نهاية العنزة المباركة والأمير المرتشي!

نهاية العنزة المباركة والأمير المرتشي!

06 ديسمبر 2018
+ الخط -
كانت تلك العنزة من الأهمية بمكان، بحيث تجبر المؤرخ الشهير عبدالرحمن الجبرتي على تذكرها واستدعائها من زمن سابق على الزمن الذي كان يقوم بالتأريخ له، بدون أن تكون هناك مناسبة لتذكرها، سوى وفاة شاعر قال فيها من قبل أربعة أبيات.

لم تكن بطلة حكايتنا برغم ضآلة حجمها عنزة والسلام؛ بل كانت صاحبة كرامات أوصلتها إلى أن يكون لها حظوة ومكانة داخل مسجد السيدة نفيسة أو "المشهد النفيسي" كما يسميه المحبون لآل البيت. لم تظهر كرامات العنزة داخل مصر، بل ظهرت في بلاد الفرنجة وبالصدفة البحتة، حين وقعت العنزة في ظروف غامضة في أيدي "جماعة من الأسرى ببلاد الإفرنج". لا يذكر الجبرتي طبيعة الحرب التي كانوا يشاركون فيها، ولا تفاصيل وقوعهم في الأسر، لكنه يذكر أنهم حين ضاق بهم ألم الأسر ومرارته، قرروا التوسل بالسيدة نفيسة رضي الله عنها، فأحضروا تلك العنزة التي لا نعرف لها صاحباً، وعزموا على ذبحها في نهاية ليلة اجتمعوا فيها ذاكرين وداعين ومتوسلين بالسيدة نفيسة في خلاصهم ونجاتهم من الأسر. ويبدو أن ما أثاروه من ضجة لفت انتباه "الإفرنجي" الذي قام بأسرهم، والذي لا يذكر له الجبرتي صفة ولا موطناً، مكتفياً بوصفه بـ"الكافر"، لا يقول لنا الجبرتي هل كان ذلك الإفرنجي نباتياً يكره أكل اللحوم، أم أن الضجة التي أثارها الأسرى استفزته، أو أن العنزة كانت ملكاً له فقرر إنقاذها من الذبح، لكن المحصلة النهائية أن قيام الإفرنجي بزجر الأسرى وسبهم، هو الذي منعهم من ذبح العنزة التي نجت من الموت بأعجوبة.


بات الخواجة منقذ العنزة ليلته، فرأى في المنام رؤيا لا يذكر الجبرتي تفاصيلها، لكنه يذكر أنها هالت الإفرنجي وجعلته يقرر فور استيقاظه أن يطلق الأسرى الذين لديه ويعتقهم، بل ويعطيهم دراهم تعينهم على العودة إلى بلادهم، بل ويعطيهم العنزة أيضاً، لينصرفوا من عنده مكرمين ومصطحبين معهم العنزة التي تفاءلوا بها، لأنها كانت سبباً في إنقاذهم من الأسر الذي لبثوا فيه سنين، وحين عادوا إلى مصر بسلامة الله في سنة ثلاث وسبعين ومائة ألف هجرية، الموافقة تقريباً لسنة 1760 ميلادية، قرروا الذهاب إلى المشهد النفيسي ليعبروا عن شكرهم وامتنانهم للسيدة نفيسة، وكان بديهياً أن يثير اصطحابهم للعنزة تساؤلات خُدّام وحراس المشهد النفيسي، والذي كان كبيرهم وقتها شيخ اسمه عبد اللطيف، فما كان من أولئك الأسرى الذين أحدثت التجربة القاسية لديهم نوعاً من الاضطراب أو "الخور" كما يصفه الجبرتي، إلا أن بالغوا في الحديث عن العنزة التي أفلتت من الذبح ودورها المشهود في إطلاق سراحهم، ليتأثر الحاضرون بما سمعوه منهم، ويتجاوب بعضهم مع تلك المبالغة، مقرراً التجويد والتعلية عليها، فيقسم أحدهم أنه يوم كذا أصبح فوجد تلك العنزة واقفة عند مقام السيدة نفيسة، ويتطوع آخر فيقول إنه رآها في يوم ما فوق منارة المسجد، ويقسم ثالث أنه سمعها تتكلم، ويتدخل رابع فيحلف بالأيمان المغلظة أنه سمع السيدة نفيسة تتكلم وتوصي بالعنزة خيراً.

