الخيال له ناسُه

الخيال له ناسُه

11 سبتمبر 2018
+ الخط -
في ساعة غلط من ذلك اليوم، اتصل بي صحافي فني من صحيفة حكومية، ليسألني بجدية وبنبرات طافحة باللوم والعتاب: "لماذا لم يفكر السينمائيون المصريون أبداً في عمل فيلم يروي أحداث 11 سبتمبر برغم تأثيرها الكبير على مصر والمنطقة العربية والعالم كله، وهل يدل هذا على فقر خيالهم السينمائي وتأخرهم عن مواكبة الأحداث المهمة على مستوى العالم؟"

فاعتصمت بحبل الله، ولم أطلب منه أن يقفل السكة فوراً، ولم ألقِ عليه مرافعة طويلة عن بؤس أحوالنا السينمائية بشكل خاص والثقافية والسياسية بشكل عام، واكتفيت بأن أقول له باقتضاب: "عندما يكون بمقدور السينمائيين المصريين أن يصنعوا فيلماً يروي حادث المنصة، تأكد من أن فيلمهم التالي سيكون عن أحداث سبتمبر"، ليعتذر عن إزعاجي ويبادر إلى إنهاء المكالمة.

لاأدري هل كانت إجابتي دقيقة أم انفعالية ومجتزئة؟ لكن الذي أدريه أنني كتبت من قبل فيلماً تدور أحداثه في أجواء مقاربة لأحداث 11 سبتمبر، لن أحكيه بالطبع لأسباب لا تخفى على فطنتك، وللأسف توقف الفيلم في لحظة الإقلاع، بدعوى أن التصوير في أميركا سيكون مكلفاً بحيث لن تنجح أي إيرادات بمصر في تعويضه، لا أدري هل كان ما زعمه منتج الفيلم صحيحاً، أم أنه قاله لكي يخيف بطل الفيلم الذي لم يقاتل من أجل الفكرة، لكي لا يخاطر بعلاقته مع المنتج. ما أدريه أيضاً أن أبي الذي لم تلده ستي، الفنان الكبير صلاح السعدني، دعاني بعد أحداث سبتمبر بفترة قصيرة للاشتراك معه في كتابة فيلم، يُقدم فيه من وجهة نظره تفسيراً لأحداث 11 سبتمبر، وكيف أنها حسب رأيه خُططت بدهاء ومنذ سنوات قبل أن تقع على يد الموساد.

لم تكن قد ظهرت وقتها كل الكتب والبرامج التي تتبنى نظرية المؤامرة كتفسير منطقي وحيد لأحداث 11 سبتمبر، ولم يكن حتى كاتب بريطاني مشهور مثل روبرت فيسك قد كتب ماكتبه بعنوان: "حتى أنا لا أصدق أحداث 11 سبتمبر". ومع أن السعدني لم يكن مهتماً بتأكيد نظريات المؤامرة أو نفيها، بل كان يجري وراء خيال فني استبد به، لكنني اعتذرت له يومها، وقلت إنني لا أفضل المشاركة في عمل يكرس نظرية المؤامرة لدى الناس، وهم "مش ناقصين إيمان بيها"، فأخذت كلمتين في جنابي، لكني صبرت واحتسبت وتمنيت له التوفيق، ومع أني كنت مخلصاً فيما تمنيت، إلا أنها أمنية لم تتحقق، لأنه لم يجد بكل ما له من ثقل فني منتجاً واحداً يشاركه حلمه الذي رآه جميع المنتجين مستحيلاً، حتى إن ألطفهم معه وأكثرهم رغبة في المغامرة قال له "موافق أنتج المشروع بس بلاش سفر أمريكا، إلا يومين تلاتة نصور فيهم لقطتين في الشوارع ونرجع، لكن نصور العمل كله هنا في الاستديو"، وهو ما كان مستحيلاً أن يتحقق مع فكرة طموحة كالتي حلم بها العم صلاح.

بعد سنوات من حلم السعدني الذي لم يتحقق، عرض مهرجان فينسيا في عام 2006 فيلماً يتبى نظرية المؤامرة كتفسير منطقي لأحداث سبتمبر، الفيلم الذي حمل عنوان (أيام قليلة في سبتمبر) من إنتاج إيطالي فرنسي مشترك، ألفه وأخرجه الأرجنتيني سانتياغو أميغورينا في أول تجربة إخراجية له، وشاركت في بطولته الفرنسيتان جوليت بينوش وسارة فورستر، والأميركيان جون تورتور ونِك نولتي، والبريطاني توم رايلي.

