هوامش مستعادة على دفتر الهيستريا

هوامش مستعادة على دفتر الهيستريا

23 ديسمبر 2018
+ الخط -
ـ مع أن الصراع على التاريخ وطرق تأويله أمر تشهده كل بلاد العالم بدرجات متفاوتة في الحدة والتوتر، لكن ذلك الصراع في بلادنا الموكوسة يكتسب أبعاداً أخطر، حيث يمكن أن يفضي بك الاختلاف مع الرواية التاريخية الرسمية والمعتمدة، إلى السجن أو ما هو أفدح، متهماً بالخيانة والعمالة وزعزعة الاستقرار. 

ما يجعل وطأة أنظمتنا ثقيلة فيما يتعلق بالروايات التاريخية المعتمدة في البلاد، هو أن شرعية تلك الأنظمة ووصولها إلى الحكم وبقائها مسيطرة عليه، ليس معتمداً على مدى تحقيقها لمصالح المواطنين وضمانها لاحتياجاتهم وتأمينها لمستقبلهم، بل يرتبط في الأساس بسرديات وطنية متشابكة مع روايات عن المؤامرات الدولية وأطماع القوى الخارجية في تراب الوطن وأراضيه، وعلى الجميع بمزاجه أو غصباً عنه أن ينسجم مع تلك السرديات الرسمية عن الماضي القريب الذي كان سبباً في مصائب وهزائم الحاضر، ولذلك ستجد جماهير أنظمتنا حريصة على استهلاك السرديات الرسمية للتاريخ وإعادة تدويرها وتقبل إعادة صياغة النظام لها حسب الحاجة وحسب مقتضيات اللحظة الراهنة. 

كان المفكر والفيلسوف إرنست بلوش قد كتب معنى شديد الأهمية عن علاقة الأنظمة الفاشية بالتاريخ، في كتاب بعنوان (ميراث هذا العصر)، أصدره في منفاه وهو هارب من بطش النازية، وتحدث فيه عن مفهوم اللا معاصرة أو ما يمكن تسميته بعدم التطابق الزمني، حيث لا يعيش مواطنو الدولة جميعاً في العصر الحاضر نفسه، صحيح أنهم موجودون فيه ظاهرياً، لكنهم في الوقت نفسه يحملون معهم ماضياً يتداخل مع الحاضر، ويعيشون في عصور موغلة في القدم بالنسبة للعصور الحديثة، والحديث هنا بالطبع يتجاوز مسألة الحنين إلى الزمن الجميل أو (النوستالجيا) بشكلها الاستهلاكي اللطيف الصالح لتزجية أوقات الفراغ، فنحن نتحدث عن ماضٍ مسيطر على التفكير الإنساني، تنتج عنه سرديات تاريخية مركزية، تقوم بإشعال يقين دائم لدى المواطن يحركه في كل أفعاله، يأخذ هذا اليقين أشكالاً متعددة حسب التكوين الفكري والعاطفي للمواطن، فتجد مواطناً لديه سردية تاريخية عن الخلافة الراشدة التي لو عادت ستحل كل مشاكله، ولذلك يجد خلاصه في اتباع التيارات التي ترفع الشعارات الإسلامية. وتجد مواطناً آخر لديه سردية تاريخية عن أهمية الحاكم الفرد المخلص، ولذلك فهو يعتمد عليها في تأييد الحاكم الفرد الحالي الذي يتوهم أنه مخلص، لعله يخلصه من وجع الدماغ المتمثل في الحرية التي تنتج آراء متضاربة ومزعجة لسلامه النفسي.

