استحمّوا من أجل سمعة مصر!

استحمّوا من أجل سمعة مصر!

04 سبتمبر 2018
+ الخط -

في عام 1923 حضرت لزيارة مصر وندا هولي الممثلة الأمريكية المسرحية الشهيرة في ذلك الوقت، وقضت فيها وقتاً تعرفت فيه على عدد من شخصيات مصر العامة ومواطنيها، ثم عرضت أحد أعمالها المسرحية على خشبة مسرح مصري من أكبر المسارح في ذلك الوقت، لكنها لم تبح بحقيقة رأيها في الزيارة وما رأته أثناءها، إلا في طريق عودتها إلى أمريكا، حين التقى بها في إنجلترا أحد محرري الصحف الأمريكية وأجرى معها حواراً، نشرت مجلة (الصور المتحركة) تعليقاً عليه في عددها رقم 26 الصادر بتاريخ 1 نوفمبر سنة 1923، تحت عنوان مثير للانتباه يقول: (يا لسوء حظ مصر).

للأسف لم تنشر المجلة نص الحوار الصحفي، لكنها قالت أنه نُشر في الصحيفة الأمريكية بعنوان (احذروا من الشيوخ)، وأن وندا هولي التي "عادت من القطر المصري وهو مركز الشيوخ"، قالت إنه بالرغم من تأثير الشيوخ الساحر، فإن كثيراً منهم لا يغتسل، قائلة بالنص عن شيوخ مصر إنهم "قوم قذرون والشيوخ الأعراب أخف وطأة من الشيوخ المصريين، فالأخيرين من الفظاعة بمكان إذ أنهم يلبسون لباساً ولا يغيرونه حتى يبلى. وقد سألني أحدهم عن برود الأمريكيات قائلاً إن الفرنسيات والإنكليزيات يسمحن لنا بالتحبب إليهن ولكن أنتنّ الأمريكيات باردات، فأجبته بأنا نراعي مسألة اللون، ولم أكن أود أن أؤلمه، بل حاولت بطريقة ودية أن أفهمه بأنا نفكر في الأمور الصحية والاستحمام وتغيير الملابس! ولا بأس بالشيوخ عن بعد على الستار ولكن ليس هناك من أثر خيالي جذاب عند الاقتراب منهم".

وبعد أن نشرت (الصور المتحركة) تصريحات الممثلة "الودية" التي رأت أن الإشارة العنصرية إلى اختلاف اللون أرق وألطف من الإشارة إلى الرائحة والاستحمام، لم تناقش المجلة طبيعة من تقصدهم الممثلة بالشيوخ، لكن عودة إلى صحف ذلك الزمان ستذكرك بأن لفظ (الشيوخ) كان يستخدم وقتها لوصف الأعيان وأصحاب المراكز، بمن فيهم مثلاً أعضاء مجلس الشيوخ الذي كان وقتها هيئة تشريعية معتبرة، ولم يكن التعبير يطلق على رجال الدين وقتها، الذين كانوا يحملون لقب المشايخ أو يوصفون بالعلماء، وهو ما يفيده حوار الممثلة التي تحدثت عن ارتياد من تشكو من رائحتهم للمسرح، لتكون رائحتهم محتملة إذا كانوا في مقاعد الجمهور فقط، كما أن استخدامها لوصف (الشيوخ) يشير أيضاً إلى الخيالات المرتبطة بالشرق وشيوخه، مما لا يخفى عليك بالطبع.



لم تشن المجلة هجوماً على الممثلة، تتهمها فيه بالعنصرية أو التعميم المخل، ولم تذكرها مثلاً بما كان يكتبه الرحالة العرب عن بشاعة رائحة الأوروبيين في العصور الوسطى، ولم تقل إن مصر أكبر من أن يهزها هذا الهراء الذي تفوهت به ممثلة لم تحترم من استضافوها في بلادهم، بل نشرت هذه السطور التي أنقلها بحذافيرها: "فما رأي سادتنا المصريون جميعهم في امرأة كانت بين ظهرانيهم ويعلمون قيمتها في بلدها كممثلة ثم لا يحاولون أن يظهروا الجانب الحي المشرق من الحياة المصرية بل تركوها لترى بنفسها فرأت حياتنا المنحطة، فحكت لمواطنيها عن ما رأت، وحكموا علينا أننا كلنا كذلك، ثم بعد ذلك نصيح ونملأ الجو بصياحنا في سبيل حياة بلادنا ورفع شأنها .. و.. و.. بدون أن نحرك ساكنا في سبيل العمل على ذلك. خير لنا أن لا نتذمر أو نشكو بل فلنسمع ونقرأ فقط".