وصلت أقاويل الناس وحكاياتهم إلى الشيخ عبد اللطيف كبير خُدّام المشهد النفيسي، فقرر أن يستثمر الموقف خير استثمار، ويأكل من وراء العنزة المزيد من الفتّة والشهد، ولم يجد سبيلاً أفضل لذلك من أن يتبنى العنزة والروايات التي قيلت عنها بشكل رسمي، فأخذ يصحبها في جميع تحركاته داخل المسجد وخارجه، ثم بدأ يجلسها بجانبه داخل المسجد، "ويقول للناس ما يقوله من الكذب والخرافات التي يستجلب بها الدنيا"، وبالتالي لم تعد حكايات نطق العنزة وتواجدها في أكثر من مكان وتوصية السيدة نفيسة عليها، مجرد حكايات يرويها آحاد الناس، بل صارت روايات معتمدة يتبناها خدام المشهد النفيسي، ويضيف إليها كبيرهم الكثير من التحابيش التي تسامع بها أهل القاهرة، "فأقبل الرجال والنساء من كل فج لزيارة العنز".

حين جاء الزوار المتعشمون في كل خير لزيارة العنزة المباركة، أعلمهم الشيخ عبد اللطيف أنها ليست عنزة عادية تأكل البرسيم وغيره مما يأكله أبناء جنسها، فهي "لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق، وتشرب ماء الورد والسكّر المكرّر ونحو ذلك"، وبالطبع لم يكن اختيار الشيخ عبد اللطيف لتلك الأصناف إلا لأنه يكن لها معزّة خاصة، ومن يدري لعله فكّر للحظات في أن يطلب من زوار العنزة أن يحضروا لها المشويات التي يحب أكلها، لكنه خشي من أن يستكثر بعضهم ذلك على العنزة، حتى وإن كانت مباركة، فقرر أن يكتفي بما يمكن تصوره من أصناف غالية، ولا أظن أن الشيخ عبد اللطيف الخبير بأهل زمانه قد فوجئ، حين أتى الناس من الأصناف التي طلبها "بالقناطير"، التي لم تكن العنزة بالطبع لتقوى على أكلها مهما كانت شهيتها مفتوحة، هذا إن صدقنا أنها كانت أصلاً تهوى أكل الفستق وقلب اللوز المقشر، وتبلِّعهما بماء الورد والسكر المكرر، لكن الشيخ عبد اللطيف بالتأكيد فوجئ، حين تطورت حالة الافتتان بالعنزة، فجاءت كثير من الزائرات بقلائد من الذهب وأطواق وحلي فاخرة تمت صناعتها خصيصاً للعنزة، وتم تسليمها عن طيب خاطر للشيخ عبد اللطيف، دون أن تشترط أحد من الزائرات حتى ضرورة أن ترتدي العنزة تلك الهدايا الفاخرة، إذ يكفي أن تعلم بوصولها وباسم من أهدتها، لتحل عليها البركات والأنوار.


بين عشية وضحاها، تحولت العنزة إلى "تريند" القاهرة الأول، وافتتن بها الناس دون تفرقة بين كبير وصغير أو غني وفقير، "وشاع خبرها في بيوت الأمراء وأكابر النساء، وأرسلن على قدر مقامهن من النذور والهدايا وذهبن لزيارتها ومشاهدتها، وازدحمن عليها"، وحين وصلت أخبار ذلك الافتتان الجماعي إلى السلطة الحاكمة ممثلة في الأمير المملوكي عبد الرحمن بن حسن جاويش القازدغلي كتخدا مصر أو محافظها، لم تسره الأنباء التي سمعها، لأنه كعادة أهل السلطة لم يرضه أن يحدث ذلك الالتفاف الشعبي حول أي شيء ليس له علاقة بالسلطة، حتى لو كان عنزة، لذلك قرر أن يرسل إلى الشيخ عبد اللطيف ويلتمس منه أن يحضر إليه بتلك العنزة المباركة، "ليتبارك بها هو وحريمه".