 في ظل هذا يمكن أن تفهم كيف ستجد لدى كل مواطن سردية تاريخية تنتج أشكالاً بائسة من الحنين إلى عصور ذهبية قديمة جداً أو قريبة، تساعد المواطن على أن يفرغ في ذلك الحنين غضبه من الانهيارات الحالية وقرفه من تدهور أوضاعه، ولذلك ليس غريباً أن تلاحظ تقاطع الحنين إلى أزمنة مختلفة متناقضة بشكل غريب، خصوصاً حين تزداد الهستيريا الإعلامية المروجة للخوف والغضب والقلق، لذلك تجد المواطن من هؤلاء يحن في نفس الوقت إلى الحاكم الفرد المخلص جمال عبد الناصر الذي "لبِّس الإخوان طُرَح وغوايش"، في نفس الوقت الذي يحن فيه إلى أيام محمد علي وأسرته المجيدة التي كانت الموضة تنزل فيها إلى محلات مصر قبل محلات أوروبا، حتى لو لم يكن لديه أي تأكيد على تلك المعلومة السينمائية، في الوقت ذاته ربما وجدته يحن بالمرة إلى أيام الخلافة الإسلامية الراشدة التي كان الخليفة يحدث فيها السحابة ويطلب منها أن تذهب إلى أي مكان أرادت لأن خيرها سيأتيه في النهاية، وهو حنين يتشارك فيه عدو الإخوان مع عضو الإخوان. وفي ظل مناخ كهذا ستجد دائماً المزيد من التشنج والغضب الذي يوجّه نحو أي محاولات لمناقشة تلك الأزمنة وتقييم ونقد أبطالها، فتجد من يرد عليك ويهاجمك بغضب شديد وكأن الزعيم الفلاني أو العصر العلّاني جزء شخصي منه، ولذلك يشعر أن عليه لعن سنسفيل كل من يلمس منهم شعرة، حتى لو بغرض الفهم وطرح أسئلة مشروعة واجبة، وهو ما لا يمكن تجاوزه إلا حين يتم فك الاشتباك بين السردية الرسمية السائدة والتي يتم ترويجها عبر كل مؤسسات الدولة، وبين الحياة اليومية للمواطن الذي لا بد أن يدرك أنه لن يكون سعيداً أبداً إذا عاش في بلد يتصور أن تاريخه عظيم، وينسى أن واقعه منحط ومستقبله مظلم. 

....  

ـ هل نعيش حتى نرى اليوم الذي يدرك فيه كل من يرفع شعار (تحيا مصر) أن هذا الشعار الطنان الجذاب العاطفي، إذا كان كافياً لإخراس معارضيه، فإنه لن يكون بالضرورة كافياً لتحقيق أمانيه بأن تحيا مصر، بالطبع إذا كان يقصد أن تحيا مصر "عزيزة في الأمم"، أما إذا كان مطلبه الحرفي أن تحيا مصر، أي عيشة والسلام، فالحقيقة أن مصر ستحيا بهذا الشعار وبغيره، لأن الأوطان تظل نظرياً على قيد الحياة طالما لم يحدث ما يجعلها تلقى مصير قارة أطلانتس الغارقة. في نهاية المطاف، مصر تحيا وجزر باليزيا تحيا وبوركينا فاسو تحيا وترينيداد وتوباجو تحيا وميكرونيزيا تحيا، كل الأوطان تحيا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك يبقى الأجدى والأبدى من الهتاف بحياة الأوطان أن نسأل: كيف تحيا هذه الأوطان فعلا؟، هل أهلها أحياء أم مدفونون "بالحيا"؟، هل أهلها يعيشون حياة إن لم تكن كريمة فعلا فهي تعد وتبشر بأنها ستكون كريمة لهم جميعا وليس لأبناء الطبقات الكريمة ومحاسيبها وألاضيشها ومماليكها؟، هل غاية مناهم من الدنيا أن ينقضي يومهم بأقل خسائر ممكنة؟، هل هم قادرون على الإعتراض إذا ضاعت حقوقهم على أيدي أصحاب النفوذ والبطش؟، هل يعرفون موقعهم الحقيقي بين دول العالم دون أن يخدعوا أنفسهم؟، هل يعرفون أنهم لن يحيوا حقا وصدقا كما تحيا شعوب العالم المتقدمة إلا إذا أصبحوا قادرين على محاسبة ومراقبة ومعاقبة كل صاحب سلطة؟، أم أنهم مستعدون للتفريط في حقوقهم ليسلموا مصيرهم لفرد يظنون أنه سينقذهم من وحلتهم، ولذلك فهم يصفقون له عندما يهتف (تحيا مصر)، دون أن يتذكر كل فرد منهم أنه هو مصر، وأنه إذا لم يكن يحيا كما تنبغي الحياة، فإن مصر في الحقيقة لا تحيا كما ينبغي لها أن تحيا.   

