خواطر خالد الإسلامبولي في انتظار الإعدام (3/3)

خواطر خالد الإسلامبولي في انتظار الإعدام (3/3)

17 أكتوبر 2019
+ الخط -
بعد أن صدر حكم الإعدام على خالد الإسلامبولي، واتضح له ولرفاقه أنه حكم نهائي لا رجعة فيه، سنجد أن خالد يخصص الخواطر التي يكتبها في مفكرته بدءاً من يوم 13 مارس وحتى يوم 25 مارس للحديث عن موضوع (التوحيد)، وينقل مقتطفات عن كتاب (فتح المجيد) والذي يقوم بشرح (كتاب التوحيد) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، والكتابان من أبرز كتب العقيدة السلفية. ركز خالد الإسلامبولي في مقتطفاته من الكتاب على موضوعات "عبادة غير الله بطاعته واتخاذ الأنداد من دون الله وكفر من يفعل ذلك"، وهو ما يمكن فهمه بوصفه سعياً من الإسلامبولي لكي يثبّت في عقله فكرة أن السادات كان كافراً وبالتالي فإن قتل الإسلامبولي ورفاقه له، يخرجهم من دائرة قاتل المسلم، التي أشارت إليها المحكمة العسكرية في حكمها.

تأكيداً على هذه الفكرة نجد أن خالد الإسلامبولي يورد في يوم 21 مارس مقتطفاً يقول: "أجمع العلماء على أن من قال لا إله إلا الله ولم يعتقد بمعناها ولم يعمل بمقتضاها فإنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه"، وينسب هذه العبارة إلى كتاب بعنوان (المعالم الإسلامية)، ولا أدري هل كان يقصد كتاب (معالم في الطريق) لسيد قطب، أم أنه كان يقتبس من كتاب آخر أخطأ في نقل اسمه، لكن خالد على أية حال كان في ذلك الجزء من مفكرته قد وصل إلى أقصى مدى في تبني وجهة النظر التكفيرية حتى في المسائل الهامشية التي لا يعتبرها إلا التكفيريون بوصفها من أصول العقيدة، مثل مسألة تعليق الصور على الحوائط، حيث يكتب فيها قائلاً: "وما نراه أن الناس اليوم يعلقون على السيارات صورة قرد وغيره وحدوة حصان أو حمار وتعليق سنابل من الحنطة على الحوانيت أو غير ذلك كله من عمل الجاهلية المنهي عنه أشد النهي وقد يصل إلى الشرك الأكبر عند بعضهم"، رافضاً حتى تبني الآراء الأقل تشدداً، والتي ترى أن وصف هذا الأمر بالشرك يرتبط في المقام الأول بنية الناس، وما إذا كانوا يعتقدون أن هذه الصور تنفع وتضر من دون الله، أم أنهم يستخدمونها على سبيل الفأل الحسن دون أن يشركوا أحداً مع الله في التفرد بالنفع والضر.

في 28 مارس يبدأ خالد الإسلامبولي في إعداد مشروع لخطبة الجمعة، ويقوم بكتابة بعض المأثورات التي تفتتح بها خطب الجمعة، ويبدو أنه كان مطلوباً منه أن يخطب الجمعة بالمساجين في سجنه، مع أنه لم يكن مؤهلاً لذلك، لكنه كتب يحدد خطوات خطبة الجمعة كالآتي: "السلام عليكم ـ الأذان ـ أركان الخطبة ـ إن الحمد لله نستعينه... ـ أما بعد ـ موضوع خطبة الجمعة هو شرح لسورة المعارج ـ جلسة خفيفة ـ خطبة"، ثم أورد بعدها بعض مطالع الآيات التي سيستعين بها في الخطبة وبعض الأقوال المأثورة والأدعية.


يمكن أن تلمس في الكثير من مواضع المفكرة وجود شعور عال بالذنب، يتمثل في إيراد خالد الإسلامبولي المستمر والمتوتر لأدعية تتضرع إلى الله بأن يغفر له ويرحمه، وبالطبع لا يرجع ذلك لإحساسه بالذنب لقيامه بقتل السادات، فقد كان يعتبر ذلك أفضل عمل قام به في حياته، وإنما يرجع ذلك إلى تأخر الفترة التي اهتدى فيها طبقاً لما قاله لمحققي النيابة العسكرية، وأنه قضى الفترة الأطول من حياته شخصاً عادياً، مع أن كل من كتبوا عنه لم يذكر أحدهم فيه أنه كان فاسد السلوك أو منحل الأخلاق، لكنه في الأيام التي كان ينتظر فيها الإعدام، ظل يتعامل مع فترة ما قبل "الهداية" بوصفها ذنباً يتوجب أن يستغفر الله تعالى عنه كثيراً.