للأسف لم يرد في ما وقع تحت يدي من أعداد المجلة تفاصيل أكثر عن طبيعة زيارة الممثلة الأمريكية إلى مصر، أو عن طبيعة العمل المسرحي الذي عرضته على جمهور بعضه شيوخ أعراب وشيوخ مصريون لم ترتح لرائحتهم، لكنني وجدت في نفس العدد المذكور أعلاه رائحة كريهة انبعثت من رسالة المواطن حسين عبد الحليم، نشرت في صفحة بريد القراء التي حملت عنوان (برلمان الصور المتحركة)، قال فيها كاتبها بمنتهى القلق الوطني: "أود ألا تكون الممثلات مصريات لأن ذلك ضار بنا وبهن، لأن طباع آنساتنا ليست كطباع الأوروبيات أو الأمريكيات"، وهي نوعية من الآراء كريهة الرائحة لا زالت حتى الآن تصدر عن كثيرين من أبناء جلدتنا، بعضهم أصبح يستحم بانتظام.

من السعدني إلى عبد الحليم: لا تتحول إلى مفكر!
برغم صداقة الكاتب الكبير محمود السعدني الوثيقة بالمطرب عبد الحليم حافظ، وبرغم أن عبد الحليم كان يتعامل مع النقد الصحفي بحساسية مبالغ فيها بعض الشيء، بل ويعتبره خيانة له إذا كان الكاتب من أعز أصدقائه، خصوصاً أنه كان يتعرض لحملات صحفية ظالمة تشكك في ما كان ينشره عن مرضه، وتتهمه بالمبالغة فيه لاستعطاف الجمهور، إلا إن أستاذنا السعدني لم يبالِ بكل ذلك، حين مس لسان عبد الحليم مهنته وأبناءها، لذلك فتح على عبد الحليم نيران قلمه التي كان يُعمل لها ألف حساب وقتها، خصوصاً أن سقف النقد الصحفي بعد تأميم نظام يوليو للصحافة كان قد انخفض كثيراً، فكانت المعارك الفنية والأدبية أو الحملات التي يتم شنها ضد صغار المسئولين أو متوسطيهم، الشيء الوحيد الذي يستهوي القراء بعد أخبار الرياضة والحوادث، لأنهم كانوا يجدون فيها متنفساً يعينهم على ثقل ظل الصحافة المؤممة الموجهة.

المقال كتبه محمود السعدني في بابه الشهير (هذا الرجل) الذي نشرته مجلة (صباح الخير) بتاريخ 21 سبتمبر سنة 1961، ويمكن ملاحظة أن المقال نفسه يكشف عن الاتجاه الذي كان يتبناه بعض كتاب ذلك العصر في الهجوم على بعض الأغاني في ذلك الزمن، واتهامهم لها بأنها أغانٍ جنسية تنشر الخلاعة والميوعة التي لا تليق بزمن الاشتراكية، وهو ما يبدو أنه استفز عبد الحليم وفريد الأطرش، فكان ردهما على تلك الاتهامات سبباً لهجوم محمود السعدني الكاسح الذي أنشر منه هذه المقتطفات:


"يوم الجمعة الماضي وعلى الناصية نشبت معركة حامية الوطيس بطلها عنتر زمانه عبد الحليم حافظ وأبو زيد عصره فريد الأطرش واشتركت معهما آمال فهمي متواطئة أو مخدوعة الله أعلم، وهات يا طعن ولا طعن يوم القادسية، وانجلت المعركة عن سلخ جلد الصحافة وجلود الصحفيين، واحتل الأستاذ عبد الحليم مقعد أستاذ السلوك والأخلاق والأدب الذي فضلوه على العلم، وهات يا محاضرات في قلة ذوق الصحفيين وكذبهم ودسهم وجهلهم الذي ليس بعده جهل والعياذ بالله. وفي النهاية تكرم عبد الحليم وتفضل وشرح للكتاب معنى الاشتراكية، ودور أغاني الحب والهيام والغرام في تدعيم الاشتراكية.