يحكي الفيلم قصة الأميركي إليوت، عميل المخابرات المخضرم، الذي يبلغ شركات عربية كان يتعامل معها طيلة عمله في خدمة المخابرات الأميركية بضرورة أن تسحب استثماراتها من أميركا سريعاً قبل يوم 11 سبتمبر لأن حدثاً مزلزلاً سيقع يومها، ويطلب رقماً ضخماً من المال، على أن يسلم نصفه لإبنته التي تعيش مع جدتها في فرنسا بعد أن هجرته منذ سنوات، معلنة كراهيتها له لأنها تتهمه بالتسبب في قتل أمها. يطلب رايلي أيضاً تسليم نصف المبلغ الآخر لابن زوجته الأميركية الذي رباه وأحبه كأنه ابنه، وتساعده مساعدته الفرنسية، التي سبق وأن عملت معه في خدمة أجهزة مخابرات متعددة، على جمع الولد والبنت في مدينة فينسيا للإلتقاء بالأب وتسلم المبلغ منه، لتحيط بالأجواء طيلة الوقت حالة من التوتر، لأن رايلي مطارد ومطلوب تصفيته على يد قاتل مأجور لديه "سِنّة" اضطراب نفسي، لاتتعارض مع تفوقه في تنفيذ الاغتيالات، في الوقت نفسه نرى أصحاب الشركات العربية وقد بدوا متشككين في الاستماع إلى نصيحة عميل المخابرات، برغم أنه لم يعطهم أبدًا معلومة خاطئة، مع أنه يقول لهم بكل وضوح أن العمل الذي سيقع شديد الخطورة، بل ويوازي في خطورته قتل الرئيس الأميركي.

خلال أحداث الفيلم، يدور حوار حاد بين الابنة، التي صارت فرنسية الجنسية، والشاب الأميركي الذي صار شريكها في بنوة أبيها رغماً عنها، والذي لم يتحمل طويلاً كراهيتها الشديدة له؛ فسألها السؤال الذي سأله الكثير من الأميركيين لأنفسهم بعد أحداث سبتمبر لأسباب متعددة ليس، من بينها، بالضرورة، الرغبة في الفهم: "لماذا لا تحبين الأميركيين" ، فترد عليه المساعدة الفرنسية راغبة في تخفيف حدة الموقف: "لأن أباها أميركي"، فتبتسم البنت الفرنسية وتجيبه بهدوء وسخرية: "تريد أسباباً أخرى.. لأن سيقانكم قصيرة.. لأنكم تحبون شوارزينغر.. لأنكم تعتنون بجسدكم كانه آلة، وبذهنكم كأنه حبة طماطم.. لأنكم تظنون أن واجبكم إنقاذ البشرية والمفاجأة أن ما تفترضون أنه جيد للبشرية هو قبل كل شيئ جيد لكم.. أهذا يكفي أم تريد المزيد؟".

يصمت الولد قليلاً وقد أذهلته حدة الإجابة، ثم يتمالك نفسه ويقول لها: "أظن أنك نسيت بعض الأسباب الأخرى.. تكرهينا لأننا نأكل طعاما لا نكهة له.. لأننا نخشى دائما أن نمرض.. لأننا ضد الإجهاض لكننا مع عقوبة الإعدام.. لأننا لا نمارس الجنس أبداً، ولأن نصفنا تقريباً صوت لجورج دبليو بوش"، ثم يستدرك قائلاً: "لكن بالنسبة لي لم يمنعني قط غباء الرئيس الفرنسي من حب الفرنسيين.. ومع ذلك لا شك في أنه مرهق أن يشعر المرء بكل هذا القدر من الكراهية".

لا تستسلم الفتاة بل ترد قائلة: "يعتمد الأمر على أشياء كثيرة.. ربما كان المرهق حقاً أن

نطلب ثأراً ونحن نعلم أننا لن نحصل عليه أبداً"، فيشير لها إلى المسدس الذي تحمله وهي تفكر أن تستخدمه في قتل أبيها ثأراً لأمها ويقول: "لكن أنت تملكين سلاحاً وتعرفين أنك ستثأرين"، فتنظر له بغضب وتقول: "لن أكون بحاجة إلى السلاح.. أنتم الأميركيين كالديناصورات.. أنتم أقوياء جدًا وتعتقدون أن قدركم هو العيش والسيطرة إلى الأبد.. أما تساءلت يوماً لماذا تصنعون دائماً أفلاماً عن الديناصورات.. هذا لأنكم تتماهون بها.. بعد سنوات قليلة، ربما بعد 20 أو 30 سنة، سيحاول الناس أن يفهموا كيف أن امبراطورية كهذه، بجيش بهذه القوة، زالت من الوجود بهذه التفاهة"، فينظر إليها منبهراً ويقول وهو يهز رأسه تأثراً: "هذا الكلام مثير للإهتمام أكثر بكثير من كل ما قلتيه من قبل".

في موضع آخر من الفيلم، تتوقف المساعدة الفرنسية عند ما سبق أن قاله الشاب الأميركي عن أن الأميركان لايمارسون الجنس، ويدور هذا الحوار:

"ـ أحقاً تظن أن الأميركيين لايمارسون الجنس أبداً؟

ـ عندنا في أميركا يظنون أنهم يمارسونه لكنهم في الواقع يتمرنون.. لا نحن نمارس الجنس.. لأننا نظنها مسألة تدعو للخوف.. نظنها مسألة قذرة

ـ أنت لاتظنه قذراً أليس كذلك

ـ قد يكون، لكنه كما الأكل، يمكن أن يكون قذراً.. كالأرض كالحيوانات.. قدر كبير من النشاط الإنساني قذر.. لكن تلك هي الميزة.. ذلك ماهو آسر .. أن نكون بشراً ذلك قذر

ـ نعم لكن الأميركيين يظنون أنه حين يكون المرء أميركياً فهو ليس قذراً

ـ ذلك هو السؤال: هل الأميركيون بشر؟

ـ أخبريني أنت هل نحن بشر أم لا؟"، فتصمت الفتاة الفرنسية ثم تقول له: "أنا غير واثقة.. ربما أنتم كذلك.. لعلكم بشر غريبو الأطوار كاليابانيين"، فيصمت أيضاً للحظات ثم يقول لها ساخراً: "ذلك موقف عنصري جداً أن تقارنينا باليابانيين" ويضحكان.