...

ـ حتى لو انتهى الأمر بتسليمك لأجهزة الأمن "تسليم أهالي" لأنك تثير الفتنة وتزعزع الاستقرار، لن تمنع نفسك من التفكير في أن تقف في الشارع تصرخ بعزم ما فيك: "رسّونا على بر يا أولاد الهرمة.. هوّ الشعب المصري عظيم وأبهر العالم؟.. ولّا شعب نمرود فيه العبر ومحتاج اللي يشكمه؟.. هيّ الدول المتقدمة لو مرعوبة مننا ليه بنتحايل عليها تساعدنا؟.. وإزاي هتساعدنا وهي عارفة إننا لو تقدمنا هنضيعها؟ .. هوّ السيسي ليه ما ضربش سد النهضة اللي أثيوبيا شغالة بناء فيه على قدم وساق؟.. إزاي يبقى عندنا أعظم أجهزة أمنية في العالم عدد أفرادها بمئات الآلاف ومع ذلك كلهم معترفين إن البلد اخترقها خمسين واحد من حماس وحزب الله وبعدها نفضل واثقين في قيادات الأجهزة دي وكمان نوصل واحد منهم لرئاسة البلاد؟".

للأسف لن ينشغل الكثيرون بالتفكير في أسئلتك، بقدر انشغالهم بمحاولة إسكاتك، فأبناء الشعب الذي اخترع المثل العبقري "كدب متساوي ولا صدق مجعرف"، لم يعد يزعج أغلبهم جعرفة الكذب واهتراؤه وبؤسه، ولم يعودوا يطلبون حتى تجويد بضاعة الكذب التي تقدم لهم لكي تعيش أطول، فخوف الغلابة منهم من المجهول جعلهم يوافقون على الكذب "المجعرف" ردئ السبك لكي يبرروا لأنفسهم سكوتهم على الظلم والهرتلة والعشوائية وإهدار كرامة الإنسان، أما قساة القلوب منهم فهم لا يحتاجون أصلا إلى مقياس لجودة الكذب، ولذلك أصبحت تجدهم متقلبين بين الكذبة ونقيضها في نفس اللحظة بقلب ميت، بل إنهم لم يعودوا محتاجين إلى أن تُنتج لهم الأكاذيب لكي يستهلكوها، فقد باتوا قادرين تلقائيا على إنتاجها وتطويرها وتفريخها وتعليم تلك المهارات لأنجالهم وأحفادهم.  

...

ـ عندما تأتي اللحظة التي يعجز الحاكم الفرد فيها عن حل مشاكل المجتمع المعقدة، لأنه لم يلجأ إلى آليات تداول السلطة وتعزيز الحياة السياسية ودعم المجتمع المدني وضمان حرية التعبير والسعي لإدماج الأقليات في المجتمع ونشر الوعي السياسي والحقوقي بين المواطنين، تحل حينها لحظة الإنفجار سواءا كان ذلك بسبب ثورة شعبية أو بعد كارثة طبيعية مفزعة أو بسبب حماقة سياسية تجلب عدوانا خارجيا كاسحا، وعندها يظهر على السطح كل ما كان كامنا تحته من بلاوي، يندهش الناس مما يرونه سائلين أنفسهم من أين جاء، متناسين أنه لم يهبط عليهم من السماء، بل كان نتيجة ما جنوه على أنفسهم من طرمخة على الظلم الذي يظنون أن عاقبته لن تصيبهم أبدا، وموافقتهم على أن يحظى الحاكم بسلطات شبه إلهية تمنعه من النقد وتحصنه ليس من السخرية بل ومن الدعاء أيضا، وانزعاجهم من كل ما يصيب الحاكم من سخرية أو تطاول، في حين يتسامحون مع كل ما يقوم به أنصار الحاكم من خوض في الأعراض وطعن في الذمم وتخوين وتكفير ولا يجدون مشكلة في كل ما يقوم به هو من سوء، بل تنحصر مشكلتهم في أن يذكره أحد بسوء.