لم يكن الشيخ عبد اللطيف قديماً في النصب أو قرارياً فيه، وإلا لكان قد غلبه الحذر المقترن بشخصية النصاب الناجح، ولكان قد توجس خيفة من ذلك الدخول المفاجئ لرأس السلطة في شأن العنزة، ليطلب منه مثلاً أن يحضر إلى المشهد النفيسي هو وحريمه لزيارة العنزة المباركة بنفسه، لأنها لا تذهب إلى أحد حتى لو كان الكتخدا بجلالة قدره، خصوصاً وهي في جوار السيدة نفيسة التي يذهب إليها الكبار تبركاً بها، وربما لو كان الشيخ عبد اللطيف قد فعل ذلك واستقوى على رغبة الوالي بالآلاف من زوار العنزة ومريديها، لأنقذ عنزته المباركة من نهاية سيئة عاجلة، لكنه لم يأخذ خوانة فركب بغلته على الفور ووضع العنزة في حجره، "ومعه طبول وزمور وبيارق ومشايخ وجوله الجم الغفير من الناس، ودخل بها بيت الأمير على تلك الصورة، وصعد بها إلى مجلسه، وعنده الكثير من الأمراء والأعيان".

للأسف لم ينشغل الجبرتي ولو للحظة بالتوقف عند رد فعل العنزة، التي شهدت موكباً حافلاً لم أقرأ أن حيواناً شهد مثله في تاريخ القاهرة القديم والحديث، مع استبعاد الحيوانات الناطقة من الحكام وخُدّامهم، لكننا يمكن من خلال معرفتنا العادية بطبائع العنز والماعز والخرفان وغيرها من الحيوانات، نستطيع تخمين أن وقع الطبل والزمر والزيطة والزمبليطة لم يكن مبهجاً بالتأكيد، وأنها حين وصلت إلى بيت الأمير ودخلت إلى مجلسه ربما شعرت بالراحة، لأنها تخلصت من كل تلك الضجة، ووجدت بعض الهدوء في حضرة الأمير الذي امتدت إليها يداه مملّسة ومتمسحة وطالبة للبركة، دون أن تقرأ في العيون المحيطة بها نظرات الغدر الذي دُبِّر لها بليل.


كان الشيخ عبد اللطيف في قمة فرحته وانجعاصه بالاستقبال الحافل الذي وجده في حضرة الأمير، ولذلك لم يمانع طلب الأمير في الاختلاء بالعنزة، التي "أمر بإدخالها إلى الحريم ليتبرركن بها"، وربما لو كانت العنزة قد دخلت إلى حريم الأمير، لكن بالتأكيد قد قمن بحمايتها من ما كان مخططاً لها، لكن رجال الأمير ذهبوا بالعنزة رأساً إلى (الكلارجي)، وهي كلمة تركية تطلق على حافظ مخزن التموين، والذي كان قد تلقى تعليمات قبل حضور موكب العنزة بذبحها فور وصولها ثم تسليم جثتها إلى الطباخين.

يصف الجبرتي مشهد الغدر بالعنزة المباركة قائلاً: "فلما أخذوها ليذهبوا بها إلى جهة الحريم، أدخلوها إلى المطبخ وذبحوها وطبخها قيّم الأمير وحضّر الغداء، وتلك العنز في ضمنه فوضعوها بين أيديهم وأكلوا منها، والشيخ عبد اللطيف كذلك صار يأكل منها"، ولم يكتف الكتخدا الجاحد ببطشه بالعنزة المسكينة، بل قرر البطش المعنوي بصانع أسطورتها الذي أكل من وراءها الفستق واللوز المقشر، ولأن الكتخدا كان يحب المقالب، أو كما يصفه الجبرتي: "كان سليط اللسان ويتصنع الحماقة، فقد أخذ الكتخدا يقول للشيخ: "كل يا شيخ عبد اللطيف من هذا الرميس السمين، فيأكل منها ويقول والله إنه طيب ومستوٍ ونفيس، وهو لا يعلم أنها عنزه، وهم يتغامزون ويضحكون".

