من النكبة إلى النكسة يا قلبي لا تحزن!

من النكبة إلى النكسة يا قلبي لا تحزن!

18 يوليو 2018
+ الخط -

"عندما نشبت المعركة أخذت دعايتنا الداخلية تلهج بانتصارات لنا خيالية، وتخدر الجمهور العربي بسهولة صراعنا الحربي ومقدرتنا على التفوق والانتصار.. ولعل أن يكون من حسنات هذه الهزة العنيفة أن تردنا إلى الواقع، وتنبهنا إلى حقيقة الحال، فتساعدنا على أن نقدر الأمر قدره ونتخذ له عدته.. من الحق والواجب كذلك أن نقر بأخطائنا ونتبين مصادر الضعف في كياننا، وأن نعرف مدى مسئوليتنا في هذه الكارثة التي أصابتنا، ومن الشر كل الشر أن نتهرب من هذه المسئولية، ونعمي أبصارنا عن مناحي تقصيرنا، فننحي باللائمة على هذا أو ذاك من سوانا دون أن نرى الضعف والعيب والفساد في نفوسنا".

ستجد صعوبة في تصديق أن هذه الفقرة كتبت ونشرت بعد أسابيع من نكبة 1948، وأنها لم تنشر في كراسة سرية أو صحيفة محدودة الانتشار، بل كتبها المؤرخ والمفكر السوري قسطنطين زريق في كتاب حقق انتشاراً كبيراً على مدى سنين، بين المنشغلين بمحاولة فهم النكبة التي تعرضت لها الجيوش العربية على يد العصابات الإسرائيلية في فلسطين، ولعلك تتصور أن كتابه ربما أثر على سياسات وقرارات القادة العرب، حين تقرأ حديثه عن أهمية تجنيد قوى الأمة الحربية بأكملها قائلاً: "يجب أن تتوجه جهود التعبئة إلى ذلك ولو اضطرنا ذلك لأن نوقف أعمال الإصلاح والبناء الداخلي، وأن نحوِّل لذلك الغرض مخصصات الأشغال العامة والمعارف والزراعة بل جميع موارد الدول العربية ـ فوق القدر الأقل الكافي للحياة ـ فليكن، إذ لا الطرقات ولا الأبنية ولا المدارس ولا الأونيسكو، حتى ولا الحفلات والمآدب لتغنينا نفعاً إذا انتصر الصهيونيون في هذه المعركة نصراً مؤكداً وأسسوا دولتهم"، وهو كلام سيذكرك بمجمل السياسات الحكومية العربية الخرقاء التي قدمت تنويعات على شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة).

لكن قراءة تصور زريق لمعالجة النكبة والخلاص مما أحدثته من انتكاس معنوي وروحي، تكشف براءة القادة العرب من ذنب قراءة الكتاب الذي دعا إلى نشر العلم والثقافة بشتى الوسائل وتوسيع مدى الحريات السياسية والاجتماعية والفكرية وإصلاح سبل الإدارة، وممارسة المساومة الدولية الواعية التي تتطلب بصيرة وحسن دراية وتفهماً للعقل الغربي ولمصالح الدول المتضاربة، وفصل الدولة عن التنظيم الديني فصلاً مطلقاً، وتدريب العقل وتنظيمه بالإقبال على العلوم الوضعية والتجريبية، وتوجيه الجهد الثقافي في الأمة إلى تحقيق أكبر قدر من هذا الانتظام العلمي، "والابتعاد ما أمكن عن الخيال المخدر والرومانطيقية المائعة الضائعة المضيعة".

بعد تسعة عشر عاماً من دعوة قسطنطين زريق إلى أن يتولى قيادة الأمة العربية "تقدميون انقلابيون يتحدون في أحزاب ومنظمات محكمة تقوم على عقيدة صافية موحدة وترتبط بولاء صحيح متين"، تكررت بشكل أقسى وأنكى هزيمة الشعوب العربية المحكومة بالأنظمة التقدمية الإنقلابية التي تنكل بكل من يخرج على عقيدتها الصافية ومن يرفض الارتباط بها بولاء متين، فعاد قسطنطين زريق ليكتب بعد الهزيمة بشهرين عن (معنى النكبة مجدداً)، مواصلاً التأكيد على أن السبب الأساسي للهزيمة هو في بعد المجتمع العربي عن الحضارة الغربية الحديثة على عكس المجتمع الإسرائيلي، وحالماً بانقلاب عقلي جوهري وثورية فكرية جذرية يقضيان على تخلفنا الذاتي ويسريان إلى مجتمعنا فيقضيان على تخلفه ويجعله مجتمعاً عقلانياً مبدعاً، معبراً عن ذلك الحلم في صيغة سؤال إنشائي: "كيف يمكننا أن نقلب المجتمع العربي قلباً جذرياً وسريعاً من مجتمع انفعالي توهمي ميثولوجي شعري إلى مجتمع فعلي تحقيقي عقلاني علمي؟".