ولقد بدأت المعركة بلقاء تم بـ "الصدفة" بين آمال فهمي وفريد الأطرش على الناصية، و"بالصدفة" أيضاً التقى بهما عبد الحليم حافظ، وكانت فرصة طيبة للغاية تبادل فيها الاثنان العناق والنفاق أيضاً، وتولى كل منهما شرح فضائل زميله وعظمته وتاريخ ومكانه بين الخالدين. وعبد الحليم حافظ مطرب عظيم بلا شك، وصوته هو أحلى الأصوات في العالم العربي بعد أم كلثوم والشيخ مصطفى إسماعيل، ولكن عبد الحليم لا يكتفي بدور المطرب العظيم فحسب، وإنما يريد أن يفرض نفسه مفكراً ولا توفيق الحكيم، ومثقفاً ولا المرحوم سلامة موسى، لقد هاجم المفكر عبد الحليم حافظ الكتاب الذين نادوا برفع مستوى أغانينا، وقال إن الحب خالد خلود الزمان، وأن أغاني الحب أغاني إنسانية، لأن الحب شعور إنساني والاشتراكية لا تخاصم الإنسانية ولا تعادي شعور الإنسان.

والذي قاله عبد الحليم مضبوط وعال العال والحمد لله، ولكن عبد الحليم ليس أول مفكر قال هذا الكلام، فقد ردده من قبل عشرات الكتاب ومئات الصحفيين الذين هاجمهم بلا تفرقة ولا تمييز... لقد احتكر الاشتراكية للطرب ليلغيها من الصحافة، ودافع عن كل الأغاني، وقال إنها إنسانية وعظيمة واشتراكية حتى الأغاني التي هاجمها النقاد لأنها أغاني جنس.

المطرب العاطفي عاطفي جداً جداً جداً، والكلام عن الإنسانية والإشتراكية يحتاج إلى موازنة بين العقل والعاطفة، لكن المطرب العاطفي، عاطفي وبس. نصيحة لعبد الحليم حافظ أن يكتفي بالطرب، فهو أعظم مطرب بين الرجال في هذا الزمان، أما ميدان الفكر والثقافة فله فرسان آخرون، وأنا أخشى إذا اختلط الحابل بالنابل، أن يأتي اليوم الذي يقف فيه عباس العقاد أمام الميكروفون ليغني للناس: يا امّه القمر على الباب".




صاحب الدولة و"ننّوس عينه"!
في ظل عهد الطاغية إسماعيل صدقي باشا، الذي أطاح بمناخ الانفتاح السياسي والصحفي الذي سبق وصوله إلى السلطة، وأعلن إلغاء دستور 1923، واستبدله بدستور استبدادي، وأصدر قرارات تعطيل الصحف، وغالى في التنكيل بالصحفيين والسياسيين، وفي إطار مقاومة غالبية الصحفيين لقرارات إسماعيل صدقي الجائرة، وتضامنهم مع من يتعرض للتنكيل والتعطيل، نشرت مجلة (مصر الحرة) التي كان يديرها محمود طاهر العربي في عددها 37 الصادر يوم الثلاثاء 23 سبتمبر 1930 في باب (أخبار ع الماشي) خبراً هذا نصه:

"بابا بيقول، وبابا هو صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا، وننوس عينه المتكلم هو عزيز بك صدقي.

بابا بيقول أنه بعد شهر واحد سوف ينفي النحاس ويحل الوفد وجميع الأحزاب ويغلق النادي السعدي ولا فيش برلمان.

أظن أن هذه الأخبار التي يشيعها عزيز بك من شأنها أن تثير الخواطر وتهدد النظام، فهل من حقنا أن نطالب بابا بتعطيل ننّوس عينه عن الظهور والرغي في ردهات فندق سان ستيفانو؟

أما الغازي توفيق رفعت باشا وزير الحربية فهو فشّار حبتين ولسانه سايب حبتين. ذات يوم من أيام الأسبوع الماضي جلس معاليه في فندق سان ستيفانو بين نفر من أصدقائه والمعجبين بحلو شواربه، وقالوا: تعرفوا الوزارة بتاعتنا حتقعد كام سنة؟ ولما لم يجبه أحد أنشأ معاليه يقول: صلّوا على الرسول، وزارتنا يمكنها أن تبقى في الحكم عشرين سنة على الأقل، وهنا بدت الدهشة على وجوه السامعين. إسماعيل باشا صدقي نفسه لم تتسع ذمة فشره لأكثر من عشر سنوات. وهز بعض الحاضرين رأسه، وقد رأى أن المنافسة في الفشر بين دولة الرئيس ووزير حربيته قد تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه".