وبعد أن فرغ الشيخ والأمير والحاضرون من التهام العنزة المسكينة، وحبسوا بعد ذلك بالقهوة والذي منه، استأذن الشيخ عبد اللطيف في الانصراف، فأذن له الأمير، ليطلب الشيخ إحضار العنزة من الحرملك لكي يعود بها إلى المشهد النفيسي، فيفاجأه الأمير بأن جزءاً كبيراً من العنزة أصبح يستقر في معدته الآن، وأنها كانت منذ قليل بين يديه في الصحن لكنه قام بالفتك بها، وحين بُهت الشيخ عبد اللطيف، لم يترك له الأمير فرصة للحزن، حيث بكّته ووبّخه وأمره بالانصراف، لكنه لم يكن انصرافاً عادياً، بل كان انصرافاً خاصاً يشبه قدومه الخاص إلى القصر، حيث أمر الأمير العابث بأن يتم وضع جلد العنزة على عمامة الشيخ عبد اللطيف، ويذهب به في رحلة تجريس إلى المشهد النفيسي "وبين يديه الطبول والأشاير"، ليكون موكبه عبرة له، ولأهل القاهرة الذين صدقوا أكذوبة العنزة المباركة، والذين فقدوا إيمانهم بالعنزة على الفور، حين لم تتمكن من إنقاذ نفسها، كما أنقذت الأسرى من قبل، ليدفع الموقف شاعراً معاصراً هو الشيخ عبد الله ابن سلامة الإدكاوي الشافعي الشهير بالمؤذن، والذي قرر أن يضرب أكثر من عصفورين بحجر، حين كتب أبياتاً في حب السيدة نفيسة، لا تخلو من هجاء للعنزة ومن قرر استثمارها للمنفعة الخاصة، ولا تخلو أيضاً من مديح للأمير ذابح العنزة، قائلاً في أبياته التي نقلها الجبرتي:


"ببنت رسول الله طيبة الثّنا
نفيسة لُذ تظفر بما شئت من عز
ورُم من جِداها كل خير فإنها
لطلابها يا صاحُ أنفعُ من كنز
ومن أعجب الأشياء تيسٌ أراد أن
يُضل الورى في حبها منه بالعنز
فعاجلها من نوّر الله قلبه بذبحٍ
وأضحى التيس من أجلها مخزي".

لم يكن ذبح العنزة لإنهاء تعلق الناس بخرافتها، المكرمة الوحيدة التي يستحق الأمير عبد الرحمن كتخدا من أجلها الثناء والمديح، فقد كان يعرف بين سكان القاهرة بصاحب العمارات والخيرات، وكان له برغم ولايته القصيرة للسلطة، كثير من الإنجازات التي يرويها الجبرتي، من بينها أنه "شرع في بناء المساجد ـ 18 مسجداً خلاف الزوايا ـ وعمل الخيرات وإبطال المنكرات، فأبطل خمامير حارة اليهود وعمل عدة عمارات وأنشأ جوامع وسقايات وأحواض سفي دواب ومدافن. قائمة منشآته كبيرة وفيها الإنشاء والزيادة في مقصورة الجامع الأزهر، وبنى المدرسة الطيبرسية وجدد في المشهد الحسيني، وله عمائر كثيرة وقناطر وجسور في بلاد الأرياف وبلاد الحجاز"، "وكان له في هندسة الأبنية وحسن وضع العمائر ملكة يقتدر بها على ما يرومه من الوضع من غير مباشرة ولا مشاهدة، ولو لم يكن له من المآثر إلا ما أنشأ بالجامع الأزهر من الزيادة والعمارة التي تقصر عنها همم الملوك لكفاه ذلك".


اكتسب الكتخدا ثناء الكثير من المتدينين، حين جعل لزيارة النساء للمشهد الحسيني طريقاً بخلاف طريق الرجال، وحين بنى مشهد السيدة زينب بقناطر السباع، وزاد في طعام المجاورين بالأزهر، وأضاف إلى برنامجهم الغذائي الهريسة يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، واكتسب أيضاً محبة الفقراء حين رتب للعميان الفقراء الأكسية الصوف المسماة بالزعابيط، والتي كان يفرقها عليهم مع دخول الشتاء في كل سنة، حيث يأتون إلى داره أفواجاً، ويعودون مسرورين بزعابيطهم، وهو ما كان يفعله مع المؤذنين الذين يفرق عليهم الإحرامات الطولونية ليرتدوها وقت التسبيح في ليالي الشتاء، ومع النساء الفقيرات والأرامل اللواتي كان يفرق عليهن أقمشة فاخرة مثل "الحِبر المحلاوي والبَزّ الصعيدي والملايات" بالإضافة إلى الأخفاف ونوع من الأحذية كان يطلق عليه البوابيج القيصرلي، كما كان الكتخدا يخرج عند بيته في رمضان ليشرف على تفريق ما بداخل "قِصاع كبار مملوءة بالثريد المسقي بمرق اللحم والسمن للفقراء المجتمعين، ويفرق عليهم النقيب هبر اللحم النضيج، فيعطي لكل فقير جُعله وحصته في يده، وعندما يفرغون من الأكل يعطي لكل واحد منهم رغيفين ونصف فضة"، لكي يشتري ما يأكله في السحور.