ولبعض الشيء يتردد قسطنطين زريق في مواجهة الأنظمة التي رفعت شعارات القومية العربية بمسئوليتها عن الهزيمة، ربما لأن الهزيمة لم تخلصه تماماً من اعتقاده أن تحقيق ذلك الانقلاب الفكري المنشود لن يكون إلا على يد الدولة، التي يقرر أن دورها "ليس إدارة شئون المجتمع فحسب بل العمل على تحويله وبنائه"، ولذلك يحدد جوهر أزمة الدعوة القومية التي تبنتها الأنظمة المهزومة، بأنها "تعرضت وهي ناشئة لدعوة أخرى فاقتها قوة فبلبلتها ونشرت فيها الانقسام وهي الدعوة الاشتراكية، وأنها انصرفت إلى تحقيق الاستقلال والمناداة بالوحدة العربية دون أن ترسم لنفسها برنامجا إصلاحيا يهدف إلى فك القيود الداخلية ومكافحة الظلم الاقتصادي والاجتماعي والعمل لتساوي المواطنين في الإمكانات والفرص".

لكن قسطنطين زريق بعد ذلك يتحدث بكل وضوح بدور الاستبداد في الهزيمة، مؤكداً أنه "بدون الحرية السياسية والحرية الفكرية لا يتمكن الشعب من المشاركة الفعلية سواء في الحرب أو بناء المجتمع وتتسع الشقة بينه وبين الحاكمين وتبطل فاعليته ويتضاءل بذله وتضحيته"، ومع أنه لا يمكن في رأيه "إنكار صعوبة التوفيق بين الحاجة إلى التطور السريع الذي يؤدي إلى تقييد الحرية واختصار الأساليب الديمقراطية وتوسيع سلطان الدولة وبين الحاجة إلى الرقابة الشعبية وحرية الفكر والكلمة لحماية الجهد الوطني ذاته من الخطأ ولصون كرامة المواطن والإنسان، ومع إقرارنا بضرورة التطور السريع نؤثر ضرورة الحرية والمشاركة ونراها ضرورة مقدمة، فلا بديل عندنا لهذه الحرية وإن أدت إلى تأخر التطور، فالشعوب تعمل لأجيال لا لسنوات ولا سياج لعملها أمتن من الحرية حرية المشاركة في الرأي والعمل وفي تقرير المصير". مشدداً على أن الحرية ليست حقاً فحسب بل هي أولاً واجب وتبعة، سواءاً كانت الحرية الفكرية أو حرية إبداء الرأي ومناقشة أحكام الآخرين مهما عظمت سلطتهم وعلت مناصبهم، وحرية المشاركة بالمسئولية وبالعمل، وحرية الديمقراطية الصحيحة والمسئولية الشعبية، لأن من عوامل الهزيمة "الفجوة بين الحكام والمحكومين وإبعاد الشعب عن الميدان بحصر السلطة وكبت الحرية وسلب المسئولية ومنع المشاركة".

وعلى عكس تركيز قسطنطين زريق في قراءته الأولى لمعنى النكبة على أهمية دور الأنظمة التقدمية الانقلابية التي تقود التعبئة الحربية، يبدو في قراءته الثانية لمعنى النكبة والنكسة مهتماً بالجهد الإصلاحي "الذي ينبعث من خلايا المجتمع كلها"، وعلى عكس تأكيده السابق على أن جوهر أزمتنا في البعد عن الحضارة الغربية والتعلق بالماضي، يؤكد أنه لا يقصد "إنكار الماضي والعزوف عن التلفت إليه وعن استيحائه والتأصل فيه، لكن هذا التلفت يجب أن يكون في سبيل الإدراك والمعرفة واستخلاص الجوهر والتماس القوى الدافعة المرقية، لا تلفتاً ينطوي على مجرد التغني والمفاخرة والاستعلاء فيستهوي النفوس ويشل فاعليتها بما يبث فيها من رضى واكتفاء".

وفي الوقت الذي يكرر فيه دعوته إلى العقلانية ومقاومة التخلف الحضاري والإيمان بالحقيقة والعقل، يجدد قسطنطين زريق تأكيده على مسئولية قادة الشعوب العربية عن الهزيمة وعدم قدرتهم على التغلب على مطامعهم الخاصة، مؤكداً على أن أي عقلية ثورية يجب ألا تتخذ ثوريتها أداة لمصلحة أو وسيلة لحكم، لأنها تؤدي إلى استبدال سيطرة بسيطرة، وتغدو صراعاً فاضحاً من أجل التسلط والقهر، فتفرق القوى بدلاً من أن تجمعها، وتثير الأحقاد بدلاً من أن تزيلها، وتبدد الإمكانات والقابليات بدلاً من أن تدخرها وتنميها، وأن الحل يكمن في إفساح مجال النقد والمحاسبة بصيانة حرية الفكر والعقيدة والإيمان بأن الحرية لا تتجزأ، وأنه لا يمكن إقامة بعض أركانها على أشلاء البعض الآخر، ولعلك تدرك حين تقرأ هذا الكلام بعد كل هذه العقود على النكبة والنكسة، أننا لم نعد مشغولين بالبحث عن معنى نكبتنا وهزيمتنا، لأننا فضلنا التصالح مع حالة الهزيمة والعيش تحت سيطرة اللا معنى.

....
ـ معنى النكبة ـ قسطنطين زريق ـ دار العلم للملايين بيروت ـ أغسطس 1948
ـ معنى النكبة مجدداً ـ قسطنطين زريق ـ دار العلم للملايين بيروت ـ أغسطس 1967

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.