انتهى نص الخبر الذي نُشر في عهد كان أجدادنا الصحفيون يعانون من طغيان حكامه وبطشهم، وقد دفع الكثير منهم ثمنه اعتقالاً وتشريداً وقطعاً للأرزاق، وأظنهم لو علموا بما يعانيه أحفادهم الصحفيون في عهد عبد الفتاح السيسي من بطش ـ لا يلقى للأسف مقاومة ولا رفضاً من غالبية الصحفيين ـ لما غيّر ذلك من رأيهم في سياسات إسماعيل صدقي، ولا أضعف من عزيمتهم في مقاومة طغيانه على أساس أنه "أرحم من غيره"، لأن الرضا بالفتات من الحقوق، والتسامح مع إهدار الحريات، والترحم على الطغاة القدامى الأخف بطشاً، كان ولا زال وسيظل من أسباب تنقل البلاد من سيئ إلى أسوأ، ومن طاغية لعين إلى من هو ألعن وأضلّ.


الفقرة الإعلانية
في عددها الصادر بتاريخ 9 يناير 1942 نشرت صحيفة (الأهرام) الإعلانات القصيرة التالية والتي اختارت أن تدرجها وسط أخبار صفحة الحوادث والقضايا لضمان وصولها إلى المهتمين، وقد جاء فيها ما نصه:

"ـ متى وأين وكيف؟ ليس ذلك هو المهم إذا كنت قد أصبت بمرض تناسلي، إنما المهم حقيقة هو أن تضمن شفاءك في أقرب وقت عند الدكتور فوسكولوس 44 شارع المدابغ ت 59018

ـ المطرب المحبوب محمد عبد المطلب يحيي حفلة غنائية يوم 16 يناير على مسرح الحديقة ت 56240 قبل قيامه برحلة إلى الأقطار الشقيقة. هذه الحفلة لا تذاع بالراديو.

ـ العاصفة المميتة على رأس عشرات الأفلام التي يجب أن تشاهدها، حاليا بسينما مترو.

ـ لم يبق إلا 3 أيام وينتهي عرض فيلم عريس من استامبول فبادروا إلى مشاهدته في سينما كورسال. نجاح منقطع النظير ليوسف وهبي وراقيه ابراهيم. انتاج نحاس فيلم.

ـ أين تذهب الليلة: ديانا: في طريق الأرجنتين تمثيل بتي جرابيل ـ الأسبوع الثالث ـ وجريدة الحرب المصورة. مصر: الورشة تمثيل عزيزة أمير ومحمود ذو الفقار ـ وأخبار الحرب. الأهلي: دنانير تمثيل الآنسة أم كلثوم وآخر أنباء الحرب. ـ دوللي بشبرا: علامة زورو تمثيل تايرون ياور 3 حفلات بأسعار عادية.

ـ قلّ من لا يكره صرف ماله ولكن في محلات قويدر وخطيب يستطاب إنفاق المال".

وقد نشرت (الأهرام) إلى جوار الإعلان الأخير بالذات، هذا الخبر:
"تلقينا برقية بتوقيع مستخدمي مستشفى الأمراض العقلية بالخانكة، يلتمسون فيها ألا يُعدّ الغذاء الجزئي الذي يتناولونه مقابل عملهم اثنتي عشرة ساعة متوالية، والملابس التي تصرف إليهم لارتدائها داخل المستشفى سبباً لخفض إعانة الغلاء، ويرجون صرف هذه الإعانة كاملة، رحمة بهم وبعائلاتهم".

وختاماً مع الكاريكاتير
في عدد مجلة (المصور) الصادر بتاريخ 7 يناير 2005 نشر أستاذنا الكبير محيي الدين اللبّاد هذا الكاريكاتير البديع الذي لا يزال صالحاً للنشر حتى الآن.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.