في موضع آخر من الفيلم، تروي مساعدة إليوت الفرنسية للشاب الأميركي، أن زوج والدته كان يعمل خلال فترة التسعينيات في العراق، حيث ارتبط وقتها بعلاقة مع الرئيس العراقي حينها، صدام حسين، وقام مع عدد من عملاء المخابرات الأميركية بتشجيع صدام على الاستيلاء على نفط الكويت، وجعلوا صدام يعتقد أن ذلك سيكون مكافأة له على دوره في حرب إيران، فيرد عليها الشاب: "هل تقولين إذن أن أميركا هي التي افتعلت حرب الخليج الثانية؟"، فترد عليه بهدوء: "ماذا تعني حين تقول أميركا.. أميركا فيها جهتان أو ثلاثة على الأقل.. جهة منها أفهمت صدام ذلك"، يسألها: "أنت في ذلك الوقت.. كنت تعملين لحساب من؟ الأميركيين أم الفرنسيين؟"، فتبتسم وترد بهدوء: "لحسابهما معاً".

بنفس المنطق التآمري الذي يفترض وجود عدة جهات أمنية في أميركا، كل منها تعمل دائماً لحسابات تخصها دون أن يراقبها أحد أو يقوم بفرملة أدائها، يتبنى فيلم "خمسة أيام في سبتمبر" تفسيراً خاصاً لأحداث سبتمبر، يرى أنها كانت مدبرة بعلم جهات أميركية نافذة، كانت تعلم بها قبل وقوعها، لكن الفيلم لا يقول صراحة أنها دُبِّرت بالكامل على أياد أميركية، بل يتوقف عند هذا الحد، ويترك الباقي لخيال المشاهد، وهي رؤية قد تتفق أو تختلف معها كمشاهد عربي، وقد تتعامل معها باستخفاف أو بحدة، لكن أكثر ما سيستوقفك فيها، أن الفيلم وإن كان قد تعرض للهجوم من بعض النقاد وكثير من المشاهدين، إلا إنه لم يتعرض للمنع الكامل أو الملاحقة القضائية والأمنية، برغم دخوله في تلك المنطقة الشائكة في الغرب عموماً وفي الولايات المتحدة بشكل خاص، بل والأهم من ذلك، أنه لم تطالبه جهة رسمية بضرورة تقديم إثباتات على وجهة النظر التي تبناها في صياغة قصته، لكي يتم السماح له بالعرض، لأن مجرد كونه فيلماً خيالياً كان كافياً، لكي يتبنى صانعه وجهة النظر التي يريدها، تاركاً الحكم عليها للجمهور، خصوصاً أنه حرص على توصيل فكرته الجدلية بذكاء، ودون أن يتورط في الترويج لما يحض على الكراهية، أو يبرر العنف، أو ما يقلل من معاناة ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

أعلم أنك ترغب الآن في سؤالي: طيب إذا كنت معجباً بفكرة التعامل الخيالي مع الأحداث الواقعية، فلماذا لا تستخدم خيالك يا فالح وتكتب فيلماً تقدم فيه رؤيتك لما جرى في أحداث سبتمبر أو ما بعدها، وأنا سأصبر وأحتسب، ولن أكرر على مسامعك ما قلته للصحافي إياه، بل سأسألك سؤالاً أهم وأجدى: "أنا عن نفسي كتبت، لكن هل عندك منتج محترم يتحمس للأفكار الجريئة التي يمكن أن يكسب من وراءها إذا أحترمها وأجاد صنعها؟ والأهم من ذلك كله؛ هل عندك بلاد بلا رقابة يديرها ضباط الأجهزة السيادية بالتليفون طبقاً لمعايير متغيرة لا يعرفها أحد، ومجتمع لا يسعده أن تنزل الأجهزة عقابها بشكل غشيم أهوج على كل من يفكر في أن يقدم تصوراً مختلفاً عن الرواية السائدة لأي حدث تاريخي قريب أو بعيد؛ الرواية التي تحافظ على القيم والتقاليد والتراث والأصول والمبادئ والمثل العليا والنسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية والرموز التاريخية والهوية الوطنية؛ الرواية التي لا يمكن أن يسمح بوجودها إلا إذا أحبها ورضي عنها الحاكم والأزهر والكنيسة والأمن الوطني والمخابرات العامة والمخابرات الحربية والله والوالدين والأسرة والمجتمع والناس؟".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.