"كلمني عن بكره وابعد عن امبارح"

"كلمني عن بكره وابعد عن امبارح"

28 يناير 2019
+ الخط -
سيبك من هجايص نظرية المؤامرة اللي مفعولها بيخلص يوم بعد يوم، سيبك من برقيات المعايدة بين الشرطة والجيش والقضاء وأغاني التعريص وصراخ المذيعين اللي بتحركهم الصوابع الوسطى لسادتهم اللواءات، سيبك من الشتايم والمكايدات اللي بيشارك فيها ناس فاكرين إنهم هيثبتوا وطنيتهم لما يخوّنوا اللي عايزين يغيروا البلد للأحسن، وسيبك من حكاية ثورة 25 يناير دي لإن يوم 28 يناير 2011 كان ولا يزال هو يوم الثورة.

في الآخر، ما فيش ضابط شرطة اضطر يقلع بدلته خوفاً من غضب الناس المنفجرة ضد الظلم والفساد، هينسى تفاصيل اللحظة دي جوا للأبد، مهما قعد يكابر بالكلام عن المؤامرات.

ما فيش متظاهر قرر يعبر عن حبه لبلده بإنه يقف ضد الظلم، حتى لو ده كلفه حياته، هيفرق معاه أي كدب متساوي أو منعكش عن المؤامرة الكبرى، يمكن يكون مفهومه لحب وطنه اختلف، ممكن تكون اختياراته اتغيرت دلوقتي، لكنه هيفضل شايل جواه اللي عاشه مهما حاولوا يزوروه ويعيدوا كتابته.

ما فيش حرامي كبير كان قلقان يومها على مصير النهيبة اللي سايبها للعيال، هينسى لحظات القلق دي.ما فيش معرّص هينسى إزاي حاول ألف مرة يتملق الثورة وثوارها، مهما حاول يعلي صوته بالتعريص المضاد دلوقتي. 


وبرضه ما فيش مواطن عادي فرح بالثورة زمان، فاضي يفكر فيها دلوقتي أصلاً، ولا شاغله كل اللي بيمجدوها أو بيخونوها، لإنه يا دوبك بيفكر في إنه ينفد من مطحنة السيسي اللي كان فاكرها هتنقذه، وبتتنازعه مشاعر السخط من العكّ المتواصل اللي بيدفع تمنه، ومشاعر الأمل في إن القائد المخلّص الدكر ينقذه بمعجزة.

المدهش إن كثيرين من اللي شاركوا في الثورة، واللي البعض بيفضل يضمهم تحت ذلك المصطلح الهلامي العجيب وغير الواقعي "الثوار" بيفتكروا الثورة بقوة في أيام ذكراها، وبعضهم بيحاول أصلاً "يبعد عن الذكرى وسهمها الجارح" على رأي عمنا مأمون الشناوي، بينما دولة السيسي نفسها بتفتكر ثورة يناير طول السنة، ولو عندك شك في ده، حاول تحسب المصاريف اللي بتتصرف على التأمين والحماية والتشويه والتخوين وملاحقة حتى الأطياف اللي ليها علاقة بيناير، لكن في الحقيقة، الثورة اللي خايف منها نظام السيسي مش اللي فاتت، لإنها بالنسبة له ذكرى، وما فيش مانع إنها تتذكر بالخير في برقيات المعايدة والخطب الإنشائية، الثورة اللي خايف منها هي اللي ممكن تيجي، السيسي عارف إن ثورة يناير انتهت، لكن فكرة الثورة نفسها لسه حاضرة ومطروحة، وده اللي يخوفه أكتر، وده اللي محتاج يفتكره كثير من المؤمنين بالثورة، واللي لسه محتجزين في لحظة يناير بكل تعقيداتها العاطفية والنفسية، وبعضهم فاكر إنه هيخون إيمانه بالثورة وبالتغيير لما يقرر إن يناير ـ

كحدث ـ أدت دورها وانتهت، مع إن الثورة في حد ذاتها تمرد على التفكير القديم وغير المتطور، وبالتالي حصر فكرة الثورة في حدث يناير هو اللي خيانة ليها، ونظام السيسي بحربه الشرسة على كل معارضيه المرتبطين بيناير بيساعد على تأخير لحظة "تجاوز يناير"، والمفهوم ده كنت شرحته في مقال مفصل قبل كده هتلاقيه على جوجل بنفس العنوان.