قبل 15 يوماً من إعدامه بدأ خالد الإسلامبولي في تخصيص مقتطفاته لموضوع (الجهاد في سبيل الله)، ومع إحساسه بقصر الوقت المتاح له للكتابة، برغم أنه لم يكن يعلم التاريخ المحدد لإعدامه، فقد قرر أن يكتب في هذا الجزء من المفكرة أسماء المراجع التي يعتمد عليها، والتي كان على رأسها الجزء الثامن من كتاب من سلسلة حملت عنوان (صوت الحق) أصدرتها دار الإعتصام التي اشتهرت بإصدار كتب جماعة الإخوان المسلمين في تلك الفترة، بالإضافة إلى عدد من كتب سيد قطب وأبي الأعلى المودودي وحسن البنا، حسب ترتيب خالد لهم.

أغلب المقتطفات التي أوردها خالد من تلك الكتب كان يدور حول فضل الشهادة في سبيل الله وأجر الشهيد عند الله، وكان من الواضح أن اختيار هذه المقتطفات كان وسيلة من خالد لتثبيت نفسه، وأنه لم يكن يلتفت إلى ما كان يثار حول إمكانية إصدار الرئيس الجديد حسني مبارك لقرار رئاسي يقوم بتخفيف أحكام الإعدام على قتلة السادات، وهي الفكرة التي روج لها العديد من محاميه بعد أن قاموا بتقديم التماسات إلى حسني مبارك تطالب بتخفيف حكم الإعدام وتغييره إلى عقوبة السجن مدى الحياة أو السجن المؤبد، وهو ما لم يتفاعل معه خالد الذي كان كما توحي مقتطفاته يعلم أنه على بعد خطوات من موته الذي تمناه، ولم يكن لديه مانع أن يناله في قلب المنصة، بل إنه استغرب حالة الارتباك الأمني التي لمسها هو ورفاقه فور هجومهم على المنصة، والتي أدت إلى قتل وإصابة العديد من الأشخاص برصاص القوات الأمنية المرتبكة، وهو ما غضّت عنه السلطات الأمنية الطرف، برغم محاولة بعض المحامين إثارة القضية بقوة خلال جلسات المحاكمة.

في مواضع متفرقة من مفكرته يحرص خالد الإسلامبولي على التعليق على بعض المقتطفات بأفكار من عنده، فيقول مثلاً في يوم 3 إبريل: "ارجع إلى تفسير المصحف ستجد أن القتال مقرون بالصلاة والصوم ويبين أنه مثلهما من أركان الإسلام وأن الموت سيدرك الناس لا محالة ولكنهم إذا ماتوا مجاهدين فلهم أعظم الأجر ولا يُظلمون فتيلا"، وبعد أن ينهي الإسلامبولي إيراد مقتطفاته من كتب المودودي وسيد قطب والبنا، يضع ملاحظة تقول: "ويجب قراءة كتاب (منهاج المسلم) في فصل الجهاد ص 349 لأبو بكر الجزائري)، وهي ملاحظة تؤكد على أن خالد الإسلامبولي بعد أن بدا له أنه لن يتمكن من إنجاز كتابه، بدأ يتعامل مع المفكرة على أنها ستنشر بعد إعدامه، ولذلك اهتم بالإشارة إلى مراجع محددة لكي يقرأها السائرون على درب الجهاد من بعده.


كان من الملفت أن يعتمد خالد الإسلامبولي في أغلب مقتطفاته على كتب رموز إخوانية مثل المودودي وسيد قطب وحسن البنا، فقد كانت علاقته بهذه الكتب حديثة، وبدأت عن طريق شقيقه محمد شوقي الإسلامبولي المنتمي للفكر الإخواني، ولم تأت عن طريق والدهما المحامي المعروف بين الناس ولدى الأجهزة الأمنية بانتمائه لجماعة الإخوان، ومع أن قيادات جماعة الإخوان كانت حريصة طول الوقت على التأكيد على وجود مسافة بينها وبين الخط الذي تنتهجه الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد، إلا أن الكتب التي لم تفارق خالد الإسلامبولي خلال "فترة الهداية" وفي غرفة الإعدام، كانت نفس الكتب التي تقوم جماعة الإخوان بتدريسها في حلقاتها لأعضائها، ومن بينها بالمناسبة كتاب (منهاج المسلم) للعالم السلفي أبي بكر الجزائري، الذي بدأت إقامته في السعودية منذ السبعينات، واشترك في تقدير وتدريس كتابه كل من الإخوان والسلفيين والجهاديين بمختلف أطيافهم.