لم تكن كل هذه العطايا لتأخذ الكثير من ثروة الكتخدا الذي كانت دار سكنه بحارة عابدين، التي يصفها الجبرتي بأنها كانت "من الدور العظيمة المحكمة الوضع والإتقان لا يماثلها دار بمصر في حسنها وزخرفة مجالسها وما بها من النقوش ورالخام والقيشاني والذهب المموه واللازورد، وأنواع الاصباغ وبديع الصنعة والتأنق والبهجة، وغرس بها بستاناً بديعاً بداخله قاعة متسعة مربعة الأركان بوسطها فسقية مفروشة بالرخام البديع الصنعة وأركانها مركبة على أعمدة من الرخام الأبيض". لكن هذه الثروة التي تنعّم بها الكتخدا، وأنفق بعضاً منها على الفقراء ليطيب ذكره بين الناس، لم يكن مصدرها شرعياً أو خالياً من الشبهات، فقد جاءت هذه الثروة الطائلة من الرشاوي والمصادرات غير الشرعية لمن كان يطمع في أموالهم من الأغنياء، وهو ما يقرره الجبرتي في ترجمته للكتخدا بعد موته، برغم أنه أفاض في ذكر مناقبه، لكنه مع ذلك حرص على أن يذكر قارئه بمصدر تلك الثروة الطائلة قائلاً عن الكتخدا: "ومن مساويه قبول الرشا والتحايل على مصادرة بعض الأغنياء في أموالهم واقتدى به في ذلك غيره، حتى صارت سنّة مقررة، وطريقة مسلوكة ليست مُنكرة، وكذلك المصالحة على تركات الأغنياء التي لها وارث".


ولم تكن تلك مفسدة الكتخدا الوحيدة، فقد أضاف إلى جوار فساده الاقتصادي فساداً سياسياً يصفه الجبرتي بأنه "من سيئاته العظيمة التي طار شررها وتضاعف ضررها وعم الإقليم خرابها وتعدى إلى جميع الدنيا هبابها"، وهو قيامه بمعاضدة علي بك الكبير، ليس لوجه الله، ولا لأنه رأى فيه الأصلح لإدارة البلاد وشئون العباد، ولكن "ليقوى به على أرباب الرئاسة، فلم يزل يلقي بينهم الفتن ويغري بعضهم على بعض ويسلط عليهم علي بيك، حتى أضعف شوكات الأقوياء وأكّد العداوة بين الأصفياء"، وبالطبع كان أول ما فعله علي بك الكبير حين اشتد ساعده، أن "التفت إليه وكلّب بنابه عليه، وأخرجه من مصر وأبعده عن وطنه، فلم يجد عند ذلك من يدافع عنه"، وأقام في مكة اثنتي عشر سنة "غريباً وحيداً، مع أنه كان السبب بتقدير الله تعالى في ظهور أمرهم، فلو لم يكن له من هذه المساوئ إلا هذه لكفاه".

في تاريخه الذي لا تنتهي متعة قراءته، روى الجبرتي مصير العنزة التي انتهت في بطن صانع أسطورتها، وروى أيضاً مصير قاتلها الكتخدا الذي مات بعد أن "استولى عليه العيا والهِرَم وكرب الغربة"، فأسلم روحه إلى بارئها بعد أحد عشر يوماً فقط من عودته إلى بيته الفخم في مصر، لكن الجبرتي لم يذكر مصير الشيخ عبد اللطيف خادم المشهد النفيسي، الذي لو كان قد عاش حتى شهد نهاية الكتخدا المهينة التي بدأت بعد خمسة أعوام فقط من تجريسه للشيخ وحرمانه من مصدر رزقه الواسع، لكان بالتأكيد قد قال لكل من حوله إن ما جرى للكتخدا، كان ذنب المعزة التي واصلت كراماتها بعد موتها، ولعلك تتفق معي أنه لم يكن أبداً ليعدم من يتفق معه، من فقراء البلاد الذين أفنوا أعمارهم في انتظار كرامات السماء وعطايا الولاة، الذين تعودوا على أن ينهبوا أقوات مواطنيهم، ثم يمنحونهم منها الفُتات، ليسبحوا بحمد حاميها، حتى وإن كانوا يعلمون أنه أيضاً "حراميها".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.