ولكي أكون صادقاً مع نفسي، دعني أؤكد إدراكي أن مشكلة أمثالي من الذين يؤمنون بخطورة ما يحدث في مصر الآن، أننا نحاول التعبير عن مخاوفنا في وسط لحظة غرامية ملتهبة بين القائد وجموعه الحاشدة، هم يستعدون لسحق من يدوس له على طرف، وهو لا يبخل عليهم بمعسول الكلام والتحية العسكرية، وليس عليك في ظروف عاطفية كهذه إلا أن تحاول تذكير من استطعت بأن علاقة الحاكم بالشعب إذا تحولت إلى علاقة غرامية لا حساب فيها ولا رقابة، فإنها تنتهي دائما بنهايات تهون إلى جوارها نهايات الفواجع الغرامية. ومن السهل طبعا أن يلجأ الإنسان في ظروف كهذه إلى الإكتفاء بترديد ما يقوله المتفرجون على قصص الغرام الملتهبة: "بكره نقعد عالحيطة ونسمع الزيطة"، لكن هذا النوع من الزيطة يدفع الجميع ثمنه، ولذلك يحاول "الشخص" منا أن يقول ما عنده، ثم يسأل الله السلامة داعيا بدعاء السابقين "يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف"، قبل أن يمنعوه هو "راخر" باعتباره ترويجا للخوف واستعانة بقوى خفية.

...

ـ في ظل مناخ فاشي هستيري لا يوجد أمل في أن تقنع من حولك بأن كل ما يحدث يؤكد أن السلطة القمعية تصنع لنفسها كل يوم بغبائها مأزقا جديدا وعدوا شرسا، لأن البعض سيظنك متفائلا والعياذ بالله، وسيصرخ في وجهك إن كان مهذبا صرخة محمود عبد العزيز الشهيرة "يا عم باقولك أنا مش أنا.. صدق العليل ولا تصدق التحاليل"، لذلك لا تحاول عندما ينعي لك ثائر ثورته أن تواسيه مثلا بعبارة المفكرة روزا لوكسمبورج الرائعة: "الثورة هي شكل الحرب الوحيد الذي لا يأتي النصر فيه إلا عبر سلسلة من الهزائم"، فكثيرا ما يكون الشعور باليأس أكثر راحة للنفس البشرية من تحفيزها على الصمود حتى يتحقق نصر غير مضمون الموعد.  

ستتبدد حتما سكرة نصر راكبي السلطة الموهومين، ليجدوا أنفسهم مطالبين بتقديم حلول لمشاكل الواقع التي تسببت أصلا في اندلاع الثورة، وعندها لن تنفعهم رطرطة الكلام عن المؤامرات الدولية والثوار الملاعين، لأن الناس يمكن أن تأكل الأونطة، لكنها لا يمكن أن تعيش عليها إلى الأبد، وحتى يحدث ذلك سيبقى ما يشعر به أي ثائر من مشاعر المرارة والحزن أمرا يخصه وحده، وربما حمل له بعض العزاء إدراكه أن نهر الثورة لم تفجره إلا مطالب شعبية، ولذلك، مهما تم تحويله ليصب في مصلحة مؤسسات الدولة الفاسدة، أو وضعوا سدودا قمعية لتمنع تدفقه، فإن الوسيلة الوحيدة للسيطرة على نهر الثورة، ستكون بإيقاف الأسباب التي فجرته منذ البداية، والتي يمكن أيضا أن تجدد ثورته في أي وقت.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.