وباختصار اللي قالوا إن الثورة بتاكل ولادها، كانوا يقصدوا بالتحديد ولادها اللي مش مدركين إن الثورة لحظة انفجار، لا هيقدر حد يرجعها لورا، ولا هيقدر حد يسيطر عليها بالكامل، وعشان كده يناير هتفضل حية في الذاكرة كمصدر إلهام، لكن محاولات استرجاعها وإعادة خلق صيغتها القديمة محاولات عبثية، زي محاولات محوها.

في أول تلات سنين من الثورة كانت النغمة الل بتعزفها وسايل الإعلام الموالية للنظام والمقربة منه بقوة: "هي الثورة عملت إيه للبلد، ووقفت حالها إزاي"، والنغمة دي فرقت جداً مع الملايين اللي مش عايزين أكتر من إن الحال يمشي وده حقهم المشروع، لكن النغمة دي دلوقتي ما عادتش بتاكل مع الناس بنفس القدر، لإن البلد بيحكمها السيسي بالحديد والنار من صيف 2013، وما قصرش لا في قتل ولا في قمع، ومع ذلك لا اقتصاد اتحسن ولا معيشة بقت أفضل، لا تعليم اتعدل ولا صحة اتضبطت، وكل اللي اتغير إن مدخرات الناس فقدت الكتير من قيمتها بسبب تخبط السياسات الاقتصادية، وإن عيال عيالهم هيفضلوا يسددوا فوايد الديون اللي السيسي اشترى بيها طيارات وغواصات عشان الغرب يقعده على كرسيه ويطنش على قتله وقمعه للناس.



طيب، يناير بقى كانت مؤامرة ولا ثورة نبيلة اتخطفت ولا مجرد انتفاضها؟ وثوارها كانوا مغرر بيهم ولا متآمرين ولا قصيري النظر ولا ليس بالإمكان أحسن مما كان؟ كل الكلام ده ما عادش يجيب همه مع المواطن اللي كان فرحان بالثورة عشان هتحسن معيشته وتخليها أحسن، وده السبب اللي خلاه فرح بالقتل والظلم بدءاً من صيف 2013، مش عشان هو غاوي مص دماء، لا عشان ده هيحسن معيشته وهيخليه أحسن، وعشان نفس السبب استحمل إن كبار ضباط الجيش والشرطة والقضاة تزيد مرتباتهم ومكافآتهم، عشان يساعدوا إن البلد تتضبط فالمعيشة تتحسن، وعشان كده لسه عنده استعداد يكابر وبيصدق الأوهام، ويستسهل لعن الثورة وثوارها، والشماتة في اللي اتظلم منهم، لو ده هيعدِّل الأحوال ويخلي البلد تمشي.

لكن المواطن ده، لما يواجه مع الوقت حقائق نتايجها هتظهر غصبا عن الكل، لإن دي سنة الحياة، وهو إن في آلاف اتقتلوا وآلاف أكتر منهم اتسجنوا من غير ما معيشته تتحسن، بالعكس ده المظالم ولعت نار في آلاف البيوت، وسيبك من حكاية الحسبنات وعدالة السماء، المظالم دي بتقلب بعنف وغل وإحباط وحقد وكراهية، والاستقرار الظاهري يخبّي وراه خوف وقلق عند القاتل أكتر من أنصاره. لما المواطن كل يوم تِتكشف له حقيقة إنه لما راهن على الدم والخوف والشكم، ما كسبش العدالة ولا الكرامة ولا الأمل الجارف في بكره أحسن من النهارده، وإنه مهدد في أي لحظة بإن بيته يتهد على دماغه وأرضه تتاخد منه بدون ما يتعمل له اعتبار، ولو اعترض هيتهم بإنه خاين ومتآمر، وديته رصاصة من اللي فرح بإنها اتضربت على غيره، والمواطن ده حتى لو استمر في حكاية لوم الثورة وشتمها، هيبقى عارف جواه إنه بيعمل كده تنفيس غضب، عشان خايف يوجه لومه للمسئول الحقيقي عن معاناته، والمرة دي مش هيرقص على أنغام تسلم الأيادي من الفرحة والأمل، هيرقص من الخوف.

