحمى أولادنا جميعاً من شرّ الغشيم المتعافي الذي يحكم البلد، ومن إجرام أنصاره.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.