يفرد خالد الإسلامبولي في أيامه الأخيرة مساحة أوسع لمقتطفات يختارها من كتاب (منهاج المسلم) عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قبل 4 أيام من إعدامه نجده يخصص مقتطفاته لموضوع (الأدب مع الكافر)، مؤكداً في هذه المسألة على "عدم البدء بالسلام على اليهود والنصارى واضطرارهم للمرور في أضيق الطرق"، ومن هذا النوع من الأدب، ينتقل في اليوم الذي يسبق إعدامه إلى الحديث عن (أدب النفس)، لتبدو مختاراته معبرة أكثر عن إحساسه بدنو الأجل، خصوصاً حين ينقل هذه الحكاية التي جاء نصها في مفكرته كالتالي: "حُكي إن بعض الصالحين مر بجماعة يترامون وواحد جالس بعيداً عنهم فتقدم إليه وأراد أن يكلمه، فقال له: ذكر الله أشهى، فقال: أنت وحدك؟ فقال: معي ربي وملكاي، قال له: من سبق من هؤلاء؟ فقال: من غفر الله له، فقال: أين الطريق، فأشار نحو السماء ومشى"، ليتبع الحكاية بعدها بأبيات شعرية روحانية ختمها بهذا البيت الدال:

"ألم تر أن اليوم أسرع ذاهباً
وأن غداً للناظرين قريب".

كان الغد أقرب مما يتصور خالد الإسلامبولي، ففي اليوم التالي مباشرة يوم 15 إبريل 1982 تم تنفيذ حكم الإعدام فيه وفي زميله حسين عباس ضرباً بالرصاص، وقبل ساعات قليلة من نقله إلى ميدان ضرب النار بالجبل الأحمر، جلس خالد الإسلامبولي في زنزانته ممسكاً بمفكرته وبكتاب منهاج المسلم، ونقل من صفحة 97 بالتحديد عدة فقرات تحت عنوان (المجاهدة)، بدأها بالآية القرآنية "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء"، ثم كتب هذه الفقرة "فيجب على المسلم مجاهدة نفسه فيعلن عليها الحرب فإذا أحبت الراحة أتعبها، وإذا رغبت في الشهوة حرمها، وإذا قصرت في طاعة أو خير عاقبها ولامها، ثم ألزمها بفعل ما قصرت فيه وقضاء ما فوتته حتى تطمئن وتطهر وتطيب وتلك غاية المجاهدة للنفس".

كانت هذه الأسطر آخر ما كتبه خالد الإسلامبولي في حياته، لتنتهي صفحات مفكرته، وتنتهي معها محاولته تقديم إسهام مكتوب يساعده على التخفيف من إحساسه بالتقصير الديني، ويحث الشباب والفتيات من بعده على ترك التبرج والغناء والكلام أثناء الخطبة والالتزام بالمسواك ومجاهدة النفس وقتال من لا يعمل بمقتضى الشهادتين حتى وإن نطق بهما، ومع أن هذه الوصايا والتعاليم لم يقدر لها أن تطبع في كتاب بعد سنوات من رحيل الإسلامبولي، إلا أن الكتب التي استشهد بها الإسلامبولي قامت بالواجب وزيادة، لتستمر أجيال من الإسلاميين من بعده في محاولة تحقيق حلم السيطرة على المجتمع "الجاهلي" وإخضاعه بالقوة، ليسير على ما يتصورون أنه "منهاج المسلم" فكراً وسلوكاً وشكلاً، ويصبح أقصى ما يحلم به الكثيرون منهم ومن غيرهم في هذه اللحظة من تاريخ مصر، أن يخرج عليهم "إسلامبولي جديد"، تعود بعده محاولات تحقيق حلم السيطرة على المجتمع وتغيير سلوكه وشكله وأخلاقه، وحين يتم إفشال هذه المحاولات، وتستعيد الدولة سيطرتها على مقاليد الأمور، تستغل أجهزتها الأمنية والإعلامية مثل هذه الأفكار المتخلفة في إخضاع المجتمع لسلطتها، زاعمة أنها الوحيدة التي يمكن أن تحمي المجتمع من تطبيق مثل هذه الأفكار بالعنف والإرهاب، حتى لو اضطرها الأمر إلى استخدام ممارسات غير قانونية وغير عادلة، فتستخدم الجماعات المتطرفة ممارسات الأجهزة الأمنية لتجنيد المزيد من الشباب، على أمل أن يظهر من بينهم "إسلامبولي جديد"، فتكتب التراجيديا المصرية مزيداً من فصولها المهلكة للأحلام والوقت وفرص التغيير.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.