ما بعد سقوط الكومبين (3)

ما بعد سقوط الكومبين (3)

24 أكتوبر 2019
+ الخط -
بدأت معرفتنا بحضرة الضابط كمال باشا قبل أشهر من كارثة سقوط الكومبين على بلكونة غرفة مؤمن، حين ابتليت مصر بكارثة زلزال أكتوبر من عام 1992.

لم نكن وقتها قد أكملنا شهرنا الثاني في شقة الحاجة أم عادل، التي حمدنا الله أنها كانت تقع في عمارة متينة صمدت في وجه الزلزال، كنت قد حضرت لحظات الزلزال في كليتي، وما إن استوعبت صدمته، ورأيت زملائي وهم يهرعون للبحث عن تليفونات للاتصال بأهاليهم للاطمئنان عليهم، تشعبطت في أول أتوبيس قابلني لكي أتوجه إلى سنترال الجيزة للاتصال بأهلي في الإسكندرية، لكنني أدركت عبث المحاولة حين رأيت طوابير الواقفين أمامه، ثم قررت العودة إلى البيت بعد أن سمعت طراطيش كلام من الواقفين عن سقوط عدة بيوت في الجيزة على رؤوس من فيها، تذكرت منظر العمارة الكالح القديم، فأخذت الطريق جرياً من ميدان الجيزة إلى شارع المحطة، وأنا أرى في عقل بالي كوابيس بحثي بين الأنقاض عن ملابسي وكتبي ومدخراتي، ثم شحططتي في الشوارع والحواري بحثاً عن غرفة بديلة، ومع أنني حين وصلت إلى شارع المحطة، لم ألمح في محيطه حركة غير طبيعية، ولم أسمع صوت سرينات إسعاف، ولم أشاهد من بين المارة وجوهاً عليها غبرة انبعثت من الأنقاض، إلا أنني واصلت تكرار الفاتحة والمعوذتين وآية الكرسي، داعياً الله ألا يفجعني في العمارة التي غرني مظهرها العجوز، لكنني حين انعطفت من شارع المحطة متجهاً نحوها، شكرت الله حين وجدتها راسخة مطمئنة كالحة.

بعدها قلت لنفسي: ليتك لم تدعُ للعمارة وحدها بالسلامة، ودعوت لنفسك أيضاً بعدم الشحططة، لكي لا تجد نفسك أنت ومؤمن تشاركان منكوبي الزلزال في بعض ما عاشوه من شحططة، بحثاً عن مساكن بديلة غير عماراتهم التي وقعت في الزلزال، بدأت تلك الشحططة حين وجدت الضابط الشاب الذي لم أكن أعرف بعد أنه كمال باشا، يقف أمام باب شقتنا في الحادية عشر من مساء اليوم الذي أعقب الزلزال، وقد وقف خلفه سيدة كبيرة وشابتان، كانت الإضاءة المنبعثة من شقتنا قد كسرت حدة ظلام السلم الذي لا تحب الحاجة أم عادل أن تراه مضاءاً لسبب لا أعلمه، فساعدتني على أن ألاحظ البدلة العسكرية التي كان يرتديها الضابط الشاب، والعباءات السوداء التي كانت ترتديها السيدة والشابتان، وملامح الكآبة والإرهاق التي كست وجوههم جميعاً، وهم ينظرون نحوي بترقب مقلق.


حين رأيتهم يقفون على بسطة السلم فور أن فتحت الباب، ظننت أنهم من أقارب مؤمن، اضطرهم ظرف طارئ لكي يبيتوا عنده الليلة، وقبل أن أستأذن لإحضار مؤمن من غرفته ليستقبلهم، سألني الضابط الشاب: "هو حضرتك الأستاذ مؤمن ولا الأستاذ بلال؟"، وحين أجبته مد يده مصافحاً وهو يعرفني باسمه وبأنه ضابط احتياط في القوات المسلحة، وأنه خريج هندسة في الأصل، ودون أن ينتظر مني أي تعليق، استدار مشيراً إلى السيدة الكبيرة قائلاً إنها ست الكل حماته لكنها بمثابة أمه الثانية، ثم أشار إلى إحدى الشابتين وقال إنها زوجته، ثم أضاف مبتسماً: "باعتبار ما سيكون لإننا لسه كاتبين كتابنا من أسبوع"، ثم أشار إلى الأخرى وقال إنها أختها وأخته في نفس الوقت، هززت رأسي مرحباً بهم، فلم أتلق أكثر من ابتسامات باهتة على الوجوه المرهقة، وفي حين كنت أفكر فيما يجب أن أقوله كتعليق على كل تلك المعلومات المتلاحقة، اعتذر لي بشدة لأنهم اضطروا للطرق على بابنا في وقت متأخر، وأنه لم يكن سيفعل ذلك، لولا أن الحاجة أم عادل قالت له عنا كلاماً كله خير، وحدثته عن جدعنتنا وشهامتنا وأصلنا الطيب.

حين خرج مؤمن من غرفته ليستطلع ما يحدث على باب الشقة، عرفته على الضابط الذي ضحك حين وصفته بالباشا، وقال لي: "ده من أصلك والله"، ثم قام بتعريف مؤمن على حماته وزوجته وأختها، التي أخذت بالي من جمال ملامحها، حين أطال مؤمن النظر إليها أكثر من اللازم، قبل أن يلتفت نحوي ليلومني بحرارة لأنني لم أدع الجماعة للدخول إلى الشقة، مع أنه يعلم جيداً أن منظر الشقة وحالتها لا يشجعان على دعوة كهذه، حتى لو كانت تندرج تحت بند "عزومة المراكبية".

ما بعد سقوط الكومبين (1)

مد مؤمن يده إلى يد "كمال باشا" وبدأ في جذبه لكي يدخل إلى الشقة، فاستوقفه كمال محرجاً، وقال له إنه لا يصح أن يدخل حريم إلى شقة عزاب، خصوصاً في وقت متأخر كهذا، وأنهم أرادوا فقط أن يتعرفوا علينا سريعاً، طبقاً لما أوصت به الحاجة أم عادل التي نزلوا من شقتها الآن، لكنه في الوقت نفسه سيذهب ليوصل حماته وزوجته وأختها إلى "البيت"، ثم سيعود إلينا سريعاً ليتحدث معنا عن الموضوع الذي دفعهم للطرق على بابنا في وقت متأخر كهذا.

بطريقته في المهيصة والزياط التي لم أكن قد اعتدت عليها بعد، قال مؤمن بمنتهى الحماس إنه سيضع براد الشاي على النار، لكي يكون جاهزاً حين عودة الباشا، ثم توجه نحو السيدة الكبيرة ماداً يده ليصافحها، ثم فاجأها وفاجأني بانحنائه على يدها لتقبيلها، قبل أن يقول لها بابتسامة "الشاورمجي" الأصيل إنها ذكرته بوالدته التي لم يرها منذ شهر بسبب ظروف الشغل، فأخذت السيدة تداري ارتباكها بالدعوات المتلاحقة، في حين مد مؤمن يده بالمصافحة إلى الشابتين المرتبكتين، مطيلاً ـ أو هكذا شعرت ـ في سلامه على الأخت الصغرى، وهو يصدّر في وجهها ضحكته العريضة، التي كان يمتلك ثقة مطلقة في قدرتها على إيقاع الجميع في حبه، وحين بدأ الجمع في النزول على السلم، ظل مؤمن واقفاً يشيعه بعبارات الترحيب والتحذير من السلالم المكسورة والإضاءة الخافتة، ويتمنى للجميع أن يصبحوا على خير ويوصيهم بأن يأخذوا بالهم من أنفسهم في عتمة الليل، قبل أن ينصح كمال باشا بأن يأخذ مهله ولا يستعجل، لأننا سنكون في شرف انتظاره وقت أن يأتي بالسلامة.

لم يعطني مؤمن فرصة بعد إغلاق الباب، لكي ألومه على إحراجه لي أمام الجمع الذي هبط علينا فجأة، لأنه بدأ في التخبيط الرقيع على باب غرفته وهو يغني بعض أغاني الزفة، قبل أن يهجم علي ليحتضنني ويقبلني قائلاً: "يالله يا عم عروسة زي لهطة القشطة جت لك لحد الباب.. مش قلت لك الحاجة أم عادل بتحبك"، فلم أجد ما يمكن أن أرد به عليه أبلغ من شخرة حادة، قبل أن أتهمه بالعبط المبين، لأنه لم يأخذ باله أن زيارة غامضة كهذه في وقت كهذا، وراءها خازوق مؤكد ستتضح معالمه حين يعود الضابط الشاب إلينا بعد قليل، وأغلب الظن أن الحاجة أم عادل قررت فجأة طردنا من الشقة مع نهاية الشهر الجاري، لتسكن فيها هذه الأسرة التي أغلب الظن أنها تمت لها بصلة قرابة.


تسللت ملامح القلق إلى وجه مؤمن للحظات، لكنها غادرته سريعاً، فاتهمني بالوسوسة وسوء الظن، لأن الباشا قال أمامي بعضمة لسانه إنه ذاهب لإيصال الأسرة إلى "البيت"، مما يعني وجود بيت تعيش فيه الأسرة بالفعل، وبعد أن عاد إلى مزيد من المهيصة والزياط والحديث عن محاسن عروسة المستقبل التي لمسها بيديه وأكلها بعينيه، ثم أثناء تعليقه الشاي على النار، تظارف أكثر متوقعاً أن يكون وراء الأمر رغبة في استغلالي للستر على الأخت التي ضعفت ومشت في الحرام، وقرر أهلها البحث عن "مقطف" لمداراة فضيحتها، ومع أنني تجاهلته وقررت التركيز في توضيب غرفتي لتستقبل الضيف القادم بعد قليل، فقد كانت غرفتي على بؤسها أكثر آدمية من زريبة مؤمن، إلا أنه أثبت لي بعد قليل أنه يغالب شكاً في أن الحكاية فيها إنّ، حين وقف على باب الغرفة قائلاً لي بلهجة المطمئِن إن الحاجة أم عادل لو أرادت طردنا من الشقة، لما احتاجت أصلاً إلى أن تعرفنا على الأسرة التي ستخلفنا في الشقة بهذه الطريقة، ولأبلغتنا بضرورة إخلاء الشقة أول الشهر القادم، ثم قال لي إنني محق في شعوري بالقلق بسبب تأخر وقت الزيارة، لكنه شخصياً مطمئن لأن ملامح الأسرة الهابطة علينا قبل أنصاص الليالي بدت له طيبة وغير مثيرة للقلق، وهو ابن سوق ويفهم في الناس جيداً.

مع أول شفطة سحبها كمال باشا من كوباية الشاي، اتضح أنني كنت محقاً في إحساسي بالخطر أكثر من شيخ شاورمجية مصر الموهوب في الفراسة، وأن الأسرة الكريمة لم تكن تطمع في حضرتي كعريس، بل كانت تطمع فعلاً في الشقة، ولكن كمثوى للإقامة المؤقتة، بعد أن وقع بيتهم المتهالك في الزلزال دون خسائر في الأرواح والحمد لله، فاضطروا بعدها للمبيت في شقة أبو كمال التي تقع في نهاية شارعنا، لكن اكتظاظ الشقة بأبيه وأمه وأخويه وبه، لم يكن ليجعلها صالحة للإقامة أكثر من ليلة أو ليلتين بالكثير، ولذلك نصحه أولاد الحلال باللجوء إلى الحاجة أم عادل، التي يعرف الجميع أن لديها أكثر من شقة مفروشة تؤجرها في بيتها الذي ورثته عن الحاج أبو عادل.

قصد كمال باشا الحاجة أم عادل مصطحباً معه حماته وزوجته وأختها، فقالت له محرجة إنها كانت تتمنى حل مشكلته فوراً، لكنها تثق أنه يمكن أن يجد حلاً على أيدينا، لو وافقنا بكل شهامة وجدعنة، على أن نترك لحماته وابنتيها الشقة لمدة أسبوع أو أسبوعين بالكثير، لننتقل إلى غرفة مفروشة تقع فوق السطوح، لم تكن قد وجدت من يؤجرها بعد، على أن يقوم حضرة الضابط بما يملكه من علاقات باستكمال إجراءات نقل الأسرة إلى شقة من شقق محافظة القاهرة أو عمارات القوات المسلحة، وأنه حين قال لها إنه لا يظن أن أحداً في هذا الزمن الأناني الوغد، يمكن أن يوافق على ذلك الاقتراح الإنساني، قالت له إنه حين يقوم بتعريفنا على أسرته المستقبلية، سنرفض أن تتعرض من هن في مقام أمهاتنا وأخواتنا للبهدلة والمهانة، وأنه سيرى منا الرجولة والجدعنة والشهامة على أصولها.

ما بعد سقوط الكومبين (2)

كان حضرة الضابط قد بدأ حديثه متلعثماً مرتبكاً، لأنه كان يدرك أن حيلته الدرامية لإيصال ما يرجوه، قد استهلكت من قبل في كافة مسلسلات قطاع الإنتاج وصوت القاهرة، لكن مؤمن المبتلى بالمهيصة والزياط، لم يترك لنا فرصة لكي نكمل الاستماع إليه، ثم نطلب منه أن يمنحنا فرصة للتفكير في الأمر، بل انبرى مقاطعاً لكي يلوم الرجل على تردده في عرض ما يرجوه، وفي أنه ذهب أصلاً إلى الحاجة أم عادل، قبل أن يقصدنا رأساً، قائلاً له بمنتهى الأسى إن عدم وجود سابق معرفة بيننا، لا يعفيه من وجوب الاعتذار عن عدم افتراضه وجود الخير في الناس، خصوصاً في وقت عصيب كهذا.

ودون أن يخطف حتى نظرة نحوي، ليرى وقع كلامه على وجهي، طفق مهرتلاً بكلام عن الجدعنة والأخوة والناس الناس فتافيت الماس، وحين لمح نظرة متشككة على وجه كمال باشا وهو يطالع وجهي المحتقن، قال له بصوت متهدج إنه يتحدث باسمي واسمه، لأنني مثل مؤمن "عندي إخوات بنات"، ولا يرضيني مرمطتهن أبداً، حالفاً بالله العظيم تلاتة أن كمال باشا لو كان قد أبلغنا بالموضوع فور رؤيتنا له، لما كنا قد سمحنا لهم بالمغادرة، ولصعدنا من فورنا إلى غرفة السطوح لنبات فيها ليلتنا، ونترك ست الكل وابنتيها ليهنأوا بشقتنا، التي أفاض مؤمن في الاعتذار عن حالتنا المزرية، وكأننا نحن الذين أسأنا فرشها وأهملنا حالتها.


وهكذا وجدت نفسي بعد دقائق أقف بجوار كمال باشا، وهو يلقي نظرة على كتبي المتراصة فوق بعضها دون دولاب ولا أرفف، بعد أن أنهى جولة تفقدية قصيرة في أرجاء الشقة، وحين أخذ مؤمن يحدثه عن ثقافتي ومحبتي المبالغ فيها للكتب، وضع كمال باشا يده على كتفي ومنحني تربيتة ودودة، وطمأنني أنني لن أكون بحاجة إلى اصطحاب كل الكتب معي إلى السطوح، لأن الموضوع لن يأخذ غير أسبوع أو أسبوعين بالكثير، وأن علي فقط أن أختار الكتب الضرورية للدراسة، وإذا احتجت إلى أي كتاب إضافي في أي وقت، فالبيت في النهاية هو بيتي، ويمكن أن آتي فورا لأخذ ما أحتاج إليه من كتب، وأن ذلك لا يشترط أن يكون في حضوره، لأنه منذ الآن أصبح يعتبرني أنا ومؤمن أخوين له، سيترك في حمايتنا زوجته وأم عياله القادمين، ويأتمننا على أسرته الكريمة، مؤكداً أن هذا ليس شعوره لوحده، بل شعور حماته أيضاً، وأنها لم تكف طيلة سيرها في الطريق إلى بيت أبيه من الدعاء لنا والشكر فينا، لأنها برغم ضعف الإضاءة رأت سيماء الكرم والرجولة والطيبة مرتسمة على وجوهنا.

كان مؤمن قد أدرك من صمتي المحتقن واكتفائي بهز رأسي دون تعليق، أنني لم أبلع ما قام به، فقام عقب رحيل كمال باشا بتغيير طريقته المعتادة في التعامل معي، حيث انقض علي بحضن مطارات، انهال بعده بالثناء على رجولتي وجدعنتي، قائلاً إنه كان يتحدث بقلب جامد بالنيابة عني، لأنه يعرف أنني لا يمكن أن أرضى بالمذلة لمن هن في مقام أمي وأخواتي، لكن ذلك التكتيك لم يمنعني من الانفجار فيه، لأقول له إن يتوقف قليلاً عن الرغي والهرتلة، ويفكر بعقله قليلاً، خاصة أننا لم نر هذه الأسرة وهي تنام في العراء وتلتحف السماء، فقست قلوبنا وقررنا التخلي عنها، وأذكره أن الحاجة أم عادل طلبت من الرجل أن يعرض المسألة علينا، مما يوحي بوجود بدائل أخرى كان يمكن أن يلجأ إليها الضابط الذي قال بعضمة لسانه إن لديه علاقات ستمكنه من حل الموقف في أسرع وقت، ولذلك كان يمكن أن نعتذر بلباقة عن عدم قدرتنا على تلبية الطلب، فتصعد الأسرة إلى الغرفة المفروشة فوق السطوح، أو تلجأ إلى أقارب ومعارف آخرين للبحث عن حل، طالما أن المسألة لن تطول أكثر من أسبوع أو أسبوعين، ليكون انتقالنا إلى غرفة السطوح هو أخر الحلول المطروحة وليس أولها، خاصة أننا لم نر هذه الغرفة من قبل، ولا نعرف ما الذي يوجد فوق السطوح أصلاً، لكي نوافق على الانتقال إليه بهذه السرعة، وأن إقامتنا في هذه الشقة بحالتها المتهالكة، لم يكن رفاهية ولا ترفاً لكي نستغني عنه بسهولة، بل هو أمر اضطررنا إليه للوفاء بالتزاماتنا في الحياة، هو كرجل يعمل في وظيفتين لتأمين مستقبله، وأنا كطالب يفترض باجتهاده في دراسته أن يتخيل لمستقبله أي ملامح.

جعلتني ملامح مؤمن الذاهلة ثم انفجارته الغاضبة في وجهي، أشعر أنني لم أكن أطرح كلاماً يستحق المناقشة والتفكير، وإنما اقترحت عليه أن نقوم باغتصاب السيدة العجوز وابنتيها، ثم نقوم بعدها مباشرة بتشغيلهن في الدعارة، ونأخذ عرقهن لنصرفه على المخدرات وشراء جثث طازجة لممارسة النيكروفيليا معها، ولذلك انهال فضيلته علي شخصي الخطّاء بخطبة عصماء عن مثالب الأنانية وفضائل التضحية، ثم قطم خطبته وطلب مني رقم والدتي في الإسكندرية، لأنه سينزل حالاً للاتصال بها من البقال الذي على الناصية، ليحكي لها عن خيبتها الثقيلة في تربيتي، ويطلب منها أن تسألني عن الذي كنت سأفعله لو كانت قد تعرضت هي وشقيقاتي لنفس المأزق.

وقبل أن يتيح لي فرصة للرد، قام بتغيير لهجته، ومد يده إلى كتفي مطبطباً، وقال إنه يعرف أن ما أنا فيه الآن لحظة شيطان عابرة، سأستغفر الله عليها، وأنه يعدني أنه لن يقوم بتقييمي بناء على هذه اللحظة التي ضعفت فيها، فغلبت عليّ أنانيتي، لكنه في الوقت نفسه سيتركني عرضة لتأنيب الضمير طيلة الليل، شريطة ألا أنسى أنني يجب أن أصحو مبكراً جداً، لكي أقوم بمساعدته على نقل حاجياتنا الضرورية إلى غرفة السطوح، قبل أن أذهب إلى كليتي ويذهب إلى عمله، خاصة وقد تكرمت نفسه العطوفة بالاتفاق مع كمال باشا على أن يأتي مع حماته وزوجته وأختها لاستلام الشقة منا في الصباح الباكر، وقبل أن تعلو غمغتي التي كنت أحاول عبرها تنظيم أفكاري وشرح موقفي الذي لا يرى تعارضاً بين الجدعنة والتريث، ولا يرى الشهامة مرادفاً للعبط والاندفاع، خاصة بعد ما تعرضت له من مآسي خلال إقامتي في شقة أم ميمي، تركني مؤمن الذي تحول فجأة إلى اسم على مسمى، واتجه نحو غرفته وهو يدعو لي بالهداية، ورزع الباب في وجهي، وتركني لمشاعري المتضاربة وغمغمتي الحائرة.

وفي اليوم التالي، اتضح من جديد أنني لم أكن مخطئاً حين طلبت من مؤمن التريث قبل اتخاذ القرار، وحين قلت إن أبسط ما يمكن فعله قبل إعطاء كلمة في الموضوع هو أن نطلع إلى غرفة السطوح ونعاين حالتها أولاً، لأننا لو فعلنا لم نكن أبداً مهما بلغت جدعنتنا وحنيّتنا، سنوافق على البيات في غرفة ليس لها سقف.

.....

مقطع من روايتي (العفاريت التي تسكن شقة ياسر الذي مات وأنا أعتقد أن اسمه حسن)، وأواصل نشر مقطع آخر في الأسبوع القادم بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.