لو حسبتها بالعقل وبعيداً عن العواطف الجياشة، هتلاقي إن مشكلة اللي شارك في ثورة يناير وراهن عليها وخسر حريته أو أمانه أو أحلامه فيها، أهون بكتير من مشكلة عبد الفتاح السيسي وقضاته وجلادينه ومعرّصينه، لإن اللي شارك في الثورة كان منطلق من حبه لبلده اللي كان مستعد يقف فيه حتى ضد مصالحه، لو كنت شاركت في يوم 28 هتلاقي الإحساس ده بيجمعني بيك مهما اختلفنا في الأفكار والآراء، ومهما أصبحنا كارهين بعض من ساعة استفتاء مارس أو جمعة قندهار أو الاتحادية أو التفويض، وكل لحظة من دول تقدر تعتبرها بشكل ما إعلان نهاية لحدث يناير، حتى لو ما أنهاش فكرة يناير، ومع ذلك هيفضل يجمعنا نحن الذين شاركنا في معمعة يوم 28 يناير، إننا عبرنا عن محبتنا لمصر بالفعل مش بالكلام، جربنا ولو لمرة الإحساس المذهل بإنك تكون أكبر من مصالحك وأنانيتك وخوفك، تكون منتمي لمعنى أكبر منك، معنى يخص أحلام بعضها شخصي وخاص، لكنه مختلط بحلم كبير لبلدك والناس اللي بتحبهم، وعشان كده أسئلة الهزيمة والنصر والمكسب والخسارة اللي بتتطرح كلها أسئلة ما كانتش هتأثر على اختيارك القديم: هل أنزل الشارع عشان بلدي تبقى أنضف وما يحكمهاش ظلمة وحرامية؟ أي إنسان مؤمن بحقه في الحرية والكرامة والعدالة كان هينزل ويضحي بحياته ويقف ضد مصالحه، ولو هو عاقل ده مش هيمنعه من نقد ذاته وتطوير أداءه، وحتى لو قرر يشتري دماغه أو قرر إنه يبص لأحلامه القديمة بسخرية وعدمية، هيبقى جواه احترام لنفسه إنه عبّر عن محبته لبلده بشكل يفتخر بيه، الذكرى ممكن تحزنه على نفسه، لكن مش هتخجله من نفسه.

طيب ده عن اللي شارك في 28 يناير، تعال نتأمل في أحوال عبد الفتاح السيسي اللي بيتعامل الكثيرين مع إنه منتصر حسم انتصاره خلاص، واللي مهما قعدوا يزيّطوا له إنه أنقذ البلد من مؤامرات العالم اللي مبهور بيه في نفس الوقت، هتلاقي شكل الكلام وطريقته اختلفت تماما عنها قبل أربع سنين، السيسي اللي وصّلته البارانويا لإنه يفتكر نفسه طبيب الفلاسفة، مش قادر ينسى حقيقة إنه وصل للسلطة بالكذب والخداع، وكل شوية يتطوع بفتح الموضوع ده في خطبه وتصريحاته، مش قادر ينسى الناس اللي قتلهم وظلمهم، وكل ما يرتجل يجيب سيرتهم بشكل يبين ارتباكه، تفتكر هيقدر يقنع أهاليهم بإن قتل ولادهم وتضييع مستقبلهم كان عشان مصلحة البلد مش عشان عمولات صفقات الأسلحة ومصالح الضباط والقضاة؟ هيقدر يهرب من حقيقة تدميره للاقتصاد بمشاريعه الفاشلة؟ هل الديون اللي غرّق البلد فيها هتختفي من تلقاء نفسها؟ هيقدر يخلي الناس تتعامل مع مشاريع زي جامع الفتاح العليم بجدية؟ كام عدد الناس اللي لسه بياكل معاها موضوع أهل الشر وإن مصر محسودة؟ هيقدر ينسى إنه برغم كل القتل والقمع اتحول لأضحوكة بشكل ما عرفش نفسه يخبيه واضطر يعلق عليه في أكتر من مناسبة؟ هيقدر يمحي حقيقة إن بقاءه مرتبط بالخوف، مش بالمحبة زي ما بدأ، بغض النظر عن أسباب المحبة دي اتشكلت إزاي وليه؟ هيقدر يبص في عين مواطن طالع عينه بسبب سياساته ويقوله أنا أنقذت البلد؟ هيقدر يكسب من حكاية مؤامرة يناير دي بنفس الطريقة اللي كان بيكسب بيها زمان؟

بلاش كل ده، هل هيقدر السيسي يهرب من حقيقة إنه قدر في تلات أربع سنين يخلي ملايين من مؤيديه ومعارضيه يترحموا على أيام مبارك اللي الناس متأكدة إنه فاسد وحرامي، على أساس إن الحرامي النبيه أحسن من الفتاك الغشيم، وممكن نقعد من هنا للصبح نناقش الإحساس ده ونفكّر الناس بإن الثورة قامت عشان يبقى عندهم اختيارات أنضف، لكن مش هنقدر ننكر حقيقة إن الإحساس ده ما كانش مطروح أصلا من أربع أو تلات سنين، وإن وجوده هو دليل على فشل عبد الفتاح السيسي، وتفسير لفكرة ليه السيسي مش مشغول بالثورة اللي فاتت، قد انشغاله بالثورة اللي مش عايزها تيجي، وعشان كده هتلاحظ إنه مش ممانع أوي إنك تتكلم عن امبارح، طالما هتبعد عن اللي جاي، وعشان كده ممكن يتسامح النظام مع مظاهرات إلكترونية تحتفي بيناير اللي فات، لكن هينزل بيد من حديد على أي حد يطرح أسئلة علنية عن اللي جاي، ومع ذلك هتفضل مساحات للتفكير العاقل والتشبيك الذكي، وعدم التفكير في لحظة الانفجار بكل جمالها ونشوتها، بقدر التفكير في إجابات لأسئلة ما بعد خلع مبارك اللي لو اتخلع السيسي هتلاقيها مطروحة ولكن بتفاصيل أشد قسوة وبشاعة: هتتعامل إزاي مع المؤسسة العسكرية؟ هتتعامل إزاي مع مصيبة تيارات الشعارات الإسلامية اللي البعض فاكرها انتهت، ولو وسّع دايرة رؤيته وشاف أثر قمع السيسي عليها هيتخض؟ هتقدر إزاي تتجاوز فكرة الديمقراطية الانتخابية اللي بتقلب بغم للديمقراطية اللي بتراعي الحقوق والحريات؟ هل الدرس اللي اتعلمه المواطن أن السيسي كان غلط عشان نموذج الحاكم المخلص الدكر الشاكم بأمر الله هو اللي غلط ولا عشان كان السيسي متآمر وخاين وأمه يهودية وما إلى ذلك من كلام بيروج له الإخوان وأنصارهم؟ هتخرج من ضبابية فكرة "الثوار" بكل ما يصاحبها من ضلالات، وتبدأ تدور على اللي يتفق معاك في أفكارك ومصالحك ورؤيتك للعالم وتشبّك معاه؟ هنقدر نعيد الاعتبار للسياسة بوصفها الطريق الممكن الوحيد اللي هينفع ويجدي حتى لو حصلت لحظة الانفجار؟ كلها أسئلة مهمة ومزعجة ومش مناسبة لحالة الحنين الجميلة اللي بطبعه مغوي وقصير الأثر، لكنها أسئلة مش هينفع حد يهرب منها للأبد، مهما حسنت نيته وزادت دراميّته وأطرب صوته أو علا بالزعيق.

اللي يحب الثورة يزقّ باللي يقدر عليه، ولو بكلمة طيبة محرضة على التفكير والتساؤل، ويفتكر امبارح، لكن يتكلم عن